رستم حيدر في العراق..كيف تم اغتياله.. وكيف عثر على مذكراته؟

Sunday 3rd of November 2013 07:20:57 PM ,

ذاكرة عراقية ,

ولد محمد رستم حيدر في بعلبك عام 1889. وهو شخصية فذّة لعبت دوراً بارزاً في تاريخ سوريا والعراق زمن الأمير فيصل كما في سياسة العراق في العهد الملكي. التحق اول الامر بفيصل (الاول) في حملته على سوريا وكان مرافقاً له في مؤتمر الصلح في باريس وأمضى قرابة ربع قرن في معيّته ومعية ابنه الملك غازي.

ولنبدأ بسرد موجز لحياة هذا الرجل الذي لم يتزوج وعاش عيشة متواضعة رغم انه تبوّأ المناصب الرفيعة في حكومة العراق. ولقد انتهت حياته بمأساة اذ انه اغتيل سنة 1940 وهو في شرخ شبابه واوج عطائه.
درس رستم حيدر في اسطنبول في “المدرسة الملكية الشاهانية” وتخرج منها عام 1910 ثم ذهب الى باريس لمتابعة دراسته في السوربون حيث عمل مع بعض الشخصيات العربية في المجال السياسي والوطني للدفاع عن القضايا العربية في جمعية “العربية الفتاة”. وفي 1912 عاد من باريس ليعمل في وطنه في حقل التعليم الى ان التحق بالأمير فيصل.
وفي 22 تشرين الثاني 1918 توجه الامير فيصل الى باريس لحضور مؤتمر الصلح وكان يرافقه نوري السعيد ورستم حيدر والدكتور احمد قدري وفائز الغصين.
وفي 9 كانون الاول 1918 غادر فيصل وحاشيته فرنسا الى انكلترا. ثم عاد الى باريس في 7 كانون الثاني 1919 لحضور مؤتمر الصلح مندوباً عن الحجاز وكان رستم حيدر المندوب الثاني، ولورنس مستشاراً للوفد ومترجماًً.
تغطي مذكرات رستم حيدر () وهي اشبه ما تكون بيوميات كان يدونها في مفكرته لمجريات الامور – الفترة ما بين 1918 و1921. وهي تبدأ في 10/8/1918 وتنتهي في 25/3/1921.
وهو يذكر تاريخ اليوم وحتى الساعة احياناً بعضها بضعة اسطر وبعضها بضع صفحات وبعضها مجرد برقيات. وهو يذكر الامير فيصل بالاسم او “سيدنا” او يختصره بـ (ج) جلالة او (ف) اي فيصل. وهو حريص على ذكر التفاصيل الدقيقة وحتى الصغيرة. والمذكرات، التي حققها وقدّم لها نجدة فتحي صفوة وهو عراقي، تضم 852 صفحة و12 ملحقاً منها قصيدة خليل مطران في رثاء رستم حيدر.
في 1921، وفي 23 من حزيران، وصل رستم حيدر الى العراق وكانت هذه المرّة الاولى التي يطأ فيها ارض البلد الذي قدّر له ان يعمل فيه، ويحمل جنسيته ويتسلّم فيه اعلى المناصب ثم يلقى حتفه مقتولاً على يد احد العراقيين ويدفن في ثراه. وكان من اقرب المستشارين الى الملك فيصل واكثرهم تمتعاً بثقته وكان كاتب خطبه وتصريحاته وكاتم اسراره. فكان بهذه الصفة من اقوى موجّهي سياسة الدولة العراقية الفتية. ثم اشترك خلال ثلاثينات القرن العشرين وزيراً في سبع وزارات. وكان في اربع منها وزيراً للمال وفي ثلاث وزيراً للاقتصاد والمواصلات. اربع منها في وزارات ترأسها نوري السعيد، واثنتان ترأسهما رشيد عالي الكيلاني وواحدة كانت برئاسة جميل مدفعي.
عانى رستم حيدر خلال عمله في العراق قرابة 20 سنة من نقطتي ضعف في شخصيته التي كانت مستكملة صفات رجل الدولة من نزاهة وكفاية وخبرة وذكاء واخلاص: الاولى اصله السوري (اللبناني) والثانية اتهامه بالطائفية.
