صامويل بيكيت يتحدَّى ما لا يوصف

Wednesday 24th of May 2023 12:07:04 AM ,
5435 (منارات)
منارات ,

عدوية الهلالي

الروائي والكاتب المسرحي صامويل بيكيت ابتكر شخصيات تتخبط، بين التوقع والبطلان، في قلب الفراغ الكبير، ساعية بيأس للتمسك بنقطة ما. سواء كانا إستراجون وفلاديمير في مسرحية (في انتظار جودو)،

اللذان وضعا كل حماستهما في انتظار منقذهما أو ويني في (الأيام السعيدة) التي كانت على حافة الاختناق، مدفونة حرفياً، إذ تمت إبادتها بسبب الوحدة المفرطة، كان لديهم جميعًا هذه الطريقة المزعجة بإثارة السؤال الأكثر مدعاة للقلق حول حالتنا الفانية.

يقول هام في مسرحية (نهاية اللعبة): "النهاية تكمن في البداية ومع ذلك نحن نستمر". يبدو أن بيكيت يميل إلى السخرية هنا فهو لا يثير سوى حقائق واضحة إذ يتم الإعلان عن الموت للجميع منذ الولادة، ولكن في معظم الأحيان نسعى إلى التنصل عن هذه الحالة ونتصرف كما لو كنا خالدين. السلبية التي نعلقها على بيكيت هي فقط وضوح بصره والجرأة التي لديه للتعامل مع الأمور وجهاً لوجه.

الوحدة، الشعور بالضيق، الكرب، عدم الفهم.. هذه المواضيع البيكيتية هي دليل على ذلك، لأن المؤلف يأخذها وجهاً لوجه، ولأنه يحتضن الأسوأ كما لو كان الأفضل، كما أنه لا يستسلم. وفي كثير من الأحيان قد نرغب في إلغاء ليالينا على الرغم من أنها تخدمنا كأسوار، بمعنى أنها تسمح لنا أن نرى بعين أخرى ما اعتبرناه أمرًا مفروغًا منه.

يجب أن يقال أيضًا أن الظلام ليس عكس الضوء، لكن، مثل جميع الأضداد، ليسا بعيدين عن بعضهما البعض أبدًا. وإذا تخيلناهما على أنهما على جانبي كرة حيث سيكونان على أقطاب متقابلة، فسينتهي بهما الأمر حتمًا بالاجتماع عندما يدوران. في بحث يحمل عنوان (وساوس) كتبت فريديريك بيرنييه: "من أهم الكتب التي تتربع في القمة، (السقوط) و (الفوضى) لبيكيت". إذ يقدم لنا بيكيت هذه الاحتمالية للانحدار، ويوفر لنا فرصة لزعزعة نفوسنا.

"أين سأذهب، إذا كان بإمكاني أن أذهب، ماذا سأكون، إذا كان بإمكاني أن أكون، ماذا سأقول، إذا كان لدي صوت، من يتكلم على هذا النحو، هذا يعني أنا؟"، تتساءل شخصية في رواية "اللامتناهي" ومثل هذه الأسئلة تثير الرهبة، عندما تكون موجوداً في عالم لا شكل له، وأن تكون وحيدًا في إيجاد معنى وسبباً له أو ما هو أسوأ، عند إدراك أنه لا يوجد شيء والاضطرار إلى المضي قدمًا بخطوات عمياء، ضاربا في الفراغ.

لكن مثل نظريتنا عن الأضداد في وقت سابق، فإنَّ الفراغ ليس فراغًا تمامًا، بل على الأقل مليء بكل الاحتمالات. وكما عبر الفيزيائي وفيلسوف العلوم إتيان كلاين في كتابه الصادر عن منشورات آكت سود "ما يكون موجوداً من دون أن يكون كاملاً"، ما يعني أنه "إذا كان الفراغ موجودًا، فذلك لأنه ليس شيئًا كاملاً، بل لأنه شيء خاص". وفي نهاية الفراغ، قبل كل شيء، تنتصب الأسئلة، التي هي دائمًا كاملة ولا يمكن إحصاؤها.

سيكون من المستهجن أن نعلن صامويل بيكيت مؤلف كتب مغامرات. بينما لا يمتلك أبطال رواياته سيوفاً، ولا يعبرون البحار، ولا ينجون من أي انزلاق ثلجي في الجبال. سنجد في أعماله صعودًا دراميًا بسيطًا. وسيقول لك منتقدو الكاتب: لا شيء يحدث في أعماله. لهذا يمكننا بالطبع أن نضيف: في الواقع، أعماله راسخة لأن الدراما فيها جوهرية. الشخصيات، التي نواجهها على مدار الأيام، تفقد توازنها باستمرار وتواجه هشاشتها بتواضع. (ويني) مثلاً ضعيفة في مواجهة وحدتها. إنها بالتأكيد لا تسافر إلى جميع القارات، لكنها تخوض رحلة استكشافية في تصميمها على العثور على الجمال في كل يوم يمرّ.

يحتضن بيكيت الظلام والمزالق، وفي عرضه للحالة الإنسانية غير الكاملة، يخبرنا أننا لسنا وحدنا في أن نكون وحدنا. إذن لهذا السبب فقط، يمكننا القول أن عمله عمل جيد. وإذا فشلت اللغة في التعبير عن حقيقة الكائنات، تظل الحقيقة أن بيكيت نجح بطريقة مذهلة في وصف العالم الذي سقطنا فيه والذي نسقط فيه