أندلس سلمى الخضراء الجيوسي

Tuesday 25th of April 2023 09:43:42 PM ,
5416 (منارات) (نسخة الكترونية)
منارات ,

محمد علاوة حاجي

بدأَت فكرةُ كتاب "الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس" (1992)، كما تُخبرنا مُحرِّرته سلمى الخضراء الجيوسي في مقدّمته، بينما كانت تجلس على منحدرات طليطلة، مع عدد من أصدقائها في إحدى سنوات الثمانينيات، وقرأ واحدٌ منهم قصيدةً لمحمّد إقبال عن مسجد قرطبة،

مترجَمةً إلى اللغة الإنكليزية. لكونها شاعرة مرهفة الحسّ (أصدرَت مجموعتها "العودة من النبع الحالم" سنة 1960)، ستستوقفها في قصيدة الشاعر الباكستاني فلسفةُ العشق التي "مسّت شيئاً عميقاً داخلي، وتحوّلت إلى حكمة أهتدي بها، ومبدأ أؤيّده وأستمدّ منه القوّة عندما تبدو الأشياء مستحيلة التحقّق".

كلمات محمّد إقبال، التي "لا تكمن روعتُها في قدرتها على استثارة دموع اللوعة والفراق، رغم أنّها كُتبت لاستحضار ذكرى عظمة الماضي، بل في قدرتها على استنهاض الإرادة وتأكيد الحياة والحضّ على البناء"، ستظلُّ تتردّد في أُذنَي سلمى وهي تقف في قاعة الصلاة الشاسعة بمسجد قرطبة، أو تتأمّل الرقش والمقرنصات على حيطان وسقوف "قصر الحمراء" في غرناطة.

في عام 1985، وبينما كانت الأشياء تبدو "مستحيلة التحقُّق"، ستنتبه سلمى، بنباهة الباحث صاحب الحس التاريخي، إلى أنّ سنوات قليلةً تفصل عن عام 1992، الذي سيتزامن مع مرور خمسمئة عام على سقوط الأندلس (1592)، وسيُعيد معه "ذكريات مختلفة لأربعة شعوب": مشاعر القهر والأسى بالنسبة إلى العرب، ونشوة الانتصار النهائي للإسبان، وفرحة "الاكتشاف" الذي غيّر وجه العاَلم للأميركيّين، وذكريات التهجير والشتات لليهود. تكتب: "كان هذا الإدراك المُفاجئ كافياً ليدفعني إلى مغامرة جديدة، فنهضتُ للعمل".

شرعَت سلمى الخضراء الجيوسي، مع مجموعة من أصدقائها الباحثين والدارسين والمترجمين في البلاد العربية وبريطانيا والولايات المتّحدة الأميركية، في الإعداد لعمل عن الحضارة الإسلامية في إسبانيا العصر الوسيط الأوروبي، وقد وضعوا نصب أعينهم إنجاز مجلَّد واحد على الأقلّ. لكنَّ عملاً موسوعيّاً بهذا الحجم يتطلّب، قبل كلّ ذلك، توفير دعم لتحقيقه. وهكذا، راحت تتّصل بمؤسَّسة عربية بعد أُخرى، تُفسّر معنى 1992، وتشرح ضرورة إصدار كتاب شامل عن "حضارة عظيمة وصلت في الأندلس إلى قمّة التمدُّن في العصور الوسطى".

بنبرة أسى، تستعيد سلمى خيبات تلك الرحلة؛ حيث كتبت في مقدّمة عملها: "تفاصيل هذا السعي الطويل تفاصيل أليمة لم تزل ذكراها، حتى بعد أن صدر الكتاب بالإنكليزية ونال نجاحاً لا يُضاهى، تحزّ في نفسي بقسوة ومرارة، لأنّها تُشير إلى أنّ ثمّة شيئاً سادراً، غافلاً، مضطرباً، مشوَّشاً في ثقافتنا العربية الراهنة التي ترضى، بصَمتها على العدوان الثقافي وعلى هيمنة الآخر الحضارية، أن تظلّ منسية مجهولة ‹مطروحة على هامش التاريخ›". الخبر الجيّد أنّ هذا السعي الطويل انتهى بتبنّي "صندوق الآغا خان للثقافة" للمشروع عام 1990.

صدر الكتابُ أخيراً عام 1992، وكانت النتيجةُ عملاً موسوعيّاً يُغطّي الجوانب الأساسية في الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، ويُبرز تراثها العريق، ويُضيء تأثيراتها الكبيرة. وكان مِن العوامل التي أسهمت في إنجاز المشروع (لحسن الحظّ كما تكتب الجيوسي) ظهور عدد كبير من الباحثين في إسبانيا والغرب خلال تلك السنوات "ممّن أدركوا الأهمّية الكبيرة لبروز الإسلام في العصر الوسيط وعلاقته بتواصل الحضارة البشرية". لقد قطع هؤلاء الباحثون النزيهون مع تجاهُلٍ استمرّ طويلاً لحضور العرب والمسلمين والمعرَّبين في إسبانيا خلال القرون الوسطى؛ تجاهُلٌ لا تتردّد الجيوسي في وصفه بـالجريمة التاريخية.

