من ذكريات مدير شرطة في بغداد

Monday 17th of April 2023 12:55:02 AM ,
5412 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

الفريق عبد الجبار الراوي

عندما التحقت بوظيفة معاون مدير شرطة لواء بغداد في الكرخ في 17 تشرين الاول 1926،كنت احرص ان احضر بنفسي التحقيق في جميع جرائم الجنايات التي تحدث في منطقتي، اذ كنت مخولا سلطة محقق، وكنت انظم بنفسي ايضا التقارير الخاصة بالجرائم التي تحدث،

اذ كان هدفي وحرصي منصبين على استتباب الأمن، وذلك بمراقبة الدوريات، والتحقيقات، والقائمين بها ليلا ونهارا، لانني كنت وما زلت اعتقد ان قطع دابر الجرائم، يتوقف بالدرجة الاولى على صدق الموظفين المباشرين للتحقيق واخلاصهم.

كان للموظفين البريطانيين في هذا الدور، نفوذ وسلطة كبيرة. فقد كان في مقر مديرية شرطة لواء بغداد ضابطا تفتيش بريطانيان، هما: (ميجر بتلر) و(كابتن كنس). وكان الضباط العراقيون، ومدير شرطة اللواء، يتهيبون منهما، ويحسبون لهما حسابا، وهما تابعان لمفتش الشرطة العام (كولونيل برسكوت) صاحب النفوذ والسلطة في مديرية الشرطة العامة، وهو يستمد سلطته من (كنهان كورنوالس) مستشار وزارة الداخلية المسيطرة عليها، ومع ذلك كان مدير الشرطة العام الحاج سليم يقف بوجه (كولونيل برسكوت) بقوة ويتصدى لنفوذه.وكان في مركز شرطة السراي عريف بريطاني يدعى (سارجنت دين)، ومفوض هندي يدعى (واجه)، وكان (واجه) يقوم بتعليم المفوضين الذين يعينون حديثا في غرفة تقع فوق سطح مديرية شرطة بغداد.

مشكلة مامور مركز شرطة الكرخ

تبين لي بوضوح، من تحقيقاتي، ان مأمور مركز شرطة الكرخ توفيق له علاقة بالسراق، وهو متفق معهم في السرقات، وحين يتولى التحقيق يكشف طرقا من القضية على نحو يبقي معه الفاعل مجهولا، ويظهر قسما من المسروقات فقط، ويبقي المهم منها مكتوما، فيأخذ من اللصوص نصيبه، وينال من رؤسائه الشكر والاكرام المادي على كشفه السرقة. وقد تمكنت ان اثبت ذلك في قضية خاصة، بالرغم من الصعوبات التي صادفتها، وسجلت القضية ضده. فلما علم بالامر، راجع صابطي التفتيش البريطانيين، اللذين كانت له علاقة بهما، فاسرا في اذن المدير ان يعترض على اجراءاتي بلزوم اخذ موافقته اولا، قبل تسجيل القضية ضد المفوض توفيق. فلم التفت الى اعتراض المدير، بعد ان بينت له ان تسجيل الدعاوى ضد اي انسان كان، لا يستدعي اذنا. وبقيت المجادلة التحريرية بيني وبين المدير الى ان انهيت التحقيق، ورفعت الاوراق اليه طالبا محاكمة مامور المركز، لأن الادلة كانت كافية لإدانته. لكن هذا الاصرار مني ادى الى نقلي الى شرطة لواء ديالى، تخلصا مني، بغية انقاذ مامور المركز من المحاكمة، مسايرة لضابطي التفتيش البريطانيين اللذين يحميانه. وبعد ان نقلت الى لواء ديالى في 24 ايار 1927، جاء مدير الشرطة العام الحاج سليم الى بعقوبا للتفتيش، فقال لي: لقد عاقبنا المفوض توفيق بتنزيل درجته وتغريمه غرامة نقدية، فهل يرضيك ذلك؟ فقلت له. كنت افضل ان يساق الى المحكمة لكي تبرهن الشرطة بوضوح انها لا تتستر على عيوب المنتسبين اليها، ولكي يكون هذا الاجراء رادعا للاخرين الذين تحدثهم نفوسهم بالاساءة الى واجباتهم.

