رحيل صانع الحكايات

رحيل صانع الحكايات

علي حسين
"اسمي أيها السادة هو غابرييل غارسيا ماركيز. آسف فانا شخصيا لا يروقني هذا الاسم لأنه سلسلة من كلمات عادية لم استطع قط ان اربطها بنفسي. ولدت في بلدة اراكاتاكا في كولومبيا...وما أزال غير آسف على ذلك. انني كاتب هيّاب. مهنتي الحقيقية مهنة ساحر، لكنني ارتبك ارتباكا شديدا وانا احاول القيام ببعض الحيل التي اضطر الى ان ألوذ بها من جراء عزلة الأدب.

على كل حال ان كلا النشاطين يقود الى الشيء الوحيد الذي أثار اهتمامي منذ ان كنت طفلا: ان يحبني أصدقائي اكثر.. ان كوني كاتبا من الكتّاب ليس سوى إنجاز استثنائي لأنني رديء جدا في الكتابة، وعلي ان اخضع نفسي لانضباط بشع كي انجز كتابة صفحة واحدة.. انني اناضل جسديا مع كل كلمة، لكن الكلمة هي التي تفوز في الغالب".
هكذا تحدث المعلم غارسيا ماركيز"الذي رحل امس عن عالمنا الى قرائه في السيرة الذاتية التي اختار لها اسما مثيرا عشت لاروي ، مسدلا الستار على حياة استمرت 87 عاما قضاها في تقديم روايات مدهشة وشخصيات ستظل ترافقنا كما لو انها جزء من ذكرياتنا
في الخامسة والعشرين من عمره ساقته دروب الحياة الى عالم حافل بالخيال ليقدم أول أعماله الروائية "عاصفة الأوراق"فيتلقى بسببها رسالة من دار النشر يخبرونه فيها، انه ليس لديه أي مستقبل في كتابة الرواية، مقترحين عليه أن يبحث عن مهنة أخرى.
المهنة الأخرى كانت الإصرار على الكتابة ليقدم في النهاية عالما،، هو مزيج من السيرة الذاتية والخيال الجامح، يتداخلان ويتشابكان في أبعاد مختلفة. وهو ما يتضح بكل روعة في «مئة عام من العزلة"و «الجنرال في متاهته"و «خريف البطريرك"و «الحب في زمن الكوليرا» و «قصة موت معلن».
ولانه يعشق الحكايات الغريبة فقد كان عالمة يتكون من كافكا، و فوكنر، و كونراد، الى جانب جدته، التي يعترف بان "نصف الحكايات التي بدأت بها تكويني سمعتها من جدتي. وهي لم تسمع مطلقاً أي كلام عن الخطاب الأدبي ولا عن تقنيات السرد ولا عن أي شيء من هذا. لكنها تعرف كيف تهيئ ضربة مؤثرة وكيف تخبئ ورقة آس في كمّها خيراً من الحواة الذين يخرجون مناديل وأرانب من القبعة"
يروي ماركيز لنا كيف بدأ حياته صحافيا بائسا ومغمورا: «كانت الصحيفة تدفع لي 3 بيزوس عن الخبر الذي اجيء به و4 بيزوس عن كتابة الافتتاحية، ولكن فقط عندما يغيب كاتبها الأصلي. ولم يكن ذلك كافيا بالطبع. وعندما حاولت ان اطلب قرضا آخر من المدير، ذكرني بأنني مدين بثمن مائة خبر يومي.
ظل نموذج الحاكم المستبد يؤرق ماركيز طوال حياته وهو يتساءل كيف يُمكن لشخص يحكم بسلطات مطلقة أن ينجو من الفساد الذي تولده هذه السلطة المطلقة نفسها؟، فأراد ان يجيب عليه من خلال روايته"خريف البطريرك"حيث نجد صفحاتها كلها جوابا على سؤال من هو الدكتاتور؟ يقول ماركيز لصديقه يلينيو مندوزا"ما من ديكتاتور يمكنه أن يحكم إن لم تكن هناك بطانة تهتف لكل فعل يقوم به، لا تنظر إليه إلا عبر صورة رسمتها له، على رغم تناقضها الكلي مع صورته الحقيقية عند الناس".
حتى ظهور ملحمة ماركيز الشهيرة"مائة عام من العزلة"، كان العالم يتجه بأنظاره الى كتاب فرنسا او امريكا أو اسبانيا وما ان أطل هذا الكولمبي الساحر من عالمه الحزين والغارق في أودية امريكا اللاتينية، حتى تغيرت رفوف الكتب في اشهر مكتبات العالم وتسابقت الصحف والمجلات لنشر صور جديدة لأدب جديد لم يعد الجدل فيه يدور حول الخلاف بين الرمزية والكلاسيكية. ولم تعد البنيوية تحتل المركز الاول في نقاشات المقاهي وصالونات الأدب فقد حل مكانها اناس بسطاء من امثال اورليانو وربيكا والغجري مليكاديس واورسولا.
بتواضع الكبار يكتب المعلم: للكهول سأعلّمهم أن الموت لا يأتي مع الشيخوخة بل بفعل النسيان.، لقد تعلمت منكم الكثير أيها البشر، تعلمت أن الجميع يريد العيش في قمة الجبل غير مدركين أن سرّ السعادة تكمن في تسلقه.
تعلّمت أن الإنسان يحق له أن ينظر من فوق إلى الآخر، فقط حين يجب أن يساعده على الوقوف.
قل دائماً ما تشعر به وافعل ما تفكّر فيه.