طالب عبد العزيز      الخصيبي      في عشقه للارض

طالب عبد العزيز الخصيبي في عشقه للارض

اسماعيل القطان
فى ديوانة (الخصيبى) يأخذنا الشاعر طالب عبد العزيز معه في رحلة تتزاحم فيها صور الرقة والطبيعة المعجونة بالأصالة والانغماس في الارض حتى ليصعب الفصل بين مكونات المشهد الموشى بالاخضرار الباهي وبين تلك الصور التي تهطل بفعل طغيان تأثيرات المشهد على شغاف الواقع

وكانه يطرز كينونته بحقائق لاتنفك عن الواقع حتى لكأنك تلامس الأحداث وترى الصور وهى تجهر ناطقة بجمالية الايقاعات التي تتواءم والرؤى التي تتجاوب وانثيالات الشاعر الرهيفة والتقاطاتة المنتقاة بحرفية عالية.
يبدأ طالب عبد العزيزمجموعته الخصيبية بقصائد تتنوع فى تناولاتها للحدث وكأنك تسترسل مع فصول رواية بصور منتقاة يشدها ترابط مع ما يجرى على الواقع والذى انطبع في ذاكرة الشاعر.
فيرسم صورة لقصائده بإحساس فنان تشكيلي واع حتى نسج توصيفاته المرتبطة بالواقع بجل تكويناته كالماء والزرع والطين لتقدم لنا صورا ضاجة بالواقعية المميزة وأسلوب الشاعر الذى وكأنه انطق صورها(الخصيبية)حصريا من خلال ما يتجلى لدى القارئ لقصائد ه التي تشعرك وكأنك تشم عبقها المشدود بالماضي من خلال المفردات المقربة للواقع والتي تعكس عشق الخصيبي طالب عبد العزيز للأرض والطبيعة بكل انثيالاتها وتاثيراتها الباهية عليه.
انه يصوغ التوصيفات الجمالية ويوشيها بالايقاع الطارب عن النخيل وما حوله وما قربه وتتهاطل من جماليات تؤطر الصور في قصائده وتخلق تقاربات بين الوصف والصورة يتجلى في التزاوج المموسق في مضا مين تحاكي فترات زمنية من تأريخ أبى الخصيب في قصائده (في شرفة قصر السراجي) و(ورائحة ماء بعيد)و(تنحني السماء زرقة)و (الخصيبي) وامثالها تتقارب الصور الشفيفة وبحسية مؤثرة تبرز التصاق الشاعر بالأرض التي يعشق.
ان الشاعر لم يغادر هذه المناطق الآهلة بالناس الذين يتشاركون فى الأرض والماء والزرع ويتجلون في انغماسهم وحبهم لطينها وبيوتها البسيطة وما يجسده هذا التراكم من الحنين والانشداد حد الفناء حتى ليصورها الخصيبي أنها الأرض التي يتداولون بها حزمة الاحلام الملتصقة بافكارهم والمصاحبة لصحوهم ورقادهم:
كانت اختلاس الندى على الغصون
مشيب السفرجل في الريح
فرح الماء على الماء
وكانت البغضاء حية لا تلتقطها عصافير روحي
وتتكرر صور التمازج في رقي إنساني بهي
هل ادلك على اكثر الحجر خيبة
عيني التي لاتبصرك في الصورة؟
هل ادلك على اكثر الكلام قسوة؟
حين اعد أصابعي وأتخطاك
وتنهال الصور الباذخة في شعرية(طالب عبد العزيز) في هذا الديوان فينتقل الى الإرهاق الوجداني والنزوع نحو الإمتاع المتجاوب مع إرادات الأرواح الباحثة عن اللهو المصهب وهو يتحدث عن النادلة الجميلة فى احد نوادي (عين كاوة) فى كردستان القلب وهو منتشى يكرع النبيذ الأحمر الذى يحلق به على أجنحة أنات الروح المتمردة على القيود الجاثية فوق رغبة النزوع الى الانعتاق والتخلص من مكبلات الواقع المثخن بالهواحس.
