من تاريخ بناية معهد الدراسات الموسيقية

Wednesday 12th of April 2023 11:59:21 PM ,
5410 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

رفعة عبد الرزاق محمد

تضم منطقة السنك العديد من المعالم البغدادية القديمة، ولعل بناية معهد الدراسات الموسيقية من أهم هذه المعالم، فهي من ابنية القرن التاسع عشر، وجديرة بالاحياء والتجديد، ومن الجميل ان اعلم في الايام الاخيرة ان جهدا مشتركا يقوم في الايام المقبلة بعملية الاحياء والتجديد لهذه البناية الجميلة، وهذا يستدعي الحديث عن لمحات من تاريخها..

قبل منتصف القرن التاسع عشر لا توجد اشارات واضحة الى ان تلك الارض كانت تضم ابنية كبيرة، الا انها سميت بمنطقة السنك، وهي كلمة تركية تعني الذباب، ويبدو انها تميزت بذبابها الكثير، في الوقت نفسه الذي تشير بعض المدونات الى ان هذه المنطقة ضمت عدد من مدابغ الجلود، وكانت تلك المدابغ تفتح في اماكن غير سكنية او شعبية نسبيا، لان الجلود كانت تعامل وفق اساليب بدائية تجمع في مواضعها الذباب وسائر الحشرات الناقلة للامراض ومنها ما يسمى بحبة بغداد، التي كانت تشوه وجوه الناس، ولا يسلم اي من العاملين بالمدابغ او القريبين منها من هذا المرض، وكثيرا ما يكون المثل في هذا اهالي الاعظمية الذين كانوا الى سنوات قريبة بسبب وجود المدابغ في منطقتهم مبتلين بحبة بغداد وقلما ينجو منه احد، وتدعى لدى العوام بـ (الأخت).

كما توجد اشارات الى ان المنطقة كانت تسمى قبل تسميتها بالسنك باسم محلة الشط، ولعل هذه التسمية جاءت لشاطئية المنطقة وقربها من دجلة.

في عام 1251هـ ـ 1836م، استقرت في بغداد احدى الشخصيات الهندية الكبيرة وهو الاميراقبال الدولة النواب، بعد نزوحه من الهند لخلاف وقع مع السلطات البريطانية فيها. يقول عباس العزاوي: وهذا الامير من امراء الهند ويسمى النواب سر اقبال الدولة ابن النواب شمس الدين خان، وهم ملوك بنارس وكان ابن عمه واجد علي شاه ملكا على العاصمة لكناهور والقطر التابع لها، فحارب واجد هذا الانكليز فانتصروا عليه واعتقلوه في كلكتا.. واخرجوا اقبال الدولة من الهند.. وكان قد تمكن اقبال الدولة في العراق وسكن بغداد سنة 1251هـ. وقد جلب معه الى بغداد ثروة عظيمة تعددت الروايات في مبلغها الضخم، فسكن الكاظمية اولا ثم انتقل الى الكرادة الشرقية حتى شيد قصرا كبيرا في منطقة السنك مطلا على نهر دجلة، وكان القصر مكونا من ثلاثة اقسام كبيرة، الاول المطل على دجلة كان من طابقين كبيرين، والثاني (بيت العائلة) وهو الاوسط، والثالث كان يمتد الى نحو خمسين مترا شرقا، حتى كان يضم الارض التي شيدت عليها دائرة البريد المركزي في بغداد. وقد نقض القسم الاخير من القصر عند شق شارع الرشيد في عهد الوالي ناظم باشا عام 1910 واكمل النقض الوالي خليل باشا عام 1916. وكان اقبال الدولة لما شعر بدنو اجله انتقل الى بلدة الكاظمية وله فيها املاك واسعة واستقر في بيت له في محلة القطانة وتوفي فيها يوم الاثنين 21 كانون الاول 1887. وبعد وفاته سيطرت بريطانيا على ممتلكاته وما يجري عليه، واصبح المقيم البريطاني في بغداد قيما عليها، لتبعية اقبال الدولة البريطانية. ويجد الذكر ان اقبال الدولة هو رأس الاسرة البغدادية الكريمة (اسرة النواب) التي برز منها عدد من الشخصيات المرموقة.

