عاشقة الورق

Wednesday 29th of March 2023 08:05:51 PM ,
5400 (عراقيون) (نسخة الكترونية)
عراقيون ,

زهير الجبوري

لَمْ تَكُنِ الأستاذة الراحلة ابتسام عبد الله مجرد أديبة أو إعلامية عراقية حسب، إنما تعدُّ من أهمّ الأسماء النسائية، التي حققت حضوراً ثقافياً وفكرياً في سنوات كانت فيها الثقافة العراقية تعيش نشوتها، فهي علامة فارقة وبارزة من بين قريناتها، واستطاعت أن تصبح المثقفة المتفردة، التي تحاور الأسماء الثقافية في برنامج خاص بها (سيرة وذكريات) في مرحلة العقد السبعيني،

وعلى الرغم من اشتغالها في مجال الترجمة وامتلاكها لغة اخرى، فقد أفادت لنفسها الاطلاع على ثقافة أخرى، ما مهد لها أن تكون مُحاوِرَة ممتلئة في معلومتها، بل كانت تطرح العديد من الأسئلة التي تُنبأ عن وجود فكر له مرجعيات معرفية منضبطة، فضلاً عن كونها تحمل (كاريزما) الشكل وطريقة الكلام و(اتكيت) الحوار والحديث في الميدان المعرفي، وفي تلك الفترة كان لها التأثير المباشر لدى المتلقي، فمن خلال مناقشاتها يشعر الآخر أنّه يتصفح كتابا معرفيا، وربما قبولها الشخصي ترتب عليها هذا الحضور، واستطاع أن يشكل عندها نقطة الإبداع في تلك الفترة التي توصف بالذهبية.

إبتسام عبد الله، عاشقة الورق، وصديقة القلم، وملهمة الفكر، وهذا ما جعلها واحدة من الأسماء المعروفة في العمل الصحفي منذ عملها في صحيفة الجمهورية، مرورا بمجلة (ألف باء) و(الثقافة الأجنبية)، منذ عقود الى فترة اشتغالها في صحيفة المدى العراقية، فضلاً عن الإذاعة والتلفزيون وغيرها من محطات العمل الإعلامي، وكانت الخطوة المهمة في مسيرتها الترجمية ايضا، حيث تنطوي في ترجمتها لمذكرات المناضلة الأميركية (انجيلا ديفس) على قدر كبير من الحرفة، ربما لأنها تنطلق من الحماس الأيديولوجي، الذي أعجبها في هذه المناضلة، ما أعطى الفسحة الكبيرة لهذا الاشتغال الحساس، وكذلك ترجمة مذكرات (ميكسيس ثيودور أكيس)، وجلّ ما تنحاز إليه يأتي في إطار في الموضوعات النسوية والسياسية والاجتماعية.

أما ما قدمته الراحلة القديرة في مجال إبداعها الأدبي، انحسر في ميدان السرد الروائي والقصصي، ومهما كانت الموضوعات التي كتبتها وما انطوت عليه من أهمية، إلّا أن اشتغالها في ميدان الإعلام المرئي والورقي أثر الى حدٍ كبير في هذا الموضوع، لتتقاسم شخصيتها الأبداعية في معادل موضوعي للطرفين، ومع كل ذلك وبرغم كتابتها للرواية ودخولها لعالم الأدب، عن طريق هذا الّلون من الكتابة (بحسب علمي)، إلّا أنها أحسّت إحساسا موجعا لمرحلة العقد التسعيني، حين أدركت انعكاس الحصار وحياته الموجعة، هو بحد ذاته مسألة كبيرة تستوجب الوقوف عنده وجعلها قضية (سوسيو ثقافية)، لا بدَّ من الدخول في طياته والاشتغال عليه في الكتابة، فكانت القصص التي كتبتها تمثل جزءاً من هذه المرحلة، على الرغم من واقعياتها ومضمونها التعبوي، منها المجموعة (مطر أسود) على وجه التحديد، وكذلك روايتها (بلاد ما بين النهرين)، وغيرها من الإصدارات..

كانت لي مع المبدعة القديرة الراحلة ابتسام عبد الله لقاءات سريعة، عندما كنت أزور صحيفة المدى التي عملت فيها لسنوات، كانت أناقة حديثها وملبسها وطبيعة سلوكها الهادئ يكشف عن أنها كائن صنعته الثقافة الحقيقية، حتى عندما طلبت منها أن تهدي لي آخر إصدار لها ابتسمت وقالت هذا يسعدني أنت جيل من الأدباء الشباب المواظبين على ملاحقة الإبداع، رغم قسوة الحياة العراقية، رحم الله هذه المبدعة، فهي امتدادٌ لأسماء عراقية نسائية كبيرة تربينا على متابعتها كنازك الملائكة ولميعة عباس عمارة ولطفية الدليمي، وغيرهن.