صامويل بيكيت كسر صورة أمه القاسية في عشق النساء

Wednesday 24th of May 2023 12:14:46 AM ,
5435 (منارات)
منارات ,

عبده وازن

عرف عن صامويل بيكيت نزعته شبه الانطوائية وعزلته ومزاجه المتقلب، وهذه الطبائع الشخصية انعكست على معظم شخصياته المسرحية والروائية (مولوي، مالون يموت،...)، وكان حريصا على الابتعاد عن الحياة العامة والجماعية مقدار ما أمكنه.

وغلب الظن أن حياته العاطفية كانت هادئة وسرية معظم الأحيان، فهو على خلاف كتاب كثر، كان يألف عيش "المغامرات" في حال من الكتمان، ولم يكن ليطيلها جاعلا منها مغامرات عابرة ولو أن العشيقات كن يتركن فيه أثرا عميقا وصامتا، وكان يحافظ معهن دوما، بعد انتهاء العلاقة على حال من الود، مواجها تجربة الندم أو تأنيب الضمير اللذين حفرتهما فيه أمه ذات الطباع القاسي. ولئن تناول بعض كتّاب سيرة بيكيت، هذه الناحية من حياته عبر نبشهم تفاصيلها، فلم يخصص ناقد أو مؤرخ أدبي كتابا مقصورا على بيكيت العاشق وعلى مغامراته المضطربة، المحمومة حينا والعابرة أحيانا. الروائي والكاتب اللبناني الفرنكوفوني ألكسندر نجار أخذ على عاتقه مهمة إلقاء الضوء على الوجه الآخر من صامويل بيكيت، وجه العاشق، شبه الخفي وشبه المجهول، فكان كتابه الجديد بالفرنسية "الحب لا يمكن التحكم به" (دار لوريان دي ليفر 2020) فريدا في توجهه ومادته. والعنوان مستل من رواية بيكيت الصغيرة "حب أول".

مخاطبة بيكيت

في بحثه عن النسوة في حياة بيكيت وتعقب حضورهن في مسيرته، اعتمد نجار مراجع كثيرة، منها سير كتبها نقاد ومؤرخون بالفرنسية والإنجليزية وأعمال بيكيت نفسها، المسرحية والروائية، والرسائل الكثيرة التي كتبها صاحب "بانتظار غودو" وهي تقع في أربعة أجزاء. ومن خلال هذا العمل الدؤوب تمكن من "محاصرة" الكاتب وملاحقة حكاياته مع المرأة. وكانت أمه ماي من بين هؤلاء النسوة، خصوصا أنّه كان لها عليه أثر عميق، إيجابا وسلبا. ولم يشأ نجار كتابه بحثا أو دراسة تقليدية فلجأ إلى لعبة أسلوبية طريفة مؤديا دور الراوي الذي يخاطب بيكيت وكأنه شخصية حاضرة، مستعرضا له أو معه، تفاصيل من حياته شخصا وكاتبا، منذ ولادته على يد قابلة في المنزل حتى وفاته من منزل الراحة. صيغة المخاطبة هذه أضفت على الكتاب حيوية وألفة فبدا كأنه حوار بين صديقين، واحد حاضر يتحدث مباشرة والثاني (بيكيت) يصغي ويتحدث عبر نصوص له اختارها نجار.

في سياق البحث عن أثر النساء وحضورهن في حياة بيكيت لا بد من التوقف أولا عند أمه ماي، الشخصية القاسية، المؤمنة والبيوريتانية المحافظة أخلاقيا ودينيا، المتطلبة والمضطربة التي كانت تجبره على تلاوة الصلاة الربانية راكعا كل ليلة. إلا أن قدره جعله شبيها بأمه شكلا، فهو أخذ منها القامة الفارهة والجسم النحيل والوجه المستطيل والأنف المعقوف وزرقة العينين. وورث عنها أيضا سخاءها ونزعتها إلى الاستقلال، ولكن أيضا حال الأرق والمزاج الكئيب بل المكتئب (مرضيا). لم تفهمه أمه يوما، ولم تحاول أن تفهمه. سألها مرة صغيرا: لماذا السماء زرقاء؟ فأجابته: أغرب عن وجهي. هذا الجواب كان بمثابة صفعة لم ينسها. وذات مرة اكتشفت الأم مسودات له كتبها العام 1930 عندما كان يعلّم في "ترينيتي كولج" فوجدتها سفيهة وغير لائقة، فكان رد فعله ترك التعليم والسفر إلى باريس بعيدا منها. هذا ما يرويه كراب في مسرحية "الشريط الأخير" الشهيرة والتي فيها يستعيد بيكيت عبر هذه الشخصية أجزاء من سيرته الذاتية. لكن الأم عندما توفي زوجها أي والد صامويل عام 1933 حل بها حزن شديد، ويصفها بيكيت في أحد نصوصه كيف كانت تتردد على مقبرة زوجها "ملفعة تماما بالأسود" فتبدو كأنها "حجر في قلب الليل". في تلك الآونة عاش بيكيت تجربة اكتئاب شديد وانهيار نفسي، فهو كان يحب والده كثيرا منذ طفولته، ولجأ إلى طبيب نفساني، كما أوصاه صديق له، فخضع لمئة وخمسين جلسة علاجية، تكفلت أمه دفع نفقتها المالية. وعلى رغم كره بيكيت الرمز الذي تمثله أمه ولاسيما النزعة الطهرانية المحافظة (بوريتانيسم) فهو مكث أسبوعا، بالقرب منها عندما أدخلت المستشفى عام 1950 عقب سقوطها وكسرها عظم الفخذ، حتى أسلمت روحها. "ماتت أمي أخيرا"، يقول كراب في "الشريط الأخير".

