نوري السعيد باشا يتحدث الى اخر ساعة.. 10 نصائح لكل سياسي في الشرق

Sunday 6th of October 2013 06:42:21 PM ,

ذاكرة عراقية ,

بيروت – من ناصر الدين النشاشيبي
حديث كالهمس، وكأنه يخشى على حديثه من نفسه!
وفي نظراته خيوط من صفاء تريد منك ان تنسى كل شيء لتؤمن فقط بقوة النظرات وتثق بشخصية صاحبها.. ووجه يحمل هموم الخامسة والستين .. وما زال في وداعة الطفل.

كتلة الوان متناقضة تلد دراستها: الحذر في الاطمئنان ، والصراحة في الغموض، والقسوة في خلق دبلوماسي!
مجموعة سياسية يحملها انسان.. سره في اعصابه!
هي عند العراق: عربية.. عالمية! وعند الغرب: عالمية .. عراقية! وعند العالم: عراقية.. عربية! هوايتها السياسية في الداخل والخارج.. وما وراء البحار.
وصنعتها: رئاسة وزراء العراق.. في الحكم وخارج الحكم!
واسم صاحبها نوري السعيد!
على شرفة احد منازل "عالية" في لبنان، جلس داهية العراق يرقب مواكب السيارات القادمة من بيروت وهي تلتوي مع الجبال الشامخة فتسابق الريح، لتنقل في جوفها الاف المصطافين والزائرين.
واحست ان في نفس نوري السعيد رغبة ملحة في الصمت! لا يريد ان يتكلم ، وان تكلم فلا يريد ان يكون حديثه في السياسة، انه هنا وحده، يعيش مع ذكريات الامس ومشروعات المستقبل.
اما الحاضر!..
وفجأة، رن الجرس الخارجي ، وفتح الباب عن شخص يسال الخادم في لهفة، دولة الباشا موجود؟ فيقال له: لا! الباشا مسافر! ويغلق الباب..
ويبتسم نوري السعيد..
وقبل ان يعاود صمته المطبق، الذي لم يرده ان ينتهي، سمعت نفسي اقول له:
- ليس غريبا ان يبحث الناس عنك او تحاول الصحافة ان تظفر بك، فانت في نظر الناس والصحافة والمجتمع السياسي اسطورة من الالغاز والاحاجي، كلها غموض، وكلها اسرار، و"الشاطر" الذي يكشف "لنفسه هذه الاسطورة او يحل الغازها المطبقة..".
وكان هذا القول كفيلا بان يجعل نوري السعيد يتكلم.
لقد صحا فجاة من حلمه الطويل، والتفت الى في هدوء ليقول:
- لست مسئولا عن اراء الناس في شخص نوري السعيد! ولكنني، في طبعي وطبيعتي وخلقي السياسي، ابعد الناس عن هذه الصقات الغريبة التي تحمل معاني الغموض والدهاء والسر الدفين..؟
واستطرد نوري السعيد يقول:
- لو قدر لي يوما ان احاضر في الصفات المثالية للرجل السياسي في الشرق، لرأى الناس ان صفات "الاساطير والاحاجي والالغاز". ليس لها في قاموسي السياسي مكان!".؟
قلت له:
- ومن غيرك يستطيع ان يبحث في هذه الموضوعات،! انك سياسي مخضرم عركت السياسة وعركتك اسرارها، فعشت بها ولها نيفا وثلاثين عاما في هبوط وصعود، وثورات وحروب، وانقلابات.. مرة الى كرسي الحكم.. ومرات الى خارج البلاد.. وانت كما انت، تحبس العصة وتنتظر الفرصة.. وتؤلف الوزارات!
فهلا تكلمت الان؟ هلا تحدثت الى "آخر ساعة" وحملتها رسالتك الى رجال السياسة في الشرق العربي؟ لقد اصبحت السياسة عند العرب هواية يعشقها كل انسانن واصبح الزعماء اكثر عددا من افراد الشعوب، فلماذا لا تتكلم ؟ لماذا لا تقول لهم – وانت السياسي الناجح – ان السياسة فن، له حرمته وله قدسيته، وله مؤهلاته وشروطه.؟ حدثهم عن هذا الفن وعن هذه المؤهلات وعن تلك الشروط.. تكلم!
وراح نوري السعيد باشا يتكلم..

