نص نادر: كيف عرف العراقيون التطعيم ضد مرض الجدري؟

Sunday 21st of May 2023 10:58:30 PM ,
5433 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

نرسيس صائغيان

كان الجدري معروفاً في الشرق منذ عهد عهيد وأما في بلاد الغرب فلم يشعروا به إلاّ في القرن الخامس أو السادس للمسيح وكان الوباء المذكور كثير الغوائل شديد الوطأة على الناس لأن الوسائل الواقية أو الشافية منه كانت مجهولة في أغلب أنحاء المعمور

وإن كان في بعض الأقطار شيء منها فأنه ما كان يفي بالمراد دائما وعليه يعود الفضل العظيم لإيجاد وسيلة واقية منه كل الوقاية إلى الطبيب الإنكليزي المدعو أدورد جنر الذي أذاع كشفه الخطير سنة ١٧٩٦ بعد أن درسه درسا صادقا مدة عشرين سنة. ولا حاجة إلى القول أن ذلك الكشف كان التطعيم بمصل من ضرع البقرة المصابة بمرض وبائي اسمه بالإنكليزية أي جدري البقر وأما المصل فيسمى من الكلمة اللاتينية أي البقرة.

التطعيم في بغداد ونواحيها

قبل منتصف سنة ١٧٨٦ قدم بغداد شاب أرمني كاثوليكي من أهل الآستانة اسمه أوانيس وشهرته مراديان للقيام بأمور تجارة آل صوفيالي المقيمين في العاصمة المذكورة وهم أيضا من الأرمن الكاثوليك وكان يومئذ في بغداد واحد منهم يدعى

خواجا ساراغا. فهذا لدى عودته إلى وطنه عهد إلى أوانيس جميع أمور تجارة الصوفياليين ومهامها بعد أن أتخذه شريكا لهم في الأرباح والخسائر. غير أن أوانيس لم يلبث أن أنفصل عنهم فأستقل بتجارته مع أخويه بوغوص وفلبس وكان أحدهما في الآستانة والآخر في مدارس (الهند).

فنجحوا ففي أوائل أمرهم نجاحا يذكر لكن ما عتم أن أخذ نجم نجاحهم بالنزول والأفول حتى أضطر أوانيس إلى أن يخدم القنصلية الفرنسية في بغداد ترجمانا ليفوز بحماية فرنسة.

وفي سنة ١٨١٩ دعاه محمد علي ميرزا نائب الشاهفي كرمنشاه ليكون في بلاطه أول التراجمة وفي تلك السنة عينها نال من فتح علي شاه وسام الأسد والشمس (شير وخورشيد).

من الطبقة الثانية وبعد أن قام هناك بوظيفته أحسن قيام مدة تقارب أربع سنوات مات النائب مسموما فغادر حينئذ كرمانشاه وأخذ يجول في بلاد إيران حتى حط الرحال في حلفا وهناك توفاه الله سنة ١٨٣٢ عن امرأة هي تريزية أبنة خريسطوفور بن انطوان أتري الطبيب الأفرنسي وعن أبنين وهما سيزار وآشيل وليس اليوم بباق من نسله.

وكان أوانيس من أدباء زمانه المعدودين يحسن الأرمينية والإيطالية والأفرنسية والتركية والفارسية وشيئا من العربية فضلا عن إلمامه بأغلب علوم عصره ولا سيما التاريخ والسياسة وكان يتعقب عن قرب وعن بعد سير الأمور السياسية شرقا وغربا ويتتبع تقدم العلوم في بلاد الإفرنج وظهور المكشوفات العلمية فيها والاختراعات الفنية ولا غرو من ذلك إذ كان قد ربي منذ حداثته في البندقية ودرس على الآباء المخيتاريين.

فعلى يد رجل هذه ترجمته وهذه صفاته دخل بغداد لأول مرة التطعيم الواقي والعام من الجدري طبقا لطريقة جنر لكن الله يعلم بما كابده من الأتعاب وعاناه من المشاق في سبيل الوصول إلى إقناع أهل بغداد بقوله لهم والإقدام عليه وذلك بسبب الأوهام السائدة وقتئذ على العقول ولا سيما لأن التطعيم كان يظن أنه مخالف للقدر وعليه فلا عجب إذا ما حبطت في أول الأمر مساعي أوانيس بالرغم من المعاضدة العظيمة التي عاضده بها الدكتور شارت طبيب القنصلية الإنكليزية في بغداد.

بيد أن أوانيس عاد سنة ١٨٠٩ فأفرغ قصارى جهده في تذليل العقبات وتشتيت الأوهام التي حالت قبلا دون غايته ففاز أخيرا بأمنيته وتكلل مسعاه بنجاح باهر حتى أن مفتي بغداد الكبير وهو أحمد أفندي الحصيف الرأي رضي بأن يتطعم أولاده وحفدته الستة وذلك بعد أن طعم أوانيس ابنه سيزار بحضور كثير من أرباب الأسر وكان أكبر مؤازر له في مساعيه هذه الثانية الدكتور هين خلف الطبيب شارت المار ذكره.