الحب الأول الذي عرفه بيكيت وكان في السابعة عشرة يدرس الفرنسية والإيطالية في "ترينيتي كولج"، تمثل في طالبة تدعى ايتنا ماكارثي تدرس الفرنسية والإسبانية في المعهد نفسه، وتكبره سنوات أربعا، سمراء، سوداء العينين، ذكية، جذابة، بحسب ما وصفها في "الشريط الأخير". وقع صامويل سريعا في حبها، واستحوذته، لكن هذا الحب ظل من طرف واحد، فهي كانت على علاقات متعددة: المسرحي الإيرلندي دينيس جونتسون، طالب في الطب يدعى دونالد أوكونور، وكون ليفنتال المتزوج الذي تزوجته بعد ترمله. لكن بيكيت ظل يحبها ويلتقي بها وبزوجها صديقه،حتى علم بأنها أصيبت بسرطان الثدي، فراح يبحث عن أفضل طبيب كي يعالجها. وذات مرة تصله رسالة منها تطلب منه أن يوافيها إلى دبلن لتراه قبل موتها. وعندما عاد إلى باريس أرسل لها باقة من بنفسج بري قطفها هو بنفسه مع رسالة يقول فيها: "ليس هذا سوى قلبي أمنحك إياه، يدي في يدك وبعض بنفسجات برية ما كنت لأقطفها من مخابئها لأحد سواك".

الحب الثاني ليس أقل مأسوية من الأول. فتاة جميلة تدعى بيغي سينكلير، خضراء العينين، جذبته بنظراتها وضحكتها، وللصدفة هي ابنة خالة له تزوجت من رجل يهودي يعمل في التجارة، رغم اعتراض العائلة، مما اضطرهما للسفر إلى المانيا والعيش فيها. تعرف صامويل إلى بيغي عندما قصدت دبلن في إجازة الصيف، فخفق قلبه لها. وأمضى معها أياما جميلة في الطبيعة، و أصطحبها مرة إلى شاطئ بحيرة، وقضيا ساعات في مركب وسط الماء. هذه العلاقة لم ترق أمه مايا، وذكّرته أنها ليست على علاقة طيبة بشقيقتها أم بيغي. ظل يراسل بيغي وقرر مرة الذهاب إلى المانيا ليلتقي بها. كانت تعمل في حقلي الرقص والموسيقى، وقصدا معا النمسا ليمكثا شهرا فيها. وعلى رغم العلاقة الحميمة بينهما، لم يجرؤ صامويل على إعلان حبه لها، وهي كانت تنتظر منه إشارة الحب بشغف. كان موقف أمه منها ومن أمها عائقا داخليا لم يتمكن من تخطيه. وعندما بلغه نبأ وفاة بيغي في مايو (أيار) العام 1933 بعد إصابتها بمرض السل، أصيب بحال من الكآبة الشديدة.