والصحيح ان رستم حيدر كان بعيداً عن التعصب لمذهب دون آخر أو منحازاً لطائفة دون اخرى. ولكنه كان يرى ان الشيعة في العراق حرموا من فرص التعليم خلال الحكم العثماني الطويل، وبالتالي ابتعدوا عن وظائف الدولة ومناصب الجيش، واتجهوا الى التجارة والمهن الحرة الاخرى. فلما تأسست الدولة العراقية لم يكن في الجهاز الاداري الذي ورثته عن الدولة العثمانية، بين الرجال الذين يمكن الاستعانة بهم للعمل في جهاز الدولة الجديدة، من الشيعة عدد يوازي نسبتهم العددية الى سكان البلاد، ولذلك كان رستم حيدر يرى من الضروري تعديل هذا الوضع بصورة تدريجية. فاذا وجد شاباً من الشيعة يتوسم فيه الخير، ورأى لديه الكفاية لأن يكون في المستقبل موظفاً جيداً أو رجل دولة صالحاً قدّمه وسانده، وبذلك يكون قد ساهم في تصحيح الوضع من جهة، وجمع حوله عدداً من الذين يدينون له بالولاء. ولكن الكثيرين اعتبروه يعيّن الشيعة او يساندهم لمجرد انهم شيعة، فاتهموه بالطائفية.
وتجدر الاشارة هنا الى ان الملك فيصل الاول حينما كان ملكاً في سوريا، كان معظم المقربين منه، من العراقيين مثل ياسين الهاشمي وجعفر العسكري ونوري السعيد وجميل المدفعي وطه الهاشمي وغيرهم من الضباط العراقيين الذين التحقوا بالثورة العربية، في حين انه لما اصبح ملكاً على العراق كان معظم حاشيته من السوريين. فالى جانب سكرتيره الخاص ورئيس ديوانه رستم حيدر، كان مرافقه الشخصي ثم رئيس تشريفاته تحسين قدري ، وناظر الخزينة الملكية الخاصة صفوة (باشا) العوّا، ومعاون رئيس الديوان الملكي امين كسباني وعبد الله الحاج، وطبيبه الخاص امين (باشا) المعلوف وقبله احمد قدري، وقد اختار له مدرساً يدرسه اللغة الانكليزية هو ابرهيم الدباس.
عندما تولّى رستم حيدر وزارة المال في العراق كانت العملة المتداولة في العراق منذ الاحتلال البريطاني هي “الروبية” الهندية التي فرضتها حكومة الاحتلال، ومن ثم بقيت عملة رسمية في العراق، فوجد انه من الضروري استبدال “الروبية” بالدينار كعملة رسمية للعراق. وهكذا اصبح الدينار العراقي اعتباراً من اول نيسان 1932 بفضل رستم حيدر العملة الرسمية في العراق.
توفي الملك فيصل الاول في 8 ايلول 1933 في العاصمة السويسرية برن، وكان قد قصدها للمعالجة والاستجمام. وعلى الرغم ان رستم حيدر كان يستمد قوته من ثقة الملك فيصل الذي كان سنده الرئيسي، فانه احتفظ بمركزه المرموق في الدولة بعد وفاة فيصل بسبب ما حققه لنفسه من مكانة بين رجالات العراق، وما كوّنه من علاقات وثيقة بمعظم زعمائه.
وفي 4 نيسان 1939 قتل الملك غازي في حادث السيارة المعروف. فانتقل العرش الى الملك فيصل الثاني الذي كان طفلاً صغيراً، واختير خاله الامير عبد الاله وصياً على العرش. فاستقالت وزراة نوري السعيد عملاً بالتقاليد الدستورية التي تفضي بان تستقيل الوزارة عند انتقال العرش الى ملك جديد. فعهد الى نوري السعيد بتشكيل الوزارة مرة اخرى، وهي وزارته الرابعة. وقد احتفظ فيها رستم حيدر بوزارة المال، وبقي فيها حتى وفاته.
لم يتزوج رستم حيدر – كما سبق وذكرنا – فكان يسكن بمفرده في دار صغيرة في منطقة “الصالحية” ببغداد. وفي 18 كانون الثاني 1940 وبينما كان في مكتبه بوزارة المال دخل عليه المدعو حسين فوزي توفيق وهو من مفوضي الشرطة المفصولين واطلق عليه النار فاصابه في خاصرته اليسرى، فنقل الى المستشفى ولكنه توفي متأثراً بجراحه في 22 كانون الثاني 1940.
