صامويل بيكيت ولحظة الثناء على العدم

Wednesday 24th of May 2023 12:11:20 AM ,
5435 (منارات)
منارات ,

علي حسين

" قطعة لحم طويلة مغطاة بالتعاسة والشرود "، هكذا كان يصفه كل من شاهده يتمشى وحيداً، يعترف انه لم يعرف السعادة يوماً، تمنى في شبابه أن يصبح لاعب غولف شهير، وعندما لم يفلح توجه لسباق الدراجات النارية، وفي النهاية قرر أن يصبح كاتباً:

" إنها مهنة تحترم خصوصيتك "، في الثلاثين من عمره أقدم متشرد في احد شوارع باريس على طعنه بسكين حادة، وبعد علاجه في المستشفى ذهب لزيارة الرجل في السجن ليطرح عليه سؤال: " لماذا أردت قتلي " فكانت إجابة المتشرد: "لا أدري "، بعد سنوات سيتذكر هذا المشهد العبثي، وهو يكتب عمله الروائي الأول " مورفي " حيث يصر بطلها أن يعلن للجميع إن " الوضع لايصلح للحياة ".

في استعادة صامويل بيكيت المولود في نيسان عام 1906، أصدرت دار المدى طبعة جديدة من ثلاثيته الروائية الشهيرة " مولوي.. مالون يموت.. اللامسمي ".

كان الأبن الثاني لعائلة ميسورة الحال، والده يعمل مساحاً للاراضي، محب لقراءة الروايات الغرامية بينما كانت الأم تلقن ابنائها الصلوات والتراتيل، وفي يومياته يخبرنا أن لديه ذكريات قبل ظهوره الى الدنيا: " أتذكر أنني كنت محشوراً حبيساً، وغير قادر على الإفلات. كنت أبكي كي يسمحوا لي بالخروج لكن أحداً لم يكن يسمعني. لم يكن يصغي ألي أحد ". ونعرف أن ولادته كانت عسيرة، حيث استغرقت أكثر من عشر ساعات. منذ اليوم الأول لولادته حظي بعناية متميزة من والدته.

في سن الحادية والعشرين نشر كتابه " أحلام المرأه العادية " وهو كتاب وصفه النقاد آنذاك بأنه مجموعة من الهذيانات، بعدها بعام يقرر أن يرحل الى باريس هناك يتعرف على جيميس جويس كان عمره آنذاك 22 عاماً و بدأ يفرض تأثيره الكبير عليه، لكنه رفض أن يكتب بمثل طريقة جويس: " يتمثل اختلافي عن جويس، في إنه كان يحسن معالجة مادته وبشكل رائع، وقد يكون الأعظم في هذا المجال. كان يعطي الكلمات أقصى ما تحمل، ولا نجد عنده مقطعاً زائداً.أما نوع العمل الذي أمارسه، فهو عمل لا أجدني فيه سيداً لمادتي.. كان جويس يميل نحو العلم الكلّي والقدرة الكلية للفنان، أما أنا فأعمل في العجز، وفي الجهل ".

يستهويه مارسيل بروست فيقرر أن يكتب عنه كتاباً – ترجمه الى العربية حسين عجة - أكد فيه أن أدب بروست قد بُني على وهم خادع بتمامه، في مسرحيته " شريط تسجيل كراب الاخير " يحاول بيكيت أن يقدم صورة ساخرة للزمن المستعاد " زمن لا نجد فيه أنفسنا قط "، رأى في عمل بروست الكبير" البحث عن الزمن المفقود " عالم لاثبات فيه، ومن ثم فإنه عالم يعيش فيه الانسان في طلب ضرورة الانتظار. انتظار واقع ملتبس وغريب.