الحب الثالث كان الأشد غرابة ومأسوية: لوسيا جيمس جويس، في الثالثة والعشرين من عمرها. التقى صامويل مواطنه الكاتب الشهير جيمس جويس في باريس وتحديدا في شقته الباريسية. كان جويس يبحث عن شاب مثقف يساعده في أبحاثه ويشاركه في الترجمة ويقرأ له بعض النصوص نظرا إلى ضعف بصره ويكتب ما يملي عليه. وجد جويس في صامويل شابا موهوبا وذا مقدرات أدبية، واكتشف فيه صامويل الذي كان معجبا بأدبه، أستاذا تعلم منه الكثير خلال جلساتهما المشتركة واستفاد من مكتبته. تعرف صامويل إلى لوسيا التي تجايله تقريبا. أعجب بجمالها الفتّان وبوجهها الذي يحمل ندبا صغيرا. شعرها أسود، مقصوص كشعر الصبيان، عيناها زرقاوان، راقصة محترفة، ليّنة الجسد، مملوءة حماسة، يتملكها مظهر غامض قليلا، تمتلك أربع لغات بينها الإيطالية. يقع صامويل في حبها، وتبدأ بينهما علاقة تتعمق شيئا فشيئا. لكنّ ما فاجأ صامويل أن لوسيا تعاني حالات نفسية صعبة، فهي غير متزنة وتقوم بتصرفات غير متوقعة، مما جعله يبتعد عنها، مختلقا حججا مختلفة، بينما كانت هي تبغي الحفاظ على علاقتها به. لم تتحمل لوسيا الصدمة فأصيبت باكتئاب عميق، ما دفع والدها إلى تأنيب صامويل وصرفه من مكتبه. لكن جويس اعترف لاحقا بمرض ابنته النفسي ومعاناتها حالا من الشيزوفرينيا. وبعد خيبات عاطفية حاولت الانتحار ثم أدخلت مصحة. ظل بيكيت يراسلها حتى وفاتها في 1982.

إلا أن الحب الذي تلا حب لوسيا لم يكن أفضل منه: إنها لولو التي يتحدث عنها بيكيت في قصته الطويلة البديعة التي كتبها في 1945 ونشرت في 1970 "حب أول". يلتقي بها جالسة على مقعد على ضفة النهر الكبير الذي اعتاد الجلوس عليه. يتعرف إليها ثم تقوده إلى غرفتها فيقضي ليلة معها. ثم يكتشف أنها مومس تستقبل زبائنها في بيتها الصغير. أقام صامويل لديها أياما في غرفة مجانبة، وكان يزعجه ضجيج عشاقها فقرر هجرها. لكنها تفاجئه بأنها حبلى فيصدم ويخشى أن يكون الجنين من صلبه، لكنه يطمئن بعد أن يعلم أن بطنها تكور قبل أن تتعرف إليه. يوضب حقيبته ويرحل، يؤرقه ذاك الندم الذي أورثته إياه أمه البوريتانية صغيرا.

بعد لولو "بائعة الهوى" حلت نوالا كوستيلو الإيرلندية التي تدرس في السوربون، فشغف بها ثم أخفقت العلاقة بينهما. ثم أعقبتها أليزابيت ستوكتون، الآتية من الولايات المتحدة إلى دبلن برفقة صديقة طفولته الإيرلندية ماري مانينغ التي تعيش في بوسطن. شابة جميلة شقراء، اصطحبها بعد سهرة مضجرة لدى أصدقاء تحت المطر إلى الشاطئ. ثم اصطحبها مرة أخرى إلى الشاطئ فنزلت في البحر وظل هو على الأرض. سماها بيتي وكتب لها قصيدة وأعطاها نسخة منها فمزقتها سرا، فهي لا تهوى الأدب. حلت بيتي مثل السراب واختفت أو عبرت. لكنها كانت حافزا لاستعادة صديقة طفولته ماري مانينيغ، في علاقة ملؤها الرغبة والحب، لم تدم طويلا، فكان لا بد لها من العودة إلى بوسطن. وأشيع أن إحدى بنات ماري، وقد أصبحت روائية شابة، هي ثمرة العلاقة العابرة تلك.

بيغي غوغنهايم التي تعرف إليها في مقهى فوكتس الشهير في باريس في 25 ديسمبر (كانون الأول) 1983 وكان بصحبة جيمس جويس وزوجته نورا، مثّلت حبا رهيبا في حياة بيكيت، حبا عاصفا باللذة والجنون. أميركية مثقفة تهوى جمع الأعمال الفنية، حذرته منها نورا قائلة له سرا: إنها ملتهمة رجال. بعد اللقاء تصطحبه فورا إلى بيتها وتقع بينهما واقعة غرام محتدم جمعت الليل بالنهار وألغت وقع الساعات والدقائق. غير أن امرأة أخرى تخترق هذه العلاقة اللاهبة مع بيغي. إنها الإيرلندية أدريان بيتيل، المتزوجة والمتحررة، وهي كانت في زيارة خاطفة إلى باريس. يعيش صامويل معها لحظات حب جنسي، ثم يعود إلى بيغي ليواصلا شبقهما وفي حسبانه ان حبهما الناري لن يدوم طويلا.