مديرية شرطة لواء بغداد

كان منصبي الاصلي هو معاون مدير الشرطة العام لشعبة الحركات، الا ان الوزارة طلبت مني في 25 ايلول 1935 ان اشغل منصب مدير شرطة لواء بغداد، فوجدت تشكيلات المديرية باقية على ما كانت عليه يوم كنت معاونا لمدير شرطة بغداد في الكرخ، مضافا اليها معاونية شرطة النقليات والمرور.

العدالة والأمان

وجدت في شرطة بغداد بعض الامور التي عددتها مخالفة للعدالة، اذ كان "المشبوهون" بالسرقات يحتجزون في المراكز ليلا، خوفا من ارتكابهم السرقة. فلم اقتنع بهذا الاجراء المقيد للحرية والمخالف للعدالة، فالشخص اما ان يكون بريئا فتترك له حريته، واما ان يثبت ارتكابه جرما ما، فيجب تقديمه الى المحاكمة.

لذلك ابطلت هذا الاجراء، وانشأت خفارة للمراكز، واخرى لمرابة الدوريات وجعلت الدوريات والحراس مسؤولين عن حوادث السرقة باعتبارهم اما شركاء في الجريمة، واما مهملين لواجباتهم، وكنت كلما حدثت سرقة في منطقة ما، اطلب توقيف حراسها ودورياتها باعتبارهم مهملين لواجباتهم. وباتخاذ هاتين الخطوتين انعدمت السرقة تقريبا. والأمر الآخر الذي لم يوافقني فابطلته، هو قيام الشرطة، خلال الليل، بطرق ابواب الاشخاص المحكوم عليها بوضعهم تحت مراقبة الشرطة، ليظهروا مبرهنين وجودهم في الدار، وخاصة الاشخاص المحكومين بسبب قضايا وطنية بتاثير من النفوذ البريطاني في الدولة، مثل: ذيبان الغبان، ومحمد الجرجفجي. اذ لو لم يكن النفوذ البريطاني، لما اصبحت اعمالهم تعد رائم يعاقب عليها.

كان كل همي ان ينام الناس في بيوتهم مطمئنين ملء عيونهم، امنين.

طلب توقيف جورج نعيم

في احد الأيام، كلمني وزير الداخلية بالهاتف طالبا توقيف رجل اسمه جورج نعيم، فاجبته: من المفضل لو جاءني هذا الامر عن طريق متصرف لواء بغداد. فوافقني على ذلك. وبعد ساعة كلمني متصرف لواء بغداد طالبا مني توقيف الشخص ذاته، فطلبت ان يعزز الطلب تحريريا. فاجاب موافقا. وقد كنت اقصد ان اشعره بالمسؤولية المترتبة على طلب التوقيف الكيفي، لأن للتوقيف طرفا مألوفة. فلما وصل الكتاب، عرف المتصرف قصدي، فاوعز بسحبه وانا خارج الدائرة. وفي اليوم التالي كلمني وزير الداخلية غاضبا، مستفسرا عن سبب عدم توقيف جورج نعيم. وبعد ان افهمته السبب، بينت له ان هناك طرقا قانونية للتوقيف. وان التوقيف على هذا لشكل يمكن ان يجري في المناطق التي يطبق فيها نظام دعاوى العشائر، وليس في العاصمة، واضفت مستفسرا: ما سبب طلبكم توقيف جورج نعيم؟ فقال: انه متهم بكونه وسيط رشوة بين مدير الصحة العام وبطيخة اخوان، وقصدنا ان نقدمه الى المحكمة، وهو يريد ان يهرب الى ايران. فقلت له: ان سلوك الطريق القانوني هو الاصلح والاحسن. قال: كيف نمنعه من السفر؟ قلت له: انا اضمن ذلك، الا انني اريد معرفة كيفية ثبوت التهمة عليه؟ فقال: ان ذلك ثابت بقرار لجنة الانضباط العام. فقلت له: اصبح الامر هيناً، ساطلب من مديرية السفر تأخير معاملة جواز السفر لديها، ومن مديرية التحقيقات الجنائية مراقبته، وانتم زودوا المدعي العام بنسخة من قرار لجنة الانضباط العام لتقديمها الى الحاكم، (القاضي) لإصدار مذكرة بتوقيف جورج نعيم. وبهذه الطريقة حلت هذه المشكلة.

