من إصدارات المدى.. حيــاة البيرونــي

Wednesday 29th of March 2023 12:21:40 AM ,
5399 (منارات) (نسخة الكترونية)
منارات ,

قراءة: فريدة الأنصاري

نتيجة لظروفنا الثقافية التي نمر بها في المرحلة الحالية ونتيجة للخطر الثقافي الزاحف علينا من الخارج، اختلفت وجهات نظر المثقفين حول أهمية التراث في حياتنا الثقافية والفكرية.

فالبعض منهم يرى بأنه يشكل عبئا ثقيلاً يقف في وجه التيارات الفكرية الحديثة وما يسمى بالحداثة، والبعض الآخر يجد فيه جزءاً اساسيا في تكويننا الثقافي والفكري، وليس هناك ما يدعو الى الانقطاع عن جذورنا، وأن دراسته تساعد على تطوير واقعنا الثقافي وربطه بالحركات.

وقد دأبت مؤسسة المدى على طبع الدراسات ذات القراءات الجديدة لتراثنا انطلاقا من ايمانها بأهمية التراث واعتبار الثقافة وحدة كلية متكاملة وعملية مستمرة ومتصلة عبر العصور، رغم ما يحدث على بعض مظاهرها من تغيير واختلاف وما يستجد عليها من إضافات واستعارات من ثقافات اخرى تزيد ثقافتنا ثراءً.

والكتاب الذي بين ايدينا واحد من تلك الكتب التي تولت دار المدى طبعها لشخصيات تراثية بقراءات ة جديدة ألا وهو المؤرخ والفيلسوف والعالم الرياضي والفلكي أبو الريحان البيروني.

و تحت عنوان (حياة البيروني) يلقي الأستاذ محمد عبد الحميد الحمد الضوء على حياة هذا العالم الجليل من خلال دراسة مؤلفاته الفلكية والجغرافية والفلسفية ومنهجه في كتابة التاريخ.مؤكدا بان الغالب على عقلية البيروني كان طابع العلم الرياضي الفلسفي وهو أقرب الى أبيقور من بطليموس ولم يمارس العمل السياسي بخلاف ابن سينا وانه متأثر بسيرة أبي بكر الرازي وهذا ما سيجده القارئ في فصول الكتاب الستة:

الفصل الأول من الكتاب يتناول فيه حياته واهم أحداث عصره فيطلعنا على تاريخ الدولة الغزنوية والعلاقة بين البيروني وبين السلطان محمود، ومن ثم خليفته السلطان مسعود. وقبل ان ينتقل الى الفصل الثاني من الكتاب يقدم لنا فهرسا بالكتب التي الفها البيروني فيبين كيف وقف البيروني منذ نعومة اظفاره على دراسة كتب من سبقه من العلماء مثل الفزاري ويعقوب بن طارق الخوارزمي والكندي وأبو معشر والجيهاني وكان لا يترك يوما من غير ان يقرأ ويدون ملاحظاته،وكتب ما لا يقل عن خمسة عشر كتابا ورسالة في موضوعات كثيرة مثل: - (القانون المسعودي)الذي نجد فيه اهم انجازاته في علم الفلك و(الآثار الباقية عن القرون الخالية) و(تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة)وتمكن من قياس وتحديد خطوط الطول والعرض وإيجاد ابعاد الكعبة وتمكن ايضا ًمن وضع قوانين رياضية كقانون الاستكمال أو افناء الفرق قبل ان يكتشفه نيوتن وهذا ما يبحثه في الفصل الثاني من الكتاب.

في الفصل الثالث (البيروني المنجم) يعرض لنا مبادئ علم التنجيم كحرفة قديمة لجأ اليها الملوك والعامة لتدبير امورهم السياسية والاجتماعية متوصلاً الى رأي مفاده بان البيروني كان مؤمنا بعلم الأحكام ويقيم علم التنجيم لا العرافة، مفندا آراء بعض الباحثين ممن نفوا ايمانه بالتنجيم.مبينا كيف انه لتبحره في علم الفلك طرح العديد من الفرضيات حول ماهية السنة والشهر واليوم عند الأمم.