10 وصايا سياسية !
* احتراف السياسة وسيلة لا غاية:
قبل ان تكون سياسيا، سل نفسك لماذا تريد ان تكون سياسيا، حدد اهدافك ومشروعاتك وادرس نواحي طاقتك على تحقيق هذه الاهداف والمشروعات. على السياسي واجبات تفوق حقوقه كمواطن.. فهل فكرت في هذه الواجبات. السياسي مسئول نحو حزبه، ونحو وطنه، ونحو نفسه، مسئول لرفع مستوى بلده ومعالجة قضاياه. مسئول عن اختيار المجالس النيابية وممارسة حقه الطبيعي في هذا السبيل. ان العمل السياسي خاضع لقدرة الانسان على ممارسته. فهل درست طاقتك؟ لتضمن نجاحك!!
لا يكفي ان يقول الناس عنك انك سياسي، بل عليك ان تضمن جوابك للناس ان تساءلوا: ماذا يشغلك كسياسي! ما هي امالك؟ اين جهودك؟ اين رأيك وصوتك؟ اين وسائلك.. لخدمة وطنك وامتك.. اين منهاجك!

* ان اردت ان تكون سياسيا، فكن طموحا:
وقال نوري السعيد:
لا نجاح لرجل السياسة ان لم يكن طموحا، اقول الطموح ولا اقول الانانية وانادي بالتحفز وتبنى الامال الواسعة والتطلع الى المستقبل بعزم وثقة واطمئنان لا يكفي ان تقضي عمرك عضوا في حزب او وزيرا في وزارة. لماذا لا تكون انت زعيم الحزب، ورئيس الوزارة؟ يجب ان لا يغريك او يعزيك وضع بلدك على ما هو عليه.. بل يجب ان يكون لديك الطموح لتعمل على توسيع رفقة بلدك، على زيادة موارده، على رفع مستواه، على قبوله المكان الاسمى بين الدول في العالم..
ان الطموح عامل اساسي في حياة كل سياسي ناجح.. طموح ذاتي، وطموح عام لخير البلد .. وخير العالم وخير الانسانية!

* السياسة تضحية:
ان حياة السياسة كلها تضحيات، والسياسي الناجح هو الذي يرضى بان يضحي بكل شيء في سبيل مبدا.. او حزب.. او وطن! في بلد كبريطانيا، يتقاضى المحامي اضعاف اضعاف المرتب الذي يعطى لوزير، ومع ذلك يدخل الانجليزي الوزارة عن طيب خاطر مضحيا بالمال.
ان حياة السياسة، وحياة الحكم، تحرمان السياسي من عضوية الشركات، من الاعمال الحرة من ميادين الاقتصاد. من حياة الراحة والدعة وهدوء البال.. من التتمم بالامن والطمأنينة والسلامة احيانا.. من رعاية اهله واولاده واقربائه.. من ممارسة حقوقه في الاعتناء بصحته واعصابه.. من تغذية روحه بتيارات العلم والادب. والسياسي والناجح هو الذي يضحي بكل هؤلاء.. في سبيل نجاحه كسياسي محترم!

* السياسة صراحة وصدق.. والعكس غير صحيح!!
وعبس السياسي التعلب وهو يقول: نعم! اقول هذا واؤكده، والرأي القائل بان السياسة كذب وتملق ونفاق، رأى ضعيف، ليس من صفات الناجحين! السياسي الناجح هو السياسي الصريح الذي يستطيع ان يجاهر برايه ولو كلفه ذلك تحمل الوان الاذى والضيم والعذاب..!
السياسي الناجح هو من يقول لا! ويعني بها لا! ويقول نعم، ويعني بها نعم!
اما الغمو والبلبلة والكذب فليست من صفات السياسة.. ولا من صفات الرجال!

* السياسة الايجابية.. هي السياسة الناجحة!
ويقول "السياسي".. نوري السعيد: السياسة السلبية.. سهلة، في استطاعة كل انسان ان يمارسها، اما سياسة الايجاب فهي محك الساسة الناجحين!
لا يكفي ان تقول لا.. لا اريد.
بل عليك ان تقول بعدها: ماذا تريد!.. لا يكفي ان تحمل معول الهدم، بل عليك ان تعمل للبناء والانشاء، لايكفي ان تلغي وتنسف وتعارض وتنتقد، بل عليك ان تبادر الى وضع الاسس الى بناء شيء آخر مكانه..