مديرية الشرطة العامة

شغلت منصب مدير الشرطة العام في 6 حزيران 1945 في ظروف صعبة، على اثر انهيار المانيا النازية واستسلامها للحلفاء في 8 ايار 1945، باعتبار ان العراق كان حليفا لبريطانيا في تلك الحرب.وبعد استقالة وزارة توفيق السويدي، خلفتها في الحكم وزارة ارشد العمري في 1 حزيران 1946. ومن خلال تنفيذ الواجبات الوظيفية المنوطة بي، كنت الاحظ صدور بعض الاوامر الجافة والشديدة من رئيس الوزراء شخصيا، فاجد صعوبة في تنفيذها.

واذكر من هذه الاوامر الحادثة الاتية: طلبني ارشد العمري، رئيس الوزراء، فقال لي: اريد ان تاتيني بمدير جريدة لواء الاستقلال (بالجلاليق). فعدت الى مقري، واتصلت بمدير شرطة لواء بغداد، مزاحم ماهر، فطلبت منه احضار مدير جريدة لواء الاستقلال، المحامي قاسم حمودي وتبليغه الذهاب الى رئيس الوزراء لمواجهته. وبعد ساعة من الزمن. اخبرني مدير الشرطة: ان مدير الجريدة حاضر عنده، وهو يرفض الذهاب الى رئيس الوزراء وكان علي ان ابلغه بامر رئيس الوزراء لاخذه بالقوة. ولكني طلبت منه ان يعطيه الهاتف لاتكلم معه. وقلت له: لماذا انت ممتنع عن مقابلة رئيس الوزراء؟ اجاب: اني منتسب الى حزب، ولا استطيع الذهاب الى رئيس الوزراء، الا بعد استئذان من الحزب. فاستفسرت منه عن المخول باعطاء الاذن، فقال: رئيس الحب، او امين السر. فقلت له: ارجو ان تبقى عند مدير الشرطة الى ان اكلمك، او يكلمك امين سر الحزب. واخذت افتش بالهاتف، عن داود السعدي، امين سر الحزب، فاستطعت ان اتصل به بعد ساعة من انتهاء الدوام الرسمين وقلت له: اكسر فتنة، وبلغ قاسم حمودي ان يواجه رئيس الوزراء، فاستجاب لطلبي.

استمرت امثال هذه الحالات تواجهني من جراء اوامر ارشد العمري الغليظة، واصبح من المتعذر علي الجمع بين مصالح الناس واوامر الحكومة. وبت اتوقع حصول مشكلات متعبة لي، او نقلي. وكما توقعت، فقد طلبني رئيس الوزراء، وبعد ان حرت لعنده، قال لي بلهجة موصلية: "عندنا قدغات نريد نشيلها على راس واحد غيرك"، اي: عندنا اثقال ومتاعب نريد ان نلقيها على احد غيركن فقلت له: يسرني ذلك. فقال باللهجة ذاتها: كوي اخاف اني تزعل، ولهذا حضرت لك وظيفة مدير السجون العام، او متصرف لواء ديالى، ولكن قل لي: ليش صرت مسرور؟" قلت له: اهل عانة، يقولولن: كلما قلت الشياطين تستريح الملائكة، وما ريده انا اجازة لمدة 120 يوما. قال: لا بد من وظيفة قلت: اذا كان لابد من وظيفة، فعمادة مدرسة الشرطة العالية. فاصدر امره الى مدير الداخلية العام بان يرتب الاجازة اولا، وامر النقل ثانيا، وهكذا نقلت من مديرية الشرطة العامة في 28 ايلول 1946 الى عمادة مدرسة الشرطة العالية.

عن مذكرات عبد الجبار الراوي