راسم الجميلي.. مترجم الحياة العراقية بأفراحها وأحزانها

Wednesday 31st of May 2023 11:05:50 PM ,
5441 (عراقيون)
عراقيون ,

محسن العزاوي

لم يكن المرحوم راسم الجميلي ممثلاً مسرحياً وتلفزيونياً وسينمائياً فحسب أنما يعد راسم ظاهرة متميزة في الوسط الفني.. وهذا التمايز لايعود لتكوينه الجسدي الذي يؤهله للكوميديا. فهو قبل هذه البدانة المؤذية والتي كان يشكو منها على الدوام،

أنما يعود لمواهبه المتعددة.. وراسم كان ولازال قبل رحيله مؤهلاً لاداء المأساة والكوميديا معاً.. وهنا تكمن قدرة وعبقرية هذا الفنان في أن يبقى على الدوام بذاكرة المخرجين على شتى المستويات الابداعية ولهذا ترك بحق بأذهاننا الاثر الاكبر في أوساط أصدقائه ومعجبيه سواءً في العراق أم في سوريا.. ولو كان المرحومان طعمة التميمي وسليم البصري أحياء لقدموا شهادة غنية بحق هذا الفنان الموهبة.

يصر المرحوم على الدوام بأنه من ولادة عام 1937 مع علمنا أنه ولادة 1939 ولما كنت أتساءل لماذا يزيد عمره سنتين أدركت فيما بعد بأنه يود على الدوام أن يتقرب من الشيخوخة.. مفاخرةً واعتزازاً بأن العمر مهما طال أو قصر فستظل أثار الفنان في ذاكرة الناس على الدوام.

ولادته في محلة بني سعيد - بغداد، وتخرج من أكاديمية الفنون الجميلة.. وأثناء خدمته العسكرية طلبت منه دائرة التوجيه المعنوي أنذاك بتأسيس المسرح العسكري.. وأذكر أن أول مواجهة لي مع الفنان بعد عودتي من دراستي خارج العراق كانت مع النقيب راسم الجميلي أنذاك وعند أدائي له التحية العسكرية كان وقع هذا التصرف عليه شديداً للغاية ومؤثراً.. فأستدعى العريف المكلف بدخول المراجعين موجهاً له عتاباً شديداً وقاسياً قائلاً:

من خولك أن لا تسمح بدخول أستاذي ومعلمي.. فنظرت اليه مندهشاً بأن يقلل من أندفاعه الحماسي أزاء هذا الامر، وهذا اللقاء كان بمثابة الدرس الذي كنت أدعو له على الدوام بأحترام الرواد وهذا ماأكده راسم في السلوك والخلق والاحترام.. وعندما وجد في الجو العسكري مساحة ضيقة للكشف عن أبداعاته واجتهاداته المتنوعة، قدم طلباً الى رئيس الجمهورية أنذاك المرحوم أحمد حسن البكر مسترحماً بالنظر الى وضعه الصحي والبدانة التي بدأت تتسع لا بسبب ترفه أو شهية للطعام أنما السمنة تعود الى تكوين وجذور عائلية بحيث لم تسنح له كل المحاولات للتغلب عليها.. ومع تأكيدي ومعايشتي معه أثناء تنفيذ جميع المسلسلات التي شاركته أن وجباته الثلاث كانت تقتصر على وجبة ليلية واحدة.. لاتتسع بحجمها الى معدة طفل

راسم الجميلي كان بحق أنساناً خلاقاً يبحث على الدوام سبل مشاغلة الحياة بشتى صورها المأساوية والضاحكة بنفس الوقت.. فسعى الى تأسيس برنامج للاطفال (3 أسئلة) خاض فيها تجربة ناجحة لا لهدف شخصي للحصول على شهرة أو ثروة.. أنما تعود المجازفة هذه الى فهمه العميق وأدراكه الحقيقي لآهمية أن تتوسع مدارك الاجيال على معارف متعددة.. وقد أقترح عليّ قبل أقل من شهر برنامجاً ليعالج قضية أساسية في حياة الناس.. أطلق عليه عنوان.. من يكونون؟ أو من هم؟ مستلهماً مواضيع من كتب متعددة، قد بحث عنها في أروقة وأزقة دمشق القديمة.

والحديث عن يوميات راسم قد تطول لايام وأسابيع.. فهو قارىْ وباحث ومتقصي جيد..بدليل ان اصداره لاكثر من كتاب تناول في الاول(تاريخ بغداد) والذي اعتمد عليه الكثير من المعدين لبرامج اذاعيه خاصه ايام رمضان.. وكتاب (فنون الطباخة) والذي أورد فيه جميع أصناف المأكولات البغدادية والعراقية عامة وكيفية طبخها ولذلك لم يأت اعتباطاً لتقديم برنامجه الناجح 1/2 ستاو.