وهذه "الجريمة التاريخية" كانت مِن بين ما حاولت الجيوسي التصدّي له عبر مشروعٍ مؤسَّساتي بدأ أوّلاً عام 1980 بمؤسّسة "بروتا" التي ركّزت على الترجمة إلى الإنكليزية والتأليف بها، ثمّ رفدته "رابطةُ الشرق والغرب" التي وُلدت عام 1992 مع صدور الكتاب؛ فبالإضافة إلى إشاعة المعرفة الجديدة عن التراث العربي- الإسلامي، هدف المشروع إلى "تغيير المواقف والرؤى العامّة عن هذا التراث الضخم من الإنجاز الإبداعي والمعرفي"، و"التأكيد على وحدة الإبداع الإنساني وعدم قابليّته للتجزئة".

نُشر الكتاب باللغة الإنكليزية تحت عنوان "The Legacy of Muslim Spain"، ثمّ تُرجم لاحقاً إلى العربية وصدر عن "مركز دراسات الوحدة العربية" في بيروت عام 1998، وهو يتألّف من جزأَين: خُصّص أوّلُهما (قرابة 800 صفحة) لخمسة محاور؛ هي: التاريخ السياسي، والأقلّيات، والمدن الأندلسية، واللغة والشعر والأدب، والموسيقى، وثانيهما (قرابة ألف صفحة) لستّة محاور؛ هي: الفنّ والعمارة، والتاريخ الاجتماعي وأسلوب المعيشة، والتاريخ الاقتصادي، والفلسفة، والدراسات الدينية، والعلم والتكنولوجيا والزراعة. وبهذا، يُقدّم الكتابُ إضاءةً شاملة على فترة الوجود العربي الإسلامي في الأندلس التي استمرّت قرابة ثمانية قرون.

يبدأ الكتابُ بدراسة شاملة عن تاريخ الأندلس السياسي من 92 إلى 711م، أعدّها الباحث في الدراسات الأندلسية محمود مكّي (1929 – 2013)، مؤرّخاً لتلك الفترة، بدءاً من فتح شمال أفريقيا ثمّ الأندلس وانتهاءً بسقوط غرناطة في كانون الأوّل/ يناير 1592. ليخلص، في نهاية الدراسة (قرابة مئة صفحة) إلى أنّ الثقافة الأندلسية رفدت الثقافة الإسبانية عن طريق الترجمة، وكانت من بين الأُسُس التي قامت عليها النهضة الأوروبية.

يستمرّ الكتابُ بعدد كبير من الدراسات لباحثين عرب وأجانب (الملاحَظ أنّ الدراسة الواحدة منها تشكّل كتاباً صغير الحجم)؛ تَحضر بينها دراستان لسلمى الخضراء الجيوسي؛ الأُولى بعنوان "الشعر الأندلسي: العصر الذهبي"، رأَت فيها أنّ نقطة الانطلاق الأُولى في دراسة الشعر الأندلسي ينبغي أن تأخذ في الاعتبار أنّه ذو علاقة شديدة الوثوق بالشعر العربي في المشرق، ولكن في الوقت نفسه يجب الحذر من الاعتقاد بأنّ نتاج الشعراء الأندلسيّين لم يكن غير انعكاس لتأثير شعراء المشرق عليه، فـ "الشعر العربي في الغرب لم يكن محض تقليد وإعادة إنتاج واعية لنظيره في المشرق". وتُدلّل الباحثة على ذلك بالقول: "عندما تنجح تجربة في الشعر (أو في أيّ فنّ من الفنون) وتنتشر على نطاق واسع، فإنّ ذلك، يحدث، أوّلاً، لأنّ ذلك الفنّ نفسَه كان مستعدّاً لذلك، ولأنّ أولئك الذين يتولّونه كانوا قادرين، فنّياً ونفسياً، على تمثُّل التجربة الجديدة، وثانياً، لأنّ تلك التجربة تُناسب المزاج، أو تُرضي التوقّعات والحاجات والذوق لدى جمهور الشعر في ذلك الزمن".

ولأنّ الشعر الأندلسي كتبه أناس يعيشون على حدود ثقافة مختلفة، تفحص الجيوسي، في دراستها، إمكانية النظر إليه على أنّه يقع في باب "أدب الحدود": هل يسعنا النظر إلى الشعر الأندلسي الرسمي بوصفه أدباً معزولاً، وُجد في محيط غريب، تتسرّب إليه على الدوام نوازع ثقافة مختلفة ولغة مختلفة، ويشعر بالولاء نحو أكثر من ثقافة؟ تجيب: "يبدو لي أنّ الأدب الأندلسي الرسمي لا يعكس سوى القليل الذي يدلّ على أنّه كان أدب حدود ذا هوية معزولة، بل يبدو أنّه أدبٌ كان كاتبوه يحسّون بالاطمئنان في أوطانهم".

