غارات الثور المجنح ..غرائبية المأساة.. سحرية الحدث

Saturday 17th of September 2011 05:21:45 PM ,

ملحق اوراق ,

عرض: باقر صاحب
يمكن القول إن نصيحة الراحل ص لسليم الوردي بمواصلة الكتابة الروائية نصيحة موضوعية حقا، الخياط قرأ رواية (غارات الثور المجنح)وأعجب بها، فحفز الباحث في علم الاجتماع أ.د.سليم الوردي على الاستمرار، لأن الأخير نجح في كتابة رواية حاضنة لمقومات الإبداع الروائي .

استثمرت الرواية ملامح تحضرنا قبل آلاف السنين لتأشير مواضع حياتنا السيئة في الوقت الحاضر ومعالجتها، بساطة اللغة في الرواية وألفة الأمكنة التي تجري فيها أحداث الرواية تجعلان متلقيها متابعا بجلسة واحدة لتطورات الحدث الرئيس فيها، ولابد من القول إن عنوان الرواية ملق بظلاله على متنها...حكاية غرائبية عن منحوتة (الثور المجنح) أحد رموز الفن الآشوري في العراق القديم، وانعتاقه من أساره، كما تجيز لنا أحداث الرواية توصيف انتصاب الثور المجنح على خطوط عبور السابلة في الشارع المؤدي الى كراج العلاوي، منفلتا من مكانه التقليدي في البوابة الرئيسة للمتحف العراقي.
بدءا يهيئ الوردي لهذا الحدث الغريب بسرد جغرافي لمنطقة العلاوي، الموقع الرئيس لأحداث الرواية، ومن ثم يقدم أولى الشخصيات، شرطي مرور في ساحة المتحف ،بتسميته الشعبية (أبو إسماعيل)، يحرص غالبا على تأمل نبض الحياة الصاخبة في منطقة العلاوي، وهو ممن شهدوا حادث انتصاب الثور المجنح في خطوط العبور، ما أحدث إرباكا وفوضى ورعبا لدى السلطات في العهد الغابر، تتخوف من أي شيء بسيط تجهله، ومن ثم تخشى أن تبدو للناس أنها غير قابلة على احتوائه، كتبت هذه الرواية ابان حرب الخليج 1991، ولكن الوردي يكتب في غلافها الأخير (ربما كان بذهني وأنا اكتبها ثمانينيات القرن الماضي) .
للقارىء أن يستكنه دلالات الأمكنة التي يحط فيها الثور المجنح الذي يمكن وصفه بالبطل الرمزي للرواية، فبعد الجهد البوليسي لإرجاع الثور الى بوابة المتحف، ينطلق إلى جسر عبور المشاة القريب من كراج العلاوي، وهو جسر مهمل لا يستخدمه المشاة، بل يمرون تحته مسببين فوضى وحوادث سير أكدها الوردي في روايته، تدخل في غمار الهروب الثاني للثور شخصية مجيد الصحفي، يقتنص اخبار الشارع كي يثبت كفاءته الصحفية ولكنه مهمش مشيرا إلى معايير أخرى في التقييم غير الكفاءة منها الولاء للسلطة أولا، يكتب مجيد تقريرا عن هبوط الثور المجنح على ذلك الجسر، منتقدا مديرية الآثار على إهمالها مقترحا وضع التمثال قرب نصب مسيرة الأمة المواجه للمتحف، يختفي ذلك الصحفي في ظروف غامضة !
يعرج الراوي كلي المعرفة في الرواية إلى إضاءة طرق تجنيد أجهزة الدولة الأمنية للناس كائنا من كان، فيجندون (أبو اسماعيل) مخبرا يكتب لهم التقارير الأمنية عن انفلاتات الثور المجنح وغاراته، بعد أن كافؤوه على سعيه على عدم هروب الثور من السلاسل والأرضية المرمرية، كي تعيقانه عن التململ والهروب، لكنه يهرب بعد أن ترك (أبو إسماعيل) في مشهد كوميدي ممسكا من عل ببروز في نصب المسيرة طالبا النجدة، أصاب (أبو إسماعيل)التململ من تحول غامض جرى في حياته المستقيمة وعدم قدرته على الإيفاء بما يجهل أنه أصبح( شرطي أمن)، وعندما يسر بذلك للشخص المكلف بالاتصال به، يصده الأخير،إن تكليفه لارجعة عنه، استمارته الشخصية فيها أدق التفاصيل،لا يعرفها حتى (أبو إسماعيل) محفوظة لدى المحقق الخاص بقضية الثور المجنح .
