جابر عصفور.. القيمة والقامة

جابر عصفور.. القيمة والقامة

عبدالله محمد الغذامي
حينما نتحدث عن جابر عصفور فإننا نتحدث عن نوع خاص جداً من الصداقة، حيث تكون المعرفة - بمعنييها العلمي والشخصي - هي القيمة التي يدور عليها الحديث، فجابر قيمة علمية ثقافية نادرة المثال، وهو في الوقت ذاته صاحب قيم أخوية نادرة المثال أيضاً، وحينما تعرفه ستجد نفسك في وفاق بين القيمتين، علمياً وأخوياً، ولكل واحدة منهما نصيبها الوافر منه،

وحينما كان لقاؤنا الأول في صنعاء عام 1986م تشابكت القلوب والعقول معاً، وشهدت يومها جابر وهو يناقش أستاذه وصديقه عبدالمحسن طه بدر في قاعة الحوار مناقشة حادة قد تبلغ حد الشراسة في صراحته ووضوحه، وكان الخلاف وقتها حاداً بين المناهج النظرية الحديثة والألسنية منها على وجه التحديد وبين النقد التقليدي والاشتراكي على الخصوص في تلك المناسبة، وكان جابر متحمساً للنظرية الحديثة، في مواجهة مباشرة مع صديقه وأستاذه الذي كان يريد من جابر أن يكون وفياً للصداقة، وإن تعارض ذلك مع حقوق المعرفة، ولم يكن جابر على استعداد للمهادنة ولا للمجاملة وقال قوله بشدة وقوة في وجه رجل يحبه وله معه تاريخ من المعروف والمعرفة، ولقد ظن عدد من المشاركين أن جابر كان قاسياً وربما رآه بعضهم عاقاً لرجل له عليه حق الصداقة والزمالة والأستاذية، وربما قال المرحوم عبدالمحسن بدر ذلك صراحة. ولعله قد تألم ألماً شديداً من تلك المواجهة، ولقد كانت المناسبة لحظة امتحان حقيقية فيها تنكشف الحدود بين ما هو علمي وما هو شخصي وإنساني، ولا شك أن جابر يومها قد انحاز للعلمي وأعطى العلم حقه كاملاً، ولكن ماذا عن الصداقة والإنسانية، وهل ستكون هذه اللحظة لحظة قطيعة بين صديقين..؟!.
مرت جلسات الندوة حادة وقوية إلى أن حل المساء، وهناك اكتشف المشاركون أن تلك الليلة هي ليلة ميلاد عبدالمحسن طه بدر، وما إن تكشف الخبر حتى هب جابر وكشف عن خيال حي وفعال وراح يبتكر طرقاً للاحتفال بالدكتور بدر، ومع أن المتاح بين يدي المنتدين قليل جداً بسبب مفاجأة الخبر لكن جابر راح يصنع مما بين يديه من وساءل، وكنا في منزل أحد الأساتذة المصريين وكان عزباً وليس في المطبخ ولا في الصالة سوى أشياء بسيطة جداً من مشروبات ومأكولات، ولكن جابر صار يتحرك بحركات أشبه ما تكون بحركات المسرح العبثي ليصنع من تلك الموجودات البسيطة مواد للاحتفال، وخرج بخيط عجب من ألوان وأشكال وكأننا امام ساحر يلعب بالعلب والكراتين ويجعل منها حلاوة وعصيرات ومأكولات.
لقد فرحنا كلنا ليلتها وطربنا ودمعت عينا الدكتور بدر، ورأينا جابر يقبله قبلة المحب الوفي، وخرجنا تلك الليلة في فرح عظيم كان بالنسبة لي لحظة قرار حازم بأن أجعل من علاقتي مع جابر علاقة صداقة أصلية وعميقة وممتدة.
وفي الصباح انعقدت الندوة ليعود جابر فيها فارساً لا يشق له غبار في الحوار والجدل معطياً العلم حقه، بعد أن أوفى حقوق الصداقة، دون تعارض بين الاثنين.
ذلك عندي هو جابر عصفور الذي رأيت قيمة الصداقة عنده مثلما رأيت قيمة العلم، وحينما تسلم أمانة المجلس الأعلى للثقافة في مصر تمثلت فيه وفي عمله هذه القيم، أعني قيم الصداقة والعلم، حيث جعل المجلس بيتاً للأصدقاء، وأقصد هنا أنه جعل كل مثقف عربي يشعر أن المجلس هذا هو مجلس عربي وهو مجلس علمي وهو مجلس ثقافي، وهو مجلس جامع، يجمع العقول ويجمع القلوب، حتى تآلفت الجموع مع الجموع، وصارت ندوات المجلس لقاءات عربية وعالمية أيضاً، مثلما هي لقاءات مصرية، وصارت مصر قبلة ثقافية عربية، كما دورها المطلوب والمقدر، وما فعله جابر عصفور كان ناتجاً عن طبعه الحر وعقله المفتوح وروحه العلمية والثقافية الكريمة، وقدم في المجلس نموذجاً ثقافياً في العمل العلمي والوطني الجاد، وجاءت الثقافة الجادة وجاء الرجال الجادون وجاءت النساء الجادات، إبداعاً وفكراً وثقافة وترجمة وتأليفاً، حتى صارت نفوسنا لا تهوى سوى ندوات ومناسبات المجلس الأعلى للثقافة بوجه جابر وبروحه وعقله، وصرنا نعزف عن ندوات ومناسبات أخرى في بلدان أخرى لا تعطي الروح نفسها ولا الوهج نفسه ولا الجدوى نفسها، وصار المجلس بيتنا ومركازنا وصارت هواتف جابر إلينا هواتف الموعد الأكيد والكلمة القاطعة، وحتى لو كان لدي شغل فإني أعتذر عنه من أجل موعد جابر.
جابر عصفور نموذج ثقافي وأخلاقي نادر المثال، وهو نموذج يصنع العمل ولا يصنعه العمل ويفتح الأبواب ولا ينتظرها تفتح له، ويمد يده ويجرك للعمل لأنه نفس حرة أبية ومعطاءة ولأنه مؤمن بالثقافة ومتعهد بحقها ولأنه يجعل الثقافة صداقة ويجعل الصداقة مشروع تعارف علمي وعملي.
تحية لجابر عصفور ولهذه الصداقة الفذة ولهذا المثال النادر، قيمة وقامة.

عن جريدة الجزيرة السعودية