عام 1951 ينشر روايته مُولُوي في دار نشر غير معروفة بعد ان رفضتها معظم دور النشر، وفي يومياته يخبرنا بيكيت ان زوجته سوزان اخذتها لصاحب دار نشر صغيرة، في اليوم التالي يخبرها الناشر، إنه قرأ الرواية في طريق عودته الى البيت، وقد أخذته ضحكة رعناء وهو يواصل القراءة مما أثار استغراب ركاب الباص، بعدها قرر أن ينشرها، وعندما التقى بيكيت بالناشر وجده إنساناً طيباً، فكتب في دفتر يومياته: " آسف جدا لأن هذا الرجل سوف يعلن إفلاسه بسببي، فالاحتمال قليل في أن يقرأه الكثيرون، ولا يمكننا أن ندرك في أي مستوى من سوء الفهم يمكن أن يضعه حظه أمام القراء ".

في مُولُوي يروي لنا بيكيت رحلة العودة إلى الذات، حيث نتعرف على بطل الرواية مُولوي الذي يجهل مكان وجوده، فهو تائه باستمرار، ولايتمكن من أن يتعرف على المدينة التي يبحث عنها، وأثناء رحلة البحث المضنية يتلاشى جسده، فبينما نراه في البداية منطلقاً على دراجة، نجده ينهي رحلته المزعومة زاحفاً، ولا يعود مهتما أثناء تقدمه ما إذا كان يصل إلى المدينة التي تسكن فيها امه، ام لا. انه مشغول بفعل التقدم فقط، وفي الرواية نقرأ القصة التي يكتبها مُولُوي عن نفسه، فهو قد حُمل إلى هذه الغرفة، بعد ان انتشلوه من حفرة وقع فيها:" لا أعرف كيف وصلت إليها "، لقد كانت رحلته يائسة وكئيبة، حيث تصلبت ساقه، وتثاقلت قدماه، فكان أن ترك الدراجة واستخدم عكازاً، ثم اضطر أن يزحف، إنها اوديسة الانسان المعاصر، لكنها مختومة بالعذاب، فهو يستعيد ذكريات حياته، لكن دون أن يتمكن من التمييز بين الحقيقة والوهم، ومثل بطل مارسيل بروست ستكون حياته مرتبطة كلها بحديثه عن الماضي.

في القسم الثاني من الرواية سنتعرف على رجل الشرطة جاك موران الذي يتلقى أوامر بتقديم تقرير عن مُولُوي، ولسوف تكون هذه الرحلة الثانية أكثر سوءاً من الأولى، لأنها سرعان ما ستفقد هدفها الاساسي حيث نجد موران بعد وقت قصير من رحلة البحث ينسى ما كان عليه ان يفعله تجاه مُولُوي، فهو أيضاً يصاب بعجز في قدمه، ويهجره ابنه، وتداهمه الامراض حتى يصبح " غير قادر على الحركة "، وإذ يعود الى بيته يجد ان خادمته قد هربت، وحديقته قد اقتلعت والدواجن ماتت، ولم يبق امامه بعد ان عاد وهو على عكازين، إلا أن يكتب التقرير المطلوب عن مُولُوي: " عندئذ عدت إلى المنزل وكتبت. في منتصف الليل. والمطر يضرب زجاج النوافذ بسياطه. لم يكن منتصف الليل، وما كانت تمطر ".

ويصل التشابه بين شخصية مُولُوي وموران إلى درجة أن القارئ يسأل نفسه هل ان موران يمثل في الحقيقة ماضي مُولُوي البعيد، ان موران لايختلف عن ابطال كافكا، فقد كان يعيش حياة مستقرة ومنظمة بصرامة قبل ان يكلف بمهمة تقديم تقرير عن مولوي، وهكذا نجد (مُولُوي وموران) يعيشان في عالم متجمد كل شيء فيه يتجه نحو الظلام، ورحلتهما برغم عذابها وشقائها إلا انها في النهاية رحلة نحو اكتشاف الوجود.