وبصوت طربي وهكذا أتصوره ووصف يذوب لرقته يشدو طالب عبد العزيز:
يا سيد التمر والسباخ والشتات
ياسيد الآفلين على النخل
صباحات كثيرة ستبكى محراثك
الباسل العنيد
منتهى الإجادة في التوصيف وتأطير الصورة المبللة بنقيع سواقي أبى الخصيب
ويسيح في تغزله كما الزبد الراغي عندما يهجر الأمواج ليهجع
اليل شعر مسدل على كتفي النهار
النجوم كرات نبي مبعثرة
الشمس قبعة مائلة للغروب
لكن الموت شقيق غادر دائما.
في قصيدته(التذكرة والنسيان)وهي أطول قصيدة في الديوان يستعذب التنقل بين الجزر الماليزية وفتياتها وشواطئها ونسترخى معه فوق تلك الشواطئ المحروسة بالباسق من النخيل ومعابدها المتناثرة كما المطر الذى لايعرف المواقيت وكأن الجميع يستحم بعد إغفاءة مساج بين يدى فتيات بعمر اللحظات الغافية.
(في الفندق الرطب) اقصر قصائد الديوان وهى تحمل صورة لرحلة ديوانه هذا وقد أوغل الشوق به وتركه يئن على قريته ونهرها وشمسها المهاجرة.
قصيدة الفندق الرطب وكأنها تصور شجن السياب وتلوعه على جيكور ونهرها السويب حتى يكبر شوقه كشط العرب
قصيدة مكثفة اختزل بها مرامي عديدة وجملا بها مساحات مبهرة من الشوق والحب والألم والمرض الذى كان يعانيه الشاعر بدر شاكر السياب.
يبرع طالب عبد العزيز في انهمار صوره الغزلية عن النساء ويحلق في سماوات وصفية باذخة في مفرداتها وكأنه يعيشها الساعة
كثيرة انا
وشعري كثير على السرير
ويداي كثيرتان في الغرفة
تطوقانك حيثما تكون
فاقدم علي
بكثير حبك تعال
يحلق هذا الخصيبي الأصيل في انثيالات دعوة حبيسة الى الالتصاق حد الذوبان والرضوخ لجموح الرغبة التي تتزين وتتعطر لتذوب امام ارادات القلوب واشتهاء الاجساد الظامئة حين تجرفهما النشوة وتغيبهما من الوعى لترتمي في أحضان العناقات اللاهفة الى اللقاء.
في قصيدته (الرعي فى السهول) يواصل الشاعر طالب عبد العزيز رحلته مع التياعه للقاء حبيبته وهوسه بجسدها
يغريه فيتغزل بتفاصيل ذلك الجسد المتسلط عليه فيسيح متجولا بمحطاته التي تؤجج اللذة وتفجر الرغبات في جسد امتلكه وخضع لسطوته المشتهاة.
في تجليات الخصيبي محطات عديده تغرى بالتوقف عندها وفك شفراتها
التي برع الشاعر في صياغة جمالياتها اللفظية والتأطير الذوقي الذى يرتع في الحداثة بامتياز ووضوح.
ليس طالب عبد العزيز شاعرا بمقاسات آنية او قوالب متداولة ولا هو مكرر لما سبق من نتاجاته الجالبة للانتباه فهو يسبح في فضاءات شعرية مستلة من الطبيعة ومحاكية لمكوناتها حتى لكأنك تشم عند قراءتها الطين الخصيبي بين سطورها تشعر ببلة الماء ورطوبة سباخ بساتين بلدته وترى الترع والاشجار والبيوت التي تقاوم التهجير.
لقد افلح الشاعر في دمج الرواية بالشعر بتقنية وحرفية مستمدا أدواته في الكتابة من نهجه كإعلامي مميز وكاتب عن جغرافية وتاريخ الأماكن بحرص ودأب.