Wednesday 24th of July 2024 11:39:45 PM ,
فاضل ثامر
يعد الروائي الراحل غائب طعمة فرمان أحد الرموز الثقافية الكبيرة التي دشّنت مشروع الحداثة الروائية من خلال روايته الرائدة "النخلة والجيران" التي أعقبها برواية "خمسة أصوات". صدرت الرواية الأولى عام 1966، والثانية عام 1967.
وليس معنى هذا أنّ الرواية الحديثة لم تدخل العراق قبل هذا التاريخ، فقد عرفت الثقافة العراقية الرواية الحديثة منذ مطلع القرن العشرين وبالذات منذ مطلع العشرينيات من خلال رواية "جلال خالد" للروائي العراقي محمود أحمد السيد. أعقبتها مجموعة تجارب لذنون أيوب، وعبد الحق فاضل، وعبد المجيد لطفي، وجعفر الخليلي، لكنها لم تتجاوز عتبة البدايات البسيطة في العمل الروائي.
يمكن أن نقول إنّ التجديدات التي دخلت الكتابة القصصية والسردية التي دشنتها تجربة التكرلي وعبد الملك نوري في نهاية عقد الأربعينيات، قد شكلت عنصراً مهماً وأساسياً في خلق حساسية ثقافية وفنية جديدة تعتمد كثيراً على أسلوب الكتابة الحديثة، منها توظيف المونولوج الداخلي ومحاولة أسلبة حوار الشخصيات من خلال اعتماد الكلام المحكي في هذا المجال. وهكذا استطاع غائب طعمة أن يؤسس على هذه الأرضية العراقية إذا جاز التعبير، بالإضافة إلى إفادته إلى حد ما من الروائي نجيب محفوظ. إذ قدم فرمان تجارب تتضح فيها هذه الأرضية وهذه التأثرات. لكنّ هذا لا يعني أنّه كان مستلباً بهذه التأثرات، بل بالعكس، فأنا اعتبره مجدداً بدءاً من روايته "ظلال على النافذة" وهي عمل يتمتع بخصوصية واضحة. أما رواياته اللاحقة التي كتبها تحت إيقاع المنفى المؤلم، فكانت فعلاً مؤثرة.
استطاع غائب تطوير لغة سردية وقصصية مناسبة لحركة الأحداث والشخصيات تبتعد عن اللغة الصحافية والأسلوب البلاغي التقليدي في الوقت نفسه، لأنّها أصبحت لغة حداثية ويومية أيضاً. بنيات الروائي غائب طعمة هي بنيات درامية وصراعية وبنيات مسرحية متكاملة، بحيث أنّ عملية التحويل للصياغة المسرحية ميسرة مثلما وجدنا كيف تحولت "النخلة والجيران" إلى عمل مسرحي ناجح وموفق من خلال عرض قدمته "فرقة المسرح الفني الحديث" في العراق. لنقل إنّ غائب طعمة فرمان تجربة خصبة ومهمة في مسار التطور الروائي، وضع اللبنات الأساسية التي ساعدت لاحقاً على إنضاج تجارب كبيرة مثل تجربة فؤاد التكرلي في رواية "الرجع البعيد". تجارب غائب اتسمت في وقت باكر باحتوائها على تعدد صوتي أي بنية بوليفونية، أي أنّ الشخصيات تحاول أن تعبّر عن منظوراتها الفكرية والحياتية والرؤيوية والسياسية دونما تدخل من قبل المؤلف أو من قبل ذات المؤلف الثانية، فكانت إيذاناً مهماً بهذا التأثير المباشر للرواية البوليفونية، وابتعدت عن أحادية الصوت أو المونولوجية.
غائب شخص ملتزم اجتماعياً، لكنه لا يقحم تصوراته ولا يفرضها على شخصياته، بل يمنحها حرية أن تفكّر وتعبّر عن وجهات نظرها ورغباتها. ففي روايته "المخاض"، هناك محاولة للترميز العميق أو ما يمكن أن نسمّيه الترميز المتوازي حيث البطل الذي عاد إلى العراق بعد غربة طويلة يبحث عن أسرته التي انتقلت إلى مكان مجهول وفقد الاتصال بها. هذا في واقع أعقب أحداث ثورة 14 تموز مباشرة وسط حالة من القلق السياسي الذي تسيد المشهد، فضلاً عن الصراع السياسي المعروف بين اليسار واليمين ووسط حالات التذبذب والتمرد. إذ برز بحث عن حلّ آخر ربما مثلته الشخصية الثانوية في الرواية (عبد الصمد) للخروج من هذا المأزق الذي أعقب الثورة ولم يستطع أن يواصل مشروع التغيير الثوري والاجتماعي حينذاك حيث انتهى الأمر بانقلاب اليمين وسيطرته على البلاد. كانت عملية البحث في الرواية، تتوازى والقلق الناجم عن عدم وضوح الرؤية لإيجاد بديل التغيير. لذلك مثلما عجز البطل عن العثور على أسرته في نهاية المطاف، بقي مشهد الصراع مفتوحاً على تأويلات كثيرة في المجال. كان غائب نقطة شروع في تحديث الرواية وإدخالها في مشروع العصر الحداثي الذي وجد ضالته لاحقاً في تجارب السبعينيات والثمانينيات ومطلع الألفية الثالثة عندما ظهر جيل كبير من الروائيين العراقيين ممن أصبحوا ينافسون الروائيين العرب وروائيي المنطقة في تحقيق إنجازات على مستوى الرؤية والأسلوب والسرد والبنيات الداخلية.
· عن جريدة الاخبار اللبنانية