وعندما اقدم البيروني على كتابة التاريخ وضع لنفسه منهجا علميا لا يقوم على سرد الأحداث والنقل على من سبقه من المؤرخين بل تجاوزهم بالتحليل والتمحيص فبحث عن الأسباب وتتبع النتائج بعيدا عن التعصب والمذهبية.فتحت عنوان ابو الريحان المؤرخ الثقة يبحث في الفصل الرابع منهج البيروني التاريخي مبينا كيف استفاد من منهجه ابن خلدون عند كتابة مقدمته. وفي هذا الفصل يطلعنا البيروني على المانوية وقصة اصحاب الكهف والطوفان وفق ما جاءت في التوراة والإنجيل موضحاً اختلافهم عما جاء في القرآن. ومن الروايات التي تثبت منهجية البيروني في تدوين الحوادث وعدم انحيازه الى هذه الفئة أو تلك ما ذكره عن يوم عاشوراء.

الفصل الخامس من الكتاب جاء بعنوان (أبو الريحان الجغرافي) يعرض فيه أعمال البيروني في الجغرافية البشرية الوصفية وخاصة كتابه تحديد نهايات الأماكن الذي وضعه في بلاط محمود الغزنوي، وتحت ظروف صعبة.فيوضح كيف شرح البيروني أثر الوسط الجغرافي على الإنسان، تلك الشروح التي وضعته في صف عباقرة زمانه. وفي هذا السياق يلقي الضوء على اعماله في الجغرافية الفلكية ليختم الفصل بتتبع تاريخ صناعة الخرائط في الحضارات القديمة في بلاد الرافدين ومصر حتى عصر البيروني مبينا الأهداف العامة لصنع الخرائط التي حددها البيروني والأساس والمصدر التي اعتمدها وأولها كتاب بطليموس.

الفصل الأخير من الكتاب (الفلسفة عند البيروني) تناول فيه ماهية الفلسفة وأقسامها الثلاثة: العلم الإلهي"ما وراء الطبيعة"وفيه عرض البيروني من منطلق فلسفي صفات الخالق وخلقه للعالم والنفس. واختلافه عن ابن سينا فالذي قال"كل موجود فهو واجب الوجود، وأما ممكن الوجود، ولا ثالث لهذين الضربين من الوجود ولما كان الممكن الوجود لا بد ان تتقدم عليه علة تخرجه الى الوجود"ومن ثم عرض فلسفته عن الطبيعة وعن الصورة والمكان وحركة الأرض والزمان، فالطبيعة هي العالم المحيط بنا وهي موجودة خارج وعينا ومستقلة عنه وهي غير متناهية في الزمان والمكان وهكذا يمضي الأستاذ محمد عبد الحميد في شرح فلسفة الطبيعة عند البيروني موضحا اوجه الخلاف مع أرسطو و ابن سينا وفي القسم الثالث عرض فلسفته في المنهج التاريخي والقضاء والقدر والقوة التي تحرك التاريخ والبشر فيبين كيف طالب البيروني ان يبعد البشر عن عقولهم جميع العوامل التي تؤدي بنا الى الزلل وذلك بالتحرر من التقاليد التي تعمينا عن رؤية الحقيقة التاريخية، وان نكبت رغباتنا ودوافعنا الشخصية وان اخبار الامم السالفة قد دخلها العبث والفساد مما يتوجب تحكيم العقل ورفض ما يناقضه لأن طبائع الأشياء تجري على سنن معلومة وفي هذا الصدد يبحث الأستاذ محمد عبد الحميد ثلاث كتب من كتبه التاريخية (كتاب الآثار الباقية، كتاب تحديد نهايات الأملكن، وكتاب في تحقيق ما للهند من مقولة في العقل مقبولة أو مرذولة) مبينا اسلوبه في كتابة كل منهم.

من قراءة هذا الكتاب يمكننا القول بأن المؤلف قدم قراءة جديدة لكتابات قديمة وشخصية تعد سيرته وأفكاره ومنهجه أعظم انجاز لتفخر به الحضارة العربية الإسلامية وان مكتباتنا العلمية بحاجة الى مثل هذه الدراسات