في ليل 7 يناير (كانون الثاني) 1938 كان بيكيت يمشي في الثالثة فجرا مع صديق له وزوجته على جادة أورليان الباريسية، عندما هاجمه قواد في الحي يدعى روبير جول برودون وطعنه في صدره بالسكين بعد تعارك بالأيدي. وقع أرضا متخبطا بدمه ثم نقل إلى المستشفى. هذه الحادثة كادت تودي بحياته ونجا منها بأعجوبة، فالسكين كاد أن يلامس القلب، وكان لها أثر عميق في حياته، وجودي وفلسفي وعاطفي أيضا. فلولاها لما كان تعرف إلى سوزان التي أصبحت زوجته بعد رفقة طويلة. في المستشفى زاره أصدقاء وبيغي طبعا التي تركت له باقة زهر لأنه كان تحت المراقبة. وبعدما شهد تحسنا وجد في غرفته مرة صبية تدعى سوزان جاءت تزوره بعدما قرأت خبر الحادثة في جريدة لوفيغارو. تذكرها بيكيت وتذكر أنها عازفة بيانو كان يراها في أحد النوادي العام 1929. زيارتها لم تكن عابرة فهي سرعان ما دخلت حياته في وقت كانت بيغي تتمسك به حبا وشهوة. وبعد شفائه وجد بيكيت نفسه حائرا بين بيغي الشهوانية وسوزان العازفة والمثقفة التي كانت تكبره بخمس سنوات. يحاول بيكيت الهرب من بيغي ليقترب أكثر فأكثر من سوزان ويقضي وقته معها. لكنه ظل على صداقة مع بيغي لا سيما بعد مصاحبتها الرسام السوريالي الشهير إيف تانغي.

لم تمض فترة حتى أعلن هتلر حربه المدمرة وراح يحتل بلدانا عدة: هولندا وبلجيكا ولوكسمبورغ ودخل جيشه فرنسا واحتل باريس. كان على بيكيت وصديقته سوزان ذات الميول الشيوعية، أن يشاركا في المقاومة ضد النازيين ويؤديا أدوارا شجاعة في حركتها. وهذه المشاركة في المقاومة تم التطرق إليها في معظم سير بيكيت.

تتمتن أواصر العلاقة بين بيكيت وسوزان بعد الحرب الثانية، مع أنها لم تألف سهراته في النوادي الليلية العابقة بالشراب والتدخين، ولا هو وافق على رغبتها في الإنجاب. يعيشان كل في غرفة من دون انقطاع في العلاقة. وعندما تقرأ مخطوطة "بانتظار غودو" تسأله: من هو غودو؟ مضيفة: هل هو الله؟ أليس غودو مشتقا من "غود" (الله بالإنجليزية)؟ هذا ممكن، يجيبها بيكيت بطريقة ملغزة. وعلى الرغم من قراره البقاء مع سوزان فهو لم يتوان عن خيانتها مرتين: مرة مع الأميركية باميلا ميتشل التي زارت باريس لتحصل منه على حقوق تقديم "بانتظار غودو" في برودواي، ووقع تحت سحر شخصيتها، وعندما غادرت باريس كتب لها يقول: "أحبيني ولكن قليلا، إنني لا أستحق هذا الحب، هذا يحعلني تعيسا، أنت لا تعرفينني". المرة الثانية مع البريطانية باربارا براي التي تصغره 18 عاما، والتي تعمل في الإذاعة البريطانية. لكن مثل هاتين الخيانتين ما كانتا لتؤثرا في حبه لسوزان، وفي العام 1961 يقرران الزواج ويبدآن حياة جديدة.

كتاب الكسندر نجار ممتع جدا، وقد صاغه في ما يشبه السرد والسيرة معا، متوقفا عند محطات بيكيت الغرامية وعند النسوة اللواتي شغلن حياته، الكئيبة والعبثية. ولعل وجه بيكيت هذا، العاشق والراغب في الحب روحا وجسدا، يكشف بضعة أسرار هي شبه مجهولة، ونادرا ما تم تداولها، في إطار كتاب واحد. وهنا تكمن فرادة الكتاب، بمادته المشوقة والعميقة وبأسلوبه الطريف الذي جعل بيكيت شاهدا على حياته النسائية.

· عن الاندبندنت عربية