القي القبض على الجاني الذي اعترف بانه هو الذي اطلق النار علي رستم حيدر لعدم حصوله على وظيفة كان الوزير يعده بها دون جدوى فاقدم على فعلته. ولكن من الدافع على ارتكاب هذه الجريمة النكراء؟
حامت الشبهات حول ان هناك من حرّض الجاني على ارتكاب جريمته وهما ابرهيم كمال وصبيح نجيب. وقد ادى اغتيال رستم حيدر الى استقالة نوري السعيد رئيس الوزراء إثر ما اثير من لغط حول اغتياله. ولكن من الذي قتل الملك غازي؟ ومن الذي قتل رستم حيدر؟ اسئلة لن تجد الجواب الحقيقي وستبقى من الألغاز.
ذكر السيد عبد الرزاق الحسني انه فهم من صالح جبر نفسه انه كان يعتقد ان رستم حيدر ذهب ضحية لمؤامرة دبرها خصوم نوري السعيد لاضعاف وزارته، او ان الألمان هم الذين دبروا الجريمة. اما القاتل حسين فوزي توفيق فقد اصدرت المحكمة حكمها عليه بالاعدام، لثبوت ارتكابه الجريمة باعترافه. وتم تنفيذ الحكم فيه في 27 آذار 1940. وقيل ان حرس السجن الذين حضروا عملية تنفيذ الاعدام سمعوه يصيح جهاراً، وهو في طريقه الى المشنقة: “وَرَّطني.. وَرَّطني...”. وهناك من يرى ان الاغتيال دبره عملاء الالمان الذين حرّضوا القاتل على الاغتيال ليحدثوا شغباً بين الشيعة والسنة. وكان قد شاع ان القاتل كان في المانيا. وايّا ما كان، فان الحادثة بقيت مشوبة بكثير من الغموض، وان تصرفات نوري السعيد إثر اطلاق الرصاص على رستم حيدر، وما اظهره من ارتباك، ومقابلته الجاني في سجنه على انفراد، ثم تغيير الجاني افادته على إثر تلك المقابلة، زادت في تقوّلات الناس وشكوكهم، اذ انهم ربطوا تلك الزيارة بما قيل من ان الجاني كان يصرخ وهو في طريقه الى المشنقة “وَرَّطني..وَرَّطني...”.
ولكن البعض يرى انه ليس لنوري السعيد اية مصلحة في عملية الاغتيال فهو لم يكن على عداوة مع رستم حيدر بل انه ضمه في كل وزارة الّفها حتى مقتله. وفوق ذلك فإن نوري السعيد لم يكن يراقبه منافساً له في رئاسة الوزارة. ومهما يكن، فان مقتل رستم حيدر احدث رنة أسى في العراق وفي سائر الدول العربية.
لنعد الى المذكرات وهي موضوع بحثنا. ليس من الممكن تناول كل ما جاء فيها في هذه العجالة. وهي كما سبقت الاشارة تسجيل يومي ذو تاريخ متسلسل. ولكني سوف اقف عند ما يهمنا من المفاوضات التي اجريت في باريس والوقوف عند ما له علاقة بلبنان. فهو يفرق بين العقلية الفرنساوية والعقلية الانكلوسكسونية في السياسة فيقول (ص 327): يندهش الانسان من الامة الفرنساوية ورجالها، ومن رجال الامة الانكلوساكسونية. الرئيس ويلسون يلاقي الامير (فيصل) مرتين، واما كليمنصو ولا مرة!! أمر غريب، كأن فرنسة ليس لها علاقة بالشرق؟ هذه سجية عرف بها رجال الامم السكسونية! الجد في العمل والقول. ولماذا البطء والتلاعب؟ وفي تاريخ السبت 21/6/1919 يأتي على ذكر البطريرك الياس الحويك (1843 – 1931) الذي ذهب الى باريس ليفاوض بشأن استقلال لبنان فيقول (ص 421 – 422): “يظهر ان بطريرك الموارنة سيحضر الى باريس لأجل المطالبة بلبنان الكبير مع معاونة فرنسية. ويقال إنه ميّال للمطالبة بالاستقلال التام. أرى انه من الواجب توسيع لبنان بقدر الامكان والاتفاق اذا امكن ضمن هذه الشروط مع البطريرك في طلب الاستقلال التام بدون قيد ولا شرط. لبنان المتوسط لا الكبير مفيد اذا كان مستقلا تمام الاستقلال واضمام بيروت وصيدا وصور مع جبل عامل له يقوّي حزب الاسلام والدروز وبقية العناصر المسيحية غير الموارنة ويربط الجبل بصفته العربية لانه على هذه الحالة يخشى من ان يعتنق الفرنسوية ويلوذ بها حفظاً لكيانه فنضيع بذلك قسماً من البلاد يكون دوماً خطراً عليها في المستقبل. اما اذا استقل لبنان وفازت فيه السياسة العربية فيكون ملجأ للاحرار ومركزاً تنشر منه الافكار الحرة والاستقلالية. واما لبنان فيستفيد إستفادة عظمى لأن كل البلاد العربية تصبح مستعمرة له اذا قام بما قام به من النشاط حتى الآن”. بينما يرى الامير فيصل (ص 444): “ان لبنان يجب ان يكون مستقلاً استقلالاً تاماً ويود ان يعاونه ويراه في اوج السعادة، وهو يحب اللبنانيين وذكاءهم ونشاطهم ويحب ان يستعين بهم في نهضة البلاد”. ولنعد الى البطريرك الياس الحويك فقد ورد (ص 450) انه زار يوم الخميس في 28/8/1919 بونكاريه وطلب اليه ان تساعد فرنسا لبنان لكي يتسع ضمن حدوده التاريخية، مستقلاً مع المعونة الفرنسوية فوعده الرئيس وقال له انني استدعيت كليمنصو فقال لي انه اصبح لبنانياً اكثر من اللبنانيين ثم قال له ان كليمنصو اذا تمسك بأمر فعله. لا بدّ للبنان من معاونة فرنسة والبطريرك طلب وسيطلب ذلك عند اللزوم. ثم يدخل اليهود على الخط ويأتي وايزمان ويجتمع بالأمير فيصل في 26/9/1919 ليطالب بوطن قومي لليهود في فلسطين كما جاء (ص 474): يقول وايزمان: اليهود في العالم 14 مليونا، كلهم يريدون ان يروا فلسطين يهودية ولكن 6 ملايين يودّون الذهاب اليها... اما اليوم فلا يوجد في فلسطين الا 60-70 الفاً من اليهود. واما المسلمون والمسيحيون فعددهم 600 الف. انه يريد الهجرة والمساواة ومع الزمن اذا تمت الاكثرية لليهود فيمكنهم أن يؤسسوا حكومة ديموقراطية على اساس المساواة، وقصدهم ان يكونوا مع العرب اخواناً ليس الا. ثم ان البلاد العربية فيها الآن 13 مليوناً وهي تعيّش 50-60 مليوناً، فليس يوجد خطر على البلاد لانها واسعة جداً من مجيء 6 ملايين يهودي...
نجد في المذكرات اشياء طريفة يسجلها رستم حيدر تدل على صحة حدسه. يقول الخميس 1 كانون الثاني 1920 (ص 534): “يوم رأس السنة الجديدة، علّها خير على الامة بين مطامع المستعمرين الاوروبيين التي تزداد كل يوم. ويل للشرق، لا حياة له الا بعد خمسين سنة بالسعي والتعاضد. اوروبا تمتصّه. شر كلها، وشرّ ما فيها انه لا بد منها”.
وهو يلخص رأيه في سياسة اوروبا فيقول الاثنين 12/7/1920 (ص 665): “لا يمكن الاتكال على اقوال حكومة اوروبية في المسائل السياسية لان سياستها ستتبدل حسب قوتها ومنافعها فلا عهد ولا ذمة. قديماً كان بيكو يتدخل على الملك فيصل لاجل إنهاء القضية حسبما يشاء مع طلب انتداب فرنسة، ولو اعطى ذلك في حينه لتمشّت فرنسة على سياسة ربما كانت أضعف من سياستها الآن لان عساكرها كانت قليلة واميركا وانكلترا وحالة العالم كانت مساعدة جداً، ثم مضت ايام فاصبحنا نفتش على الاتفاق لديهم وهم يتمنعون ويهددون وقد جاء زمن كانوا يرجوننا بالحضور الى اوروبا، والآن اصبحنا نرجوهم ولا يقبلون، وهكذا نسأل الله ان يرميهم بحرب ثانية في ديارهم رأفة بالعالم”.
لقد استجاب الله لطلب رستم حيدر وحقق له امنيته فنشبت الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) ودمّرت اوروبا نفسها واودت بحياة خمسين مليون نسمة. رحم الله رستم حيدر لو كان اليوم حياً ماذا كان يقول عن الذي يجري في العراق؟
مذكرات رستم حيدر – تحقيق نجدة فتحي صفوة، الدار العربية للموسوعات، بيروت، الطبعة الاولى 1988 في 850 صفحة من القطع الكبير.
عن مجلة بيروت المساء اللبنانية عام 1988
بقلم الكاتب اللبناني
ميشال جحا