كينزابورو أُوي: نهاية ثأر شخصي مع الموت

Wednesday 22nd of March 2023 12:50:42 AM ,
5394 (منارات) (نسخة الكترونية)
منارات ,

عائشة بلحاج

ولد هيراكي أُوّي عام 1963 بفتقٍ دماغي. وظلّ بعض الوقت معلّقاً بين الحياة والموت، حاملاً ظلّ حياةٍ تعيسة لأبويه، اللّذين سيكون عليهما رعايته إلى آخر حياته، هو الذي قال الأطباء إنّه أقرب إلى شكلٍ نباتي منه إلى إنسان. استغرق هيراكي بعض الوقت ليستحقّ الحقّ في الحياة،

في نظر والده، ويفرض وجوده. هذا الحيز الزّمني الصعب، كتبه الأب وأعاد كتابته بأشكال مختلفة، في رواياته وكتبه. لتشكّل هذه التّجربة الأسطورة الشّخصية للروائي الياباني كينزابورو أُوي، الذي رحل قبل أيام، بعد عطاءٍ مذهلٍ للأدب، جعل فيه من مأساة ابنه محوراً أساسياً لكتبه التي تبحث في جوهر الإنسان وحقيقته. انطلاقا من روايته "مسألة شخصية"، التي كتبها عام 1964، بعد عام من ولادة هيراكي، وقد خصّصها كاملة للحظة معرفة طبيعة الولد الذي رُزق به. ومرورا بروايته الأشهر "الصرخة الصامتة" التي منحته جائزة نوبل للآداب عام 1995.

في كتاباته عن مأساته الأبويّة، لا يتّخذ كينزابورو مظهر مُحلّل نفسي، ولا تملؤه العواطف الجيّاشة التي تغمر قارئه بالأسى فقط. بل تشعر، أنت القارئ، أنّه يهرُب منها، فكم من حاجة قضيناها بإهمالها. في رواية "مسألة شخصية" (أو "هموم شخصية" في ترجمة أخرى)، ينتقل الأب الجديد (بيرد) من العيادة إلى مكتب حَميه، إلى المستشفى، إلى بيت صديقته ليشرب وينسى، مستسلماً لقدره. إذ لا فائدة من التذكّر، ولا حلّ للأزمة، بل إنّ أفضل ما يمكن هو تفادي المواجهة، والهروب من الهواجس، فيضع نفسه رهن تيار اللّحظة، مُنكراً مشاعره تجاه زوجته، أو طفله "ذلك الشكل النباتي" كما وصفه أحد الأطباء.

يُذكّرنا أُوّي في هذه الرّواية بـ"الغريب" لكامو، حيث لا سبب منطقيا لوقوع الأشياء، ولا مفرّ منها، فليس هناك سوى نداء حارّ للموت، ليُخلّص النّبتة ووالديها. وهو شعورٌ معاكسٌ للطبيعي، حيث يتمنّى الوالد أن يعيش أبناؤه أبد الدهر. لكنّه ولد غير "طبيعي"، ولن تنشأ في وجوده إلا مشاعر غير طبيعية. أراد الأب أن يقتل ابنه، كما كاد يقتل نفسَه في "الصرخة الصامتة". كأنه لم يجد حليفاً للنجاة مما حلّ به من بلاء، سوى الموت. لكن الموت هنا غير معنيٍّ بهذا الحلف، فتجاهله، لينشأ ما يمكن وصفه بالثأر بين الموت والأب.

ولكن على عكس كامو، لم يغيّب أُوي السّبب الحقيقي للحدث الذي قلَب حياته، وهو الكارثة النووية التي أصابت بلاده. حتّى وهو منشغلٌ بمصيبته الخاصة، مكرّراً للآخرين أنه غير معنيٍّ بارتماء العالم في حضن الأسلحة النّووية. لكنّه كان يبعث في القارئ قلقا متناميا، وهو الذي يعرف أن القنبلة النووية التي أَخضعت اليابان في الحرب العالمية الثانية هي ما أدّى إلى تشوّهات الأجنة، كما حدث معه. ويُذكّره باستمرار بأن مصائبنا الفردية جزءٌ من مصيبة كبرى وعامة.

المؤلم في روايتي "مسألة شخصية" و"الصرخة الصامتة" ليس شرح الألم، بل الهروب منه وتفاديه، والدخول في حالة إنكار. لكن كينزابورو لم يفرّ في الواقع، بل كتب روايتين هائلتين عن مصيبته. ماذا يقصد بذلك؟ هل هو العزاء؟ أن يقدّم للعالم لمحةً من الحياة مع آثار الهوس الأعمى بالأسلحة النووية؟ وربما أراد فقط أن يمنح صمتَه شرعية، بأن يشرح لمن حوله إنه لم يهرُب، فها هو الألم يجري على مئات الصفحات، شاهداً على احتراقه الدّاخلي.

ولكن هروب الأب في "الصرخة الصامتة" يكتسي بعداً ملحميا أكثر، فبدل أن يسعى إلى موت ابنه، قرّر الانتحار. وهو هروبٌ آخر يراه أنسب، بعد أن عاد إلى بيته، بـ"الشكل النباتي"، الذي اتخذ مكانه في البيت، فردا في عائلته الصغيرة، فلا يتوقّف عن تخيّل انتحاره. لكن الفكرة ظلّت هاجساً طارده كل يوم، من دون أن يجد له مكانا في التنفيذ.

من الممكن أن نقول عن الاتجاه الذي بدأه كينزابورو في الأدب إنه أدب المأزق الإنساني. وطالما لا تتوقّف الحياة عن وضع الإنسان في المآزق، أو لا يتوقّف هو عن وضع نفسه والآخرين في مآزق، سيساعده الأدب في الفهم، والسّفر في اللَّحظة الواحدة، وكشفها وتقشيرها، لعله يفهم شيئاً مما يحدُث حوله، وما فعله بنفسه.

· عن العربي الجديد