فمثل مفتي بغداد شجع الناس على اختلاف مللهم فدفعهم إلى الإقدام على التطعيم بلا خوف ولا تردد حتى أن أوانيس تمكن من أن يطعم مع امرأته تريزية أكثر من خمسة آلاف وأربعمائة ولد في مدة تسع سنوات دون أن يحدث حادث يقلل ثقة الناس بالتطعيم وكان تطعيم الثلثين من العدد المذكور مجانا.

ولم يكتف أوانيس بتعميم التطعيم في بغداد ونواحيها بل رغب كل الرغبة في نقله إلى

غيرها من البلدان فأدخله الموصل على يد القس بطرس أخطل الموصلي ابن الأسقف بشارة السرياني وذلك بعد أن علمه في بغداد أصول التطعيم ودربه على طريقة إجرائه مدة بضعة أشهر ولما عاد إلى الموصل زوده كتابه بعدة تعاليم فنية وكان يكاتبه من وقت إلى آخر بالإيطالية لأن الكاهن المومأ إليه كان قد درس حينا من الزمن في المدرسة الأربانية في رومة.

وكذلك عرف بالتطعيم أهل اريوان على يد الخوري الأرمني غير الكاثوليكي المدعو ورتانيس وارتابيت الذي أخذ عن أوانيس أصول التطعيم فأتقنها اتقانا لا مزيد عليه.

بعد أن أقيم أوانيس ترجمانا في كرمانشاه سعى سعيا حثيثا لنشر التطعيم بين ظهراني الإيرانيين أيضا فكان النجاح رائده حتى طعم في مدة إقامته هناك أكثر من خمسمائة ولد من جملتهم ٢٥ أميرا وأميرة من الأسرة القاجارية المالكة في فارس ولما بارح كرمانشاه طفق يطعم مجانا في البلاد التي كان يمر بها ومنها همذان وطهران وكاشان واصبهان وجلفا وكان يرسل بأسماء المطعمين إلىالدكتور ماكنل طبيب السفارة البريطانية في طهران إجابة لطلبه.

وفي أثناء إقامته في جلفا عاد إليها أحد أهلها وهو مناطا كان (أي باق) ابن دير اسطيفان المطعم الهمام وتلميذ الدكتور ريغ وكان قد قرر إرساله إلى بغداد ليكون مطعما هناك غير أن موانع شتى حالت دون الذهاب إليها ففوض حينئذ إليه أمر التطعيم في جلفا وابتدأ بالعمل حالا بعد أن قدم إليه أوانيس مصلا جديدا من أحسن نوع.

... وأما في بغداد فأن أوانيس قبل سفره إلى كرمانشاه كان قد عهد إلى امرأته بشؤون التطعيم فيها والسهر على حسن إجرائه غير أن البعض من الجهلاء والجاهلات أخذوا يتدخلون في أمر التطعيم وهم ليسوا من رجاله فحدث من جراء ذلك ما حدث من النتائج الوخيمة التي أدت إلى إزالة ثقة الناس به وابتعادهم عنه وظلت الأمور على هذه الحالة إلى أن أرسلت شركة الهند الإنكليزية مطعما على حسابها وهو محمد صالح خادم الدكتور (هين) سابقا ولكن لم يمر زمن طويل حتى ذهب ضحية لتعدد زوجاته فمات قبل أوانه وبموته حرمت بغداد مطعما كفوا. فقامت حينئذ تريزية امرأة أوانيس مراديان

وشمرت عن ساعد الجد بمساعدة أبنيها في إعادة ثقة الناس بالتطعيم وإعلاء شأنه ولو أن الأمر كان يكلفها أحيانا تضحيات بما لها.

ولما كادت سنة ١٨٤٧ أنفذ السلطان عبد المجيد أمرا بإرسال راغب بك حاجبه الثالث إلى بغداد وغيرها من الولايات العثمانية ليفقد أموالها وينظر في شؤونها ويهدي في الوقت عينه سيفا لمحمد نجيب باشا والي ولاية بغداد تقديرا لحسن إدارته وحكمه في هذه الولاية فدخل راغب بك الزوراء في ٢١ آذار من السنة المذكورة ومعه طبيب ارمني اسمه باروناك فروخ خان كان قد رافقه من الآستانة ليداوي المرضى ويطعم الأولاد مجانا في جميع المدن والقرى التي على طريقهما وما وطئت قدماه مدينة السلام حتى أخذ يقو بوظيفته المعهودة إليه بهمة لا تعرف الملل في جهات عديدة من العراق ثم قفل راجعا إلى الآستانة.ومن ذلك اليوم لم ينقطع التطعيم من العراق بل زاد شأنا وانتشارا فكانتتزاوله عادة وغالبا القوابل وبعض النساء المسنات فضلا عن الرجال وأما طريقة التطعيم المألوفة فكانت قائمة بنقل الطعم من ذراع مطعم إلى ذراع غير مطعم ولم تزل تلك الطريقة جارية إلى يومنا هذا بجنب استعمال المصل البقري الذي كان يبطل سواه.

واليوم أيضا بعد أن مر على كتابة هذه الشهادة أكثر من قرن يسجل تاريخ العراق بمزيد الشكر تلك المأثرة الحميدة لاوانيس بن بدروس مراديان وأسرته الكريمة.

مجلة (لغة العرب) شباط 1929