تستعرض الباحثة عدداً من التجارب الشعرية في الأندلس (يحيى الغزال، وابن عبد ربّه، ويوسف بن هارون الرمادي، وابن هانئ، وابن درّاج القسطلي، وابن شهيد الأندلسي، وابن زيدون، وأبو بكر محمّد بن عمّار، والمعتمد بن عبّاد) متوقّفةً عند مختلف خصائصها الفنّية، ومُسجِّلةً، بين الحين والآخر ملاحظات وآراء نقدية؛ من بينها ملاحَظةٌ لافتة حول شعر الحبّ في الأندلس، مفادُها أنّ "الأندلس لم تُنجب شاعر حُبّ عظيم أشبهَ بشعراء الحُبّ الأمويّين الكبار، تفرَّد بالموضوع وكرّس له جلّ موهبته"، وأُخرى تتعلّق بقصّة حبّ ابن زيدون لولّادة، والتي استهوت كثيراً من دارسي الشعر الأندلسي؛ إذ تعتبرها "واحدةً من أبسط قصص الحُبّ في الأدب العربي".

وتخلص الدراسة (قرابة ستّين صفحة) إلى أنّه ينبغي النظر إلى الشعر الأندلسي على أنّه "ذو مسارب عديدة، تظلّ فيه التيارات الفنّية المختلفة مفتوحةً تنشط معاً، فالميل نحو العبارة المبسَّطة والتوجّه الأكثر مباشرةً سوف يظهر في الشعر اللاحق، عند ابن سهل مثلاً، والأمير يوسف الغرناطي (القرن الخامس عشر الميلادي) وغيره، والميل نحو الصناعة والوصف الدقيق والمنمَّق سوف يستمرّ ويعرف تطوّراً مبدعاً حتى يبلغ ذروة جديدة عند ابن خفاجة".

ويُمثّل ابن خفاجة موضوع الدراسة الثانية التي تحمل عنوان "شعر الطبيعة في الأندلس وظهور ابن خفاجة"؛ وتستهلُّها بإضاءة على شعر الطبيعة في الأندلس منذ البداية وظهور أنواع ضمن هذا النمط الشعري (مثل النَّوْريات والرَّوْضيات والرَّبِيعيات)، وصولاً إلى ابن خفاجة الذي أحدث تجاوُزاً في هذا النوع الشعري؛ حيث ترى أنّ ظهوره مثّل انعطافةً جديدة في الشعر الأندلسي، على مستويات اللغة والأسلوب والمفردات وبنية الجملة، وهو ما يشكّل "تطوُّراً لغوياً مهمّاً وشديد الوضوح". هذا على صعيد اللغة، أمّا على صعيد المضمون، فتكتب: "في شعر ابن خفاجة ثمّةَ إدراكٌ حسّي لا للتجربة وحدها، بل للفكرة كذلك، لأنّ بعض أشعاره هي نتيجة لموقف تأمُّلي، لفكرة نشأت عن تجربة مستقاة وُلدت من حالته الذهنية، فتبنّاها وتفاعَل معها. في مثل هذه الأوضاع تتحوّل الأفكار عنده إلى تجربة وجودية، ويتمّ إدراكها شعرياً والتعبير عنها بلغة وصُور حسيّة. ومع ذلك، تتحكّم في هذا كلّه صرامةٌ فنّية تُحافظ على فضاء القصيدة المكتفي بذاته، وتذبّ عنه الميوعة العاطفية والمشاعر الفجّة".

وتخلص الجيوسي، في دراستها (قرابة أربعين صفحة) إلى أنّ شعر ابن خفاجة "إنْ لم يكُن دينيّاً بشكل مباشر، فإنّه في أفضل أمثلته ميتافيزيقيٌّ أحياناً، ذو حساسية بالغة العمق والحدّة بالعالم، بالمجهول، بِسِرّ عناصر الكون، بسلطان الأجرام السماوية، بأسرار الفصول، وجلال الطبيعة المُرعب". تعكس هذه الكلمات انحيازاً واضحاً لابن خفاجة، لكنّه قد يُمثّل ردّاً على آراء نقدية ترى أنّ الشعر الأندلسي بعامّة فقيرٌ جدّاً من الناحية الفكرية؛ وهي الآراء التي تعتبر سلمى الخضراء الجيوسي أنّها تُصوِّر سوء الفهم السائد حيال هذا الجزءِ من الشعر العربي.

· عن العربي الجديد