راسم الجميلي كان عضواً بارزاً في فرقة 14/تموز وأثر كثيراً في تطوير كفاءة العاملين فيها وهذا ماأدركته عند أخراجي مسرحية (مجدي من عفك) تأليف صباح عطوان وأخراجي كان راسم في مقدمة الملتزمين في الحضور ومعالجة المواقف الخاطئة أثناء العرض الذي أستغرق قرابة الثلاثة أشهر.. كان فيها المرحوم النموذج الذي يحتذي به بقية العاملين.. كان يحيط بالفنان طيلة مسيرته نخبة طليعيه من فناني الدراما العراقية بدأً من الاستاذ أسعد عبد الرزاق والمرحوم وجيه عبد الغني والفنان القدير قاسم الملاك والمرحوم فوزي مهدي وفاضل جاسم وحاتم سلمان.. وقد اثرى فيما بعد بخطوات أكثر عمقاً في فهم التوجه الحقيقي للمسرح فعمل بأخلاص وتفان مع فناننا القدير سامي قفطان.. في مسرحيات متعددة أراد الراحل من خلالها أن يرسم طريقه الكوميدي المسرحي الخاص وفق تصوراته وذاكرته الفنية الغنية بألافكار فاتفق مع زميله سامي قفطان بتأسيس مسرح دار السلام بذلا فيه جهوداً مضنية بعد تحويله من سينما أيلة للسقوط الى مسرح كان واحداً من المواقع التي حفزت جماهير غفيرة للتردد عليه.. وأن فاتني شيء بل أشياء كثيرة وطريفة عن حياة هذا الفنان القديرة فلا تفوتني ذكرياتي معه عندما عمل معي في مسرحية -حرم صاحب المعالي ومجالس التراث- ومهاجر بريسبان التي اعدت بأسم المحلة وكان فيها المحرك الاعظم بسبب الجدية والاداء المتقن كممثل له قدرة هائلة عندما يتحول تدريجياً من فنون الكوميديا الى فنون التراجيديا باسلوب سلس يؤكد حضوره كمجتهد عندما يتناول الشخصية ويحللها وفق تصور قد لا يصل اليه مخرج العرض.

كان أنتسابه الى الفرقة القومية قد فتح أفاقاً واسعة لكثير من الفنانين ممن يتميزون بالقدرة والاثر الطيب بعد كل عرض مسرحي حيث أن مجرد أشراك راسم في أي عرض مسرحي كان يمنحه طعماً ومذاقاً خاص به.

راسم الجميلي (رحمه الله) كان حلقة مؤثرة في سلسلة أنجازات فنية رائعة.. وكان رقيق الفؤاد، بدليل حزنه الدائم على كل ضحية أو شهادة عراقي.. وكان شديد التعلق عندما يتحدث عن الوطن والناس الابرياء الذي يستشهدون قتلاً أو غدراَ.. فهو فنان قدير كان له وعياً خاصاً بأهمية الحياة وكان مسعاه على الدوام أن يترجم هذا الوعي والمخزون الثقافي المتنوع لديه الى حقائق مما أثرت أنسانيته وجعلته في مصاب فناني الشعب.

قد تكون شهادتي بحق هذا الفنان الكبير ناقصة في موقع ما ولكن يكفي أن تغني شهادة أستاذنا الكبير يوسف العاني وفناننا المبدع قاسم محمد. وزملائه المقربين سامي قفطان - وزهير محمد رشيد - ودكتور علي حنون وعشرات منهن ومنهم. خصوصية هذا الانسان الطيب والمثقف والوطني الا ان الوقت للآسف قد فات لكي نقنع (أبا علي) بأن ما سرق من كنزه وماخرب - وهي مكتبته التي يتحدث عن محتوياتها على الدوام بأن شعباً بأكمله قد سرق ونهب.. وكما حزن البارحة قاسم محمد على تراثه الثقافي الذي نهب من بيته غفلةً من الجهلة والاميين ونقل على أثره الى الانعاش تحت صدمة موجعة.. تمنيت على الاخرين التمسك بالمثل القائل (الحال ولا المال) أنطلاقاً من قناعتنا بأن مسيرة الحياة متواصلة وأن ما تبقى من أعمارنا هو رهن للقدر وقدرة الله سبحانه وتعالى هي الاسمى والاكثر نبلاً من البقاء في مذلة الغربة والبعد عن الوطن بما فيه الاهل والاحبة والبيت والمكتبة.