الخيط الخفي لدلالات الغارات التي يشنها الثور المجنح، يكشفه المهندس محسن في أمانة بغداد، وهو كما الصحفي المفقود مجيد كفوء وخبير في الأعمال الهندسية والمشاكل التي تواجه أمانة بغداد في مشاريعها، لكنه مبعد أيضا بسبب عدم ولائه السياسي، وكذلك لموسوعيته فهو مثقف وقارئ جيد لكتب الأدب،الفن والفلسفة ، هكذا أنموذج تتململ منه حاشية أي أمين جديد للعاصمة آنذاك، يقربه في بداية خدمته ومن ثم يستبعده بعد أن يسمع أقاويل هذه الحاشية كونه غير مرغوب بينهم لابتعاده عن صفقاتهم وفسادهم. يستعان بالمهندس محسن لمعالجة آثار الغزوة الثالثة للثور المجنح على الركن الجنوبي لكراج العلاوي، يستخدمه السابلة والمسافرون للتبول هناك لعدم وجود دورة مياه صحية، لائقة ونظيفة.
غارات الثور المجنح على الركن الآسن تصنع حفرا عميقة تتدفق منها مياه جوفية إلى أعلى، تطهر كل أروقة الكراج وزواياه . أخذ محسن يتأمل أسباب غارات الثور على مواضع معينة، يتكشف له أن سلسلة غارات الثور المجنح ينتظمها خيط الانقضاض على معالم التخلف والفوضى في بغداد، هي جزء من سياسة نظام يريد أن يبقي كل شيء متخلفا لأن القضاء على بؤر التخلف الواحدة بعد الأخرى، يعني الوصول إلى البؤرة السياسية الرئيسة – رأس النظام .شرح محسن لأمين بغداد ظاهر الأمر من دون بواطنه السياسية، ومعالجته تتم ببناء مرافق خدمية صحية وفق تصاميم حديثة تليق ببغداد، وافق الأمين بعد مشاورة الجهات العليا، وبميزانية مفتوحة أكمل المشروع بإشراف وتنفيذ محسن، لذلك أبطل الثور المجنح إغاراته على هذا الركن بالذات .
يجنح الثور المجنح بعد ذلك إلى مواطن خلل تمثل انعدام العدالة الاجتماعية واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء في عراق الثمانينيات من القرن الماضي، أغار على السوق الحرة، على الممتلئة جيوبهم بالدولارات يقتنون بها ماشاؤوا في حين يبيت معدمون على الطوى هم وأطفالهم، أغار على جناح لعب الأطفال، وحلق بعيدا حيث إحدى رياض الأطفال، راميا بذلك تحقيق إنموذج للعدالة الاجتماعية بتوزيع مغانم غارته في سوق الأغنياء على أطفال هذه الروضة، الوردي سعيا منه إلى شد المتلقي للعبته الروائية الغريبة، يخلق تداعيات منها تسلق ثلاثة أطفال ظهره، كانوا ثلاثة أطفال أشقياء(سيف،ميسلون وسرمد ) يحتكرون اللعب على (الزحلوقة)الوحيدة في ساحة رياض أطفال مجدبة
ومن ثم يحلق بهم بعيدا، وهو ماسمته الأجهزة البوليسية عملية اختطاف
متخذة كل الأساليب لاحتواء أي عمل يعكر صفو أمن الدولة ،مثل إغلاق المدارس والرياض بحجج أخرى ماعدا التحدث عن أفعال الثور المجنح، التحقيق حتى مع أطفال صغار شاهدوا غارة الثور وتحليق الأطفال الثلاثة وهم في سعادة .
ولكن لن يدوم عدم التحدث عنه لن يدوم طويلا، وعند ذاك يبتكر الجهاز الأمني طرقا شيطانية لامتصاص ردود أفعال الشارع إزاء الإغارات الغرائبية للثور المجنح، بالتأكيد لن يتفجر غضب ما في هذا الشارع، ولكن الدولة البوليسية تبتكر طرق غسيل أدمغة باستمرار، فتنفذ شركة التأمين لعبة مخابراتية بإصدار (بوليصات ) تأمين لحياة الناس ضد خطر الثور المجنح، ويروج الإعلام المغزى السياسي لظاهرة الثور (التخريبية)مايجعلنا نتذكر الخطاب الشعاراتي لهذا الإعلام آنذاك،هناك أجندات مؤامرة خارجية ينفذها الثور! ونتذكر أيضا خطاب الأنظمة العربية التي يتفعل فيها لهيب الثورات الآن.
يبتدع الروائي ما يجعل المتلقي متابعا بشغف وتأمل تفرعات بؤرة الحدث الرئيس في الرواية، مثل وقوف الناس طوابير طويلة للحصول على بوليصات التأمين الوهمية، طوابير امتدت من مقر الشركة في( الفناهرة) إلى أزقتها وسوق هرج في الباب الشرقي والفضل، وامتد الارتزاق منها إلى مكاتب الاستنساخ والمصريين والسودانيين بالاتفاق مع المسؤولين عن توزيع (البوليصات).
لا أعتقد هناك مبالغة في القول أن هذه رواية الواقعية السحرية عراقيا
تشهد بذلك نهاياتها...حيث شوهد الثور المجنح محلقا فوق ساحة السباع الواقعة بين شارعي الشيخ عمر والكفاح لثلاثة أيام متتالية، فأدركت السلطات المشرفة على ملف الثور المجنح أن ساحة السباع عمليته المقبلة ، أعدت للأمر جيدا، أن تقبر الثور المجنح وإلى الأبد، استدعت المهندس محسن، الذي حلل الأمر بأن هناك خللا في هذه الساحة قائلا (لتفادي غارة الثور المجنح،علينا الإسراع بصيانة ساحة السباع وتشغيل نافوراتها فهي مهملة منذ سنوات طويلة )ص57، هذا الحل لم يرق لهذه السلطات، لأن الاستمرار بتلبية مطالب الثور المجنح، يعني أنه سيوغل في مطاليب تعجيزية قد تصل إلى رأس النظام كما قلنا، وهنا بدأ المحقق الخاص بملف الثور المجنح يشكك بوطنية المهندس محسن ملوحا أن استمارته الشخصية مدونة فيها أدق التفاصيل تحت يده، أسلوب التهديد واضح حتى لمن يطالب بتحسينات خدمية، كماوضوح أن الثور المجنح- البطل الرمزي في الرواية هو رمز الشعب في حضارة ماضيه وآلام حاضره وتطلعاته.
قيل لمحسن (لقد تقرر وضع حد لهذه المهزلة .الثور المجنح يجب أن يدمر وبأي ثمن )ص159، احتجز بأساليبهم البوليسية، كي يفكر بحل ليوم واحد ، بتنفيذ عملية هندسية خيالية لطمر الثور المجنح تحت الأرض، استخدمت فيها طائرات مروحية أسقطت مظلة معدنية مشبكة على الثور المجنح بعد هنيهات من إغارة الأخير على ساحة السباع فسقط في وحل حفرة عميقة فيها أعدت مسبقا وأكملت العملية بدفن الثور والحفرة معا بأطنان هائلة من الخرسانة،عمل شيطاني، بعد أن أشرف على تنفيذه محسن، جلس في خراب الساحة يبكي موت ضميره الوطني والحضاري .
هذا الضمير مقبور طبعا لدى الرأس الأعلى للقمع والاستبداد وحاشيته ،الوردي الباحث في علم الاجتماع والروائي يلتقيان في التأكيد أن التقدم والاستبداد لن يلتقيا، وكما الروائي استملح لعبته الروائية الغريبة، تستمر الدولة وإعلامها المركزي في غسيل أدمغة الرأي العام ،فتصدر بيانا شاملا بشأن ماجرى، بأن الثور المجنح ليس إلاحلما مشتركا حلمت به كل قطاعات الشعب، مايدل على وحدة الشعب في الهموم والآمال، كنا نسخر من خطابات ذلك النظام وبياناته:( لقد تأكد للجهات المختصة بشواهد لا تقبل الشك، أن جميع أبناء الشعب العراقي العظيم اشتركوا ليلة البارحة في رؤية حلم واحد، حلم غريب حافل بتفاصيل تكاد تكون واقعية، حتى ليخيل إلينا، إنه لم يكن حلما بل حقيقة واقعة، وقد تستغربون عندما نكشف لكم أنه كان حلما ...حلما مشتركا) ص 170، بيان السخرية هو جوهر الرواية : حلم غريب حافل بتفاصيل تكاد تكون واقعية.
*غارات الثور المجنح،تأليف :سليم الوردي ، منشورات دار ميزوباتاميا- بغداد/شارع المتنبي –ط 1 -2011 .