في " مالون يموت" وهي الجزء الثاني من الثلاثية، يصر بيكيت على تأكيد فكرة الضياع، حيث نحن أمام شخصيات يصل بها الحد إلى إستحالة أن تقول " أنا "، فمالون الممد على سريره يعاني من عجز تام، انه بين الحياة والموت: " سأصبح محايدا خاملاً. سوف يكون ذلك هينا بالنسبة إلي.. ساموت فاترا، دونما حماس "، ولهذا لم يبق امامه، إلا ان يشغل وقته، وكانت امامه ثلاثة سبل لذلك، الحديث عن الحاضر، تعداد ممتلكاته المبعثرة في الغرفة او الحديث مع نفسه ولنا عن: " قصصا ليست جميلة ولا رديئة، لن يكون فيها قبح او جمال او حُمى، سوف تكون بلا حياة تقريباً، مثل الفنان "، ولهذا هو يخبرنا أن قصصه غير ملزمة للقارئ، وينبغي أن لاتكون لها اهمية: " إنه وقت للتسلية، ولسوف ألعب ". ولهذا ربما يسأل القارئ من هو مالون، هل هو شخصية روائية أم نسخة من بيكيت، أن مالون يكشف عن نفسه كبطل في رواية، ثم يكشف عن باقي الشخصيات والتي هي بالتاكيد صور ذاتية لبيكيت نفسه الذي ينبهنا على لسان مالون: " لقد انتهى إبداع الشخصيات، فسوف نستطيع الإستغناء عنها، إذ نعلم الآن إنها ليست إلا نسياناً خادعاً للذات، تلك التي تحاول البحث عن نفسها في صوت ما "، تنتهي مالون بعبارة مؤثرة " ها هو اللا شيء " ويحعلنا بيكيت نتساءل من أين أتى مالون؟.

لقد كان يناضل ضد الموت وينتظره في نفس الوقت، وأراد من خلال الكلمات ان يكافح الصمت الذي يهيمن على حياته، وكأن بيكيت أراد أن يطرح علينا سؤال عن وجودنا العبثي، والذي سيكون هذا السؤال مفتاح للجزء الثالث الذي يضع له عنوان " اللا مسمى "، ففي هذه الرواية يفتتح بيكيت بسؤال ثلاثي " أين الآن، متى الآن، ومن الآن " ويحاول بيكيت أن يربط بطل الرواية بابطال روايته السابقتين: " إنني أعرف أمثال مورفي ومولوي ومالون جيدا. لقد جعلوني أضيع وقتي سدى، إذ تركوني أتحدث عنهم، بينما كان علي أن أتحدث عن نفسي فقط، كي أتمكن من الصمت "، هكذا نجد اللامسمى في إنكاره للآخرين يريد أن يؤكد حقيقة واحدة " ليس هناك إلا أنا.. وهذا الظلام الأسود "، هكذا يقرر اللامسمى أن ينخرط في الوجود من خلال شخصيتين، الأول ماهود الذي نراه هائماً منذ بداية الرواية، قبل أن يستقر به المقام في جرة كبيرة تستخدم لافتة أمام مطعم، وهناك فورم الذي هو نقيض لماهود، فهو لايتكلم إلا بهمس غير مفهوم وهو غير قادر حتى على تدوين ملاحظاته، أقرب المخلوقات إلى العدم، إنه لايعرف: " ماهو، وأين هو، وماذا يجري، وما يجهله، هو أن هناك شيئاً ما يمكن معرفته ". لكن رواية اللامسمى إذ تختتم الثلاثية، فإنها أيضا تختتم مشوار بيكيت في الرواية، لهذا نراه يعلن عام 1956: " لن يكون نهاية كتابي شيء سوى الغبار. فقد كان هناك تفكك تام في روايتي الأخيرة اللامسمى.. ولم تبق هناك وسيلة للاستمرار ".

تبدو الرواية بالنسبة لصمويل بيكيت كما يقال أشبه بـ" ملل ميت " وهي محادثة بين الإنسان وخيالاته. يكتب ناثان سكوت في كتابه عن سيرة بيكيت إن: " بيكيت يتصدى للعرف التقليدي كله في الأدب.. الذي يمثل الرواية كنمط الفحص التجريبي الخالص للمعاناة الإنسانية ".