* تحمل المسئولية.. لكي تنجح!
لامكان في سفينة السياسة الناجحة، لما يسمونهم بفئران السفينة! اذا غرقت هي، هربوا هم! ان الربان الناجح من يتحمل مسؤولية سفينته.. ويسير بها الى شاطئ السلامة.. ويذلل ما يعترضها من امواج ورياح واعاصير.. ويسهر على سلامة ركابها.. ويتجه بها نحو مواطئ السلام.. ويبذل في سبيل ضمان سيرها كل جهد وخبرة وذكاء..!
فاذا تعرضت للفرق.. كان آخر من يتركها .. وقد يفرق معها!
ان الشعور بالمسئولية، وتحملها شيء ضروري، شيء عظيم.. في حياة السفينة، وحياة الامم والاوطان!

* السياسي الناجح.. سياسي شجاع؟
"ان كان للسياسي مبدأ قد اعتنقه.. فليجاهر به! هل هو معارض؟ هل اهو مؤيد؟ مالونه وحزبيته؟ لايجامل حيث النضال، ولا يخاتل حيث القتال، لا يتهرب ولا يهرب، ولا يدفن رأسه من الرمال. (وابتسم نوري السعيد من هذه السجمات) ثم قال: واذا تخلت عن السياسي شجاعته فقد تخلى عنه ايمانه، وتخلت عنه مبادئه .. بل أبرز نواحي خلقه وصفاته!.

* سياسة بلا ثقافة = تضبط!
وقال السياسي المخضرم:
"لى رجل السياسة ان يقرأ.. كثيرا! يقرأ في كل شيء.. في الادب والتاريخ والفلسفة والطبيعة والشعر وتراجم العظماء وتاريخ الفنون والموسيقى!
ان الثقافة "فيتامين" السياسي، وعموده الفقري: انها موتله في احاديثه ومنهله في خطبه، ومرجعه في ابحاثه، والسياسي الجاهل مهما كان ذكيا والمعيا وشعبيا ووطنيا.. لن يصل الى النجاح ما دامت جعبته خالية من عنصر النجاح.. الثقافة!".

* الانتاج.. واجب السياسي!
"ان الشرق غني بمجهولاته.. فقير بانتاجه! في بطون ارضه، تكمن الخبرات وعلى سطح ارضه يدب الجوع والعراء والجهل والمرض! ان العرب بحاجة الى السياسي (المنتج) الذي يعمل على زيادة كفاءات البلاد اقتصاديا وماليا، والبد الغني اكثر توفيقا في سياسته، من البلد الفقير، الاخير يدفع اهله لاحتراف السياسة تابطا وتخبطا، والاولى يشغل اهله بمشروعات النور والخير والحياة.. ويترك السياسة لاصحابها!! نريد سياسيا منتجا في بلاد فقيرة.. نريدها ان تصبح غدا غنية! ويصمت نوري السعيد قليلا ثم يقول:
- هل اخبرك عن الوصية العاشرة!.. انها امنية ، وليست وصية، امنية اعيش بها وارجو الله ان يحققها لهذا الشرق العزيز، فليس على الله بكثير ان يهب العرب ساسة يفكرون في وطنهم قبل ان يفكروا في انفسهم ويؤمنون بامتهم قبل ان يؤمنوا باحزابهم واشخاصهم، لو عرف العرب منزلتهم في العالم، وادركوا حاجة الامم اليهم وقدروا اهمية الدور الذي باستطاعتهم ان يمثلوه على المسرح السياسي لكان لهم اليوم شان آخر ومنزلة اخرى، ولكن، اين من يوجه.. ويخلص في التوجيه؟ اين من ينصح ويصدق في النصح! ان وضع العرب اليوم لا يبشر بخير، وضع كله استكانة وضعف وعدم بمالاة. وضع لا تنفع فيه مشروعات الاعانات والاغاثات و"النقطة الرابعة" والخامسة والعاشرة.. وقروض امريكا وهبات هيئة الامم فقيل ان نشق الطرق ونبني الجسور ونجفف المستنقعات، علينا ان نبني الاخلاق ونجفف الضغائن.. وننسى النفوس! .. ومرة اخرى ، سكت نوري السعيد وراح الفكر الذي لا يهدأ يسرح في خيال جديد.. ومازالت عيناه الزائفتان تحدقان في الافق الواسع فتمران ببصرهما على مواكب السيارات وهي تلتوي من جبال لبنان الشامخة.. تحمل الى قراء المعممة بالثلوج افواج البشرية المتعبة...

مجلة آخر ساعة 1952