في اوائل القرن العشرين عرضت البناية كاملة للبيع، وتقدم عدد من اثرياء بغداد الى مزايدة البيع الا ان المقيم البريطاني ببغداد طعن في شرعية البيع واحتج بان البناية عائدة للممتلكات الانكليزية فتوقفت المزايدة التي كادت ترسو عند التاجر الكبير عبد القادر دلة بمبلغ 8 الاف ليرة، ومع هذا فقد ذكرت بعض المدونات ان الحكومة البريطانية اشترت دار النواب سنة 1903 وجعلتها مقرا للمقيمية البريطانية في بغداد التي كانت تسمى الباليوز. (كانت المقيمية البريطانية قبل هذا في بيت يقع قبالة جامع الخاصكي ثم في بناية اصبحت اوتيل عبد الاحد في اوائل العشرينيات ثم انتقلت الى قصر النواب سنة 1904). اصبحت البناية في القرن العشرين من اشهر البنايات المطلة على دجلة، وكان العلم البريطاني يرفرف عاليا عليها، ويقف امامها زورق بريطاني جميل يدعى (كوميت)، ولما اندلعت الحرب العالمية الاولى واحتلت القوات البريطانية بغداد في اذار 1917، اصبحت البناية مقرا للقيادة البريطانية في العراق (القيادة السياسية والعسكرية)، واستمر الامر الى سنة 1919 حين اشترت الحكومة البريطانية المحتلة بيت كاظم باشا في الجانب الاخر من النهر في محلة الكريمات وجعلته مقرا لها، واصبح مقر المندوب السامي البريطاني في العراق ثم اصبح السفارة البريطانية ولم يزل.

اما بيت النواب فقد عرضته الحكومة البريطانية للبيع عام 1920، فاشترته الحكومة العراقية المؤقتة واتخذته لدائرة الكمارك والمكوس التي كانت تشغل قبل هذا موقعا في بقايا المدرسة المستنصرية، واستمر الامر بهذا الشكل الى منتصف الستينيات حيث انتقلت ملكيته الى الدوائر الاثرية، وشغلته بعد هذا دائرة المصايف والسياحة، ويتذكر الكثيرون ان امام هذه الدائرة كان زورق سياحي جميل للغاية يرسو امامها ويقوم بجولات سياحية في نهر دجلة لكبار الشخصيات في مناسبات مختلفة. وفي عام 1972 جعلت منه وزارة الثقافة متحفا للازياء والماثورات الشعبية ومتحفا لمخلفات العائلة المالكة في العراق. واتذكر من مديري المتحف الاستاذ سالم الالوسي والسيدة ساجدة العزي. ثم اصبح مقرا لمعهد الدراسات الموسيقية في منتصف ثمانينيات القرن الماضي.

والبناية الحالية لمعهد الدراسات الموسيقية، وهي القسم الاوسط من دار اقبال الدولة، خليط لعدة توجهات معمارية كانت سائدة في اواخر القرن التاسع عشر، فالبناية وان حافظت على مرتكزات البيت البغدادي التقليدي، فانها استخدمت وسائل بناء غير تقليدية يومذاك. في وسط صحن الدار نافورة جميلة وفي السنوات الاخيرة وضع في مكانها تمثال يمثل الموسيقى او شيء من هذا. ومن الداخل فان البناء يمثل بشكل عام البيت البغدادي التقليدي: الحوش والغرف التي تحيط بالحوش والطارمة باعمدة الخشب، فضلا عن الطابق الثاني بطارمته الواسعة التي تطل على حوش البيت بشرفة جميلة، اضافة الى السلم المدور الذي يرتقى به الى الطابق الثاني.