حارس الانسان

Friday 23rd of July 2010 04:34:38 PM ,

منارات ,

علي حسين
يشعر المثقف العربي بالاسى والاحباط وهو يري ان زمن الكبار اوشك على الرحيل.. وان الثقافة العربية اصبحت اليوم شبه خاوية وهي تفقد رموزها واحداً تلو الآخر حيث كان آخرهم المفكر والفيلسوف الكبير محمود امين العالم الذي اقترن اسمه بالماركسية ورافق طوال اكثر من سبعة عقود الحركة الشيوعية في الوطن العربي

متخذاً من المنهج الماركسي طريقاًَ في الدفاع عن الحرية والديمقراطية والتغيير الاجتماعي مما صيغ انجازه الفكري بالتنوع بين الفلسفة والادب والترجمة والتراث وقد خاض في جميع الميادين حركته الكبيرة المتواصلة المخلصة في صف التقدم والعدل والحرية مقاوماً الظلم والتخلف والاستبداد بل لعله زاد على اقرانه المفكرين والكتاب باشتباكه العملي السياسي في المعارك اليومية الميدانية،
وفي السجال الواقعي المستعر بين قوى التخلف والرجعية وقوى التقدم في عالمنا العربي مجسداً نموذجاً ناصعاً للمثقف العضوي الذي لايكتفي بإبداعه الفكري بل ينغمس كذلك في مجريات المواجهة على الارض كي تخص الثقافة بالناس ويتحصن الناس بالثقافة.
* * *
منذ صدور كتابه في الثقافة المصرية الذي اصدره مع عبد العظيم انيس عام 1955 وهو الكتاب الذي حمل اصداء المعركة الشهيرة مع طه حسين والعقاد بشأن مفهوم الادب والعلاقة بين الشكل والمضمون وموقف الادب من قضايا الانسان توالت معارك العالم الثقافية في سبيل ترسيخ منهج ثقافي قائم على الاهتمام بقضايا الانسان مؤمناً بان الثقافة لايمكن لها الا ان تكون جزءاً من النسيج الاجتماعي للمجتمع العربي هكذا توالت كتابات العالم ليصدر العديد من المؤلفات ابرزها معارك فكرية، الثقافة والثورة، تأملات في عالم نجيب محفوظ، ماركيوز او فلسفة الطريق المسدود، الانسان موقف، الوجه والقناع في المسرح العربي، الرحلة الى الآخرين، البحث عن اوروبا، توفيق الحكيم مفكراً وفناناً، ثلاثية الرفض والهزيمة، الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي، الماركسيون العرب والوحدة العربية، مفاهيم وقضايا، اربعون عاماً من النقد التطبيقي، الفكر العربي بين الخصوصية والكونية، مواقف نقدية من التراث، الابداع والدلالة، اضافة الى اشرافه على دورية وقضايا فكرية، التي ظلت تصدر طوال ثلاثين عاماً، كان فيها العالم يقدم مناقشات وتساؤلات عن ابرز القضايا التي تهم الفكر العربي المعاصر.
وفي مجمل كتاباته كان العالم يقدم للقارئ سيرة ذاتية لنضال رجل آمن بفكرة الانسان..
ومن هنا نجد صعوبة فصل مجمل ماتركه العالم عن حياته.. انها اكثر من تعبير شامل عن افكاره ومفاهيمه.. انها يومياته وتفاصيل هذه اليوميات.. وبقدر مايلتصق العالم بالحياة وتجاربها بقدر مايبتعد عن الوقوع في فخ الفلسفة الجامدة والثابتة، فالفلسفة لايمكن لها ان تعاش كفكرة مجردة او شكل من اشكال المفاهيم والقوانين المتعالية على الناس.. انها جزء من حياة عامة وبهذا تكشف اعمال العالم عن انفراده في قراءة المشروع الثقافي العربي وحيوية قل نظيرها عند المفكرين العرب المعاصرين وتدل ايضاً على طبيعة تفكير هذا المفكر الذي لم يتخل عن ثوابته في احلك الظروف وايضاً عن خطاب فكري حيوي يفتح باب التساؤل امام العقل كي يدفع القارىء الى متابعة كل جديد والتعرف على ابرز مدارس الفكر العالمي واقامة علاقة متصلة، بمجمل المجالات المعرفية، كما ان هذه الكتابات تدل في الدرجة الاولى على انفتاح هذا المفكر على كل ما هو جديد وقد ساهمت هذه الحيوية في ابتعاد العالم عن الجمود الفكري الذي اتصفت به المدرسة الواقعية الاشتراكية في الخمسينيات لينطلق الى آفاق أرحب مستمداً من افكار معلمه ورائده جورج لوكاش منهجاً فتح به باب الجدل والنقاش في مفهوم الواقعية وعلاقتها بالمدارس الفكرية المعاصرة.. ولم يكتف العالم بذلك بل ذهب ابعد من ذلك إذ حاول ان يقدم تعريفاً بالبنيوية والاتجاهات الفكرية المعارضة لها فكان كتابه البحث عن اوروبا الصادر عام 1966 اول كتاب عربي يناقش بموضوعية فكرية آراء ليفي ستراوس، ورولان بارت ولويس غولد مان وهكذا كانت كتابات العالم بداية التعرف على المتغيرات الجديدة في عالم الفكر الغربي ليأخذنا في سياحة فكرية ممتعة متنقلاً من مناقشة آراء جورج لوكاش الى الوقوف بحزم امام طروحات ماركوز ونقد اجراءات البنيوية بدءاً من شتراوس وانتهاء بجاك دريدا وهي كتابات تبرز منهج العالم الذي امتاز بالمتابعة والجدية والاشتباك العقلي مع كل القضايا الفكرية المعاصرة وهي ميزة ظلت تلازمه حتى آخر ايام حياته اذا ما عرفنا ان العالم كان قد نشر له في يوم وفاته آخر مقال له وهو مقال يرد فيه على كتاب (فأن القصيدة الخرساء) للشاعر عبد المعطي حجازي وهو الرد الذي ينتصر فيه العالم لقصيدة النثر مراهناً على تأكيد انتمائها للمستقبل.
كعادة الموتى يوغل العالم في الصمت.. لكن أي صمت لرجل ظل طوال ستة عقود مالئ الدنيا وشاغل الفكر.. فهو حين يوغل في صمته فأن آثاره ومعاركه الفكرية وكتبه ودراساته وطلبته يوغلون في الحوار يراجعون بكل حب كلمات معلمهم وينتزعون منها طريقاً للمستقبل ومهما تنوعت الاساليب التي استخدمها العالم في التعبير عن آرائه وانكاره ومهما دخل في فكره من تطور بقي عنده مقصد واحد جلي لم يمل عنه اطلاقاً هو الوجود الانساني وكما كان فلاسفة الماركسية الاوائل يسعون الى ان يكونوا (حراس الحياة) في فلسفتهم سعى العالم ان يكون (حارس الانسان) في فكره ونضاله وفلسفته.