من اصدارات المدى.. الإخيضر والقصر البلوري

من اصدارات المدى.. الإخيضر والقصر البلوري

بغداد/ أوراق
يخوض المعماري المعروف رفعة الجادرجي في مسائل معمارية تشمل موضوعات لها صلة أساسية بتجربته الفنية وممارسته الشخصية في هذا المجال على مدى ربع قرن، من خلال كتابه (الأخيضر والقصر البلوري نشوء النظرية الجدلية في العمارة)

والصادر عن دار (المدى) للثقافة والنشر، مركزاً على موقف المعمار الممتهن من الممارسة وظروفها الاجتماعية، وموقف المجتمع من الممارس والممارسة، والموضع التكنولوجي القائم في القطر لكل مرحلة وتطوره ومقدار ارتباطه بالتقدم الجاري في العالم الخارجي، اضافة الى المؤثرات الفكرية المحلية والدولية في الحقول الفنية المعمارية..
وبهذا يعد الكتاب شاهداً على تجربة علمية لمهندس مارس مهنته بدقة وخبرة ميدانية مع الانتباه العميق لحركة المجتمع وهو ينمو في اتجاهات مختلفة مع محاولة نقد منهجي للموروث في أشكال العمارة التراثية، وأخذ الجانب العلمي والمتقدم منه واخضاعه تقنيا الى السياق المعماري الحديث. ان هذه النظرية التي تحولت الى مجال تطبيقي واضح تفصح عن رؤية فكرية أشمل تتعلق بالجانب الاقتصادي، فالمهندس المعماري الحديث لا يستفيد من بنية البيئة مناخياً وجغرافياً وأداتياً وخبرة فحسب، وانما يحاول أن يجعل من هذه المواد الخام والأولية أرضية يشيد من خلالها وفوقها تكوينات معمارية جمالية ونفعية معا، ومن خلال استطلاع انجازات رفعة وعدد من المهندسين المعماريين العراقيين نجدها قد استنطقت المكونات المحلية الى الحد الذي بدت خصوصيتهم في هذا الانجاز أو ذاك هي الهوية الفنية والفكرية لهم. وهذه الميزة الثقافية الكبيرة تحويل فعل الهندسة المعمارية في العراق الى رافد ثقافي كبير، ليس على مستوى الشكل وجماليات البناء، وانما في استعمال المادة الخام وفي وضع المفهومات والآراء الشخصية موضع تطبيق يوازن بين الدراسة والخبرة المعملية المحلية، وبهذا يدخل فن المعمار من إطاره التكويني العياني والكتلي الى اطار اللغة الأدبية والجمالية، ويصبح رافداً لكل ذي توجه أدبي باعتبار أن العمارة هي المكين في المكان كما ينوه الفلاسفة العرب عن اشغال المكان. ولأن العمارة العراقية المنحدرة من التراث والحاضر معاً قد رافقت نمواً حضرياً معيناً لثقافة المدن وتطورها جعلها المعنيون واحدة من الشواهد الحضارية التي نقيس في ضوئها ليس تطورها الذاتي فقط، وانما بناء الانسان العراقي نفسياً واجتماعياً، وأعني بالبناء هنا مجايلة تطور العمارة في العالم، وفي الوقت نفسه تجديد رؤيتنا الى التراث العربي الاسلامي مع المحافظة على أغراضها النفعية والجمالية.. أما مفهومه للبيت البغدادي وعلاقته بالموروث، فهو قد اعاد اكتشاف قيمة الحوش في الف ليلة وليلة ثم استفادته من البيت المغربي خاصة في تراكب الأسلاك والقضبان، ثم معاينة الواقع العراقي محلياً وخصوصية الرواق والباحة والمشبك، كل هذه المفردات قد وضعت في سياق معاصر لحل مشكلة البيئة المحلية واستحداث الحلول التطورية لمتطلباتها اجتماعياً ووظيفياً، اضافة الى تنمية احساسنا الشعبي بألفة مكانية تعيد للساكن أحلام يقظة دائمية من خلال الارتباط بالماضي المتمثل ببيت الأجداد، ومن ثم نقل أهم مكوناته الى البيت المعاصر، والتطلع الى معاصرة التكوين الجمالي لمدينة ناهضة، وهذا ما دفعه لأن يعمل توازناً هندسياً وجمالياً بين باطن الدار بوصفه موروثاً عن الباحة القديمة كجزء من بناء ديني يرتبط بالجنة والنار، وبين خارج الدار بوصفه تكويناً جمالياً يخضع لقيم الفضاء والبيئة والعيانية، وكان من خلال هذا التوازن المنهجي أن جعل مفهوم الاجتماعية ينمو في باطن الدار كما ينمو في خارجها، ولعل هذه الظاهرة الجدلية في التوازن بين موقعين آتية اليه من المحاورة السياسية والفكرية التي كانت تضع مجمل أفكارها حيز التطبيق ليس على مستوى العمارة وانما على مستوى الفن التشكيلي والفن المسرحي لذلك نجده يقول للفن وظيفة اجتماعية لا يمكن تجنبها وعلى الفنان أن يكون مدركاً ليتخذ الموقف المناسب شريطة الا ينزلق وينجرف ويتناسى التقنية. ويقول أيضا ضرورة استحداث فن عراقي حديث متأثر بالمجتمع العراقي.. ومن الواضح أن الفنان محمود صبري أحد أهم الفنانين الذين توافقت رؤيتهم مع ما أنجزه رفعة الجادرجي في هذا المجال يشكل مدخلاً للمصاهرة بين فن التشكيل والعمارة، والبيت البغدادي لديه هو التكوين الجمالي الاجتماعي الذي من خلاله استطاع أن يدمج في بنائه النقوش الاسلامية، وهذا يعني أن المعرفة بزخارفها تعني معرفة بأصولها الدينية والمثيولوجية كمحاولة لتجديد الشكل الاسلامي للعمارة. ثم إضفاء الطابع الذاتي على كل ذلك من خلال الخطوط الجديدة التي يتطلبها التصميم المنطلق من ضرورة وجود الحلول الكفيلة بتوليد عمارة ذات طابع عراقي.. ويستمر البيت حضوراً، وفاعلية معه سواء انشغل بتصميم عمارة كبيرة أو نصب تذكاري، فالبيت البغدادي كوحدة معمارية كان أشبه بالقيمة المركزية، والبؤرة المعمارية التي أدخلها كلها أو أجزاء منها في أي تشكيل أو تصميم معماري آخر، فعندما اكتشف الرؤية الجديدة الخاصة به في بناء الجامع وبخاصة في مجال الزخرفة، توصل الى موقف يوحد بين العملي الواقعي والفني الجمالي، وهنا بدأت أولى خطواته في الابتعاد عن المؤثر الأجنبي والدخول الى التراث الاسلامي من خلال فن التجريد الحديث والزخرفة الاسلامية. أي الدمج بين ما هو محلي وعالمي من خلال توظيف الأشكال الشعبية مثل الهلال عند جواد سليم والمربع عند موندريان، وجمعهما في إطار تراكمي غير محسوس ينم عن معرفة جمالية بالتشكيل عبر مفردات متنافرة تاريخياً ومنسجمة جمالياً، ومن هنا نراه عندما يعود لتصميم العمارة لاحقا يعتمد الجوامع والأزقة كخلفية بغدادية فالجامع للعبادة والبيت للألفة والهناءة والسكن، ومعهما سوية بنية الزقاق الطولي الذي تتجاور في أعلاه البيوت بشناشيلها وكأنها أجهزة اتصال سمعية بصرية تسمح بمرور الضوء العازل لأجزاء من الشارع الضيق، بمثل هذا التكوين الجمالي الفائر بالشعبية والتجريدية معا يستخلص تكويناً جمالياً لبيت عراقي عام وليس خاص. ولعل تجارب المهندسين المعماريين العرب والأجانب تعد من الشواهد الثقافية المبنية على الاقتصاد بالمادة وبالوظيفة، ولعل بيت منير عباس أحد الأمثلة التي يكثر رفعة من الاستشهاد بها، وبملاحظة بسيطة يوضح أن إنزال الشكل المائل فوق التكوين الأفقي الشاقولي يعني مزاوجة بين موروث اسلامي وخبرة موندريان، ونراه يكثر الاستشهاد بنماذج من المهندسين المعماريين الأوروبيين مثل دستيل ويبتر فان دررو وجيوبونتي اضافة الى فنانين تشكيليين.. ولم يقف تصوره عند بناء جزئيات بيت ومحل وعمارة وسوق ونصب فالتعامل مع الجزئيات يجعل المعماري الفنان مشتغل جزئيا وخاصا، وقد يكون متميزاً بخياله ونظرته وإنما التعامل مع الجزئيات هو مدخل للتعامل مع بنية اجتماعية أشمل، هو هدف أي معماري يمتلك نظرة متقدمة، وهذا ما فعله عندما زاوج بين مفهومي العراق لابد وان يتطور، والعمارة لابد أن تتطور أيضا. لذلك لا تكون بنية العمارة الجديدة الا من خلال بنية المجتمع الجديد، وهذا المفهوم الكلي والشامل نراه يصطدم بتقلبات سياسية ومعمارية متخلفة تؤدي بالتالي الى التهديم وقلب المفاهيم، وهذا ماحدث بحسب رأي المؤلف أكثر من مرة، ومن الأفكار الجميلة في هذا الصدد الكيفية التي تتحول بها الرسوم الى واقع معماري، هنا يعيد تركيب المفاهيم الأدبية والفنية لصياغة تجسيد مكاني، ومن خلال هذه المصاهرة المعمارية الفنية ينهض المهندس ليس برؤيته لمفهوم التطور وانما ليجعل من المشاريع الشخصية والمحددة بقطعة قماش كياناً معمارياً.. والمعروف أن الفن التشكيلي العراقي اذا ما درس من خلال علاقته بفن العمارة سيجد مجالات رؤية نقدية أكثر دقة من تلك التي تعتمد مقولات نقدية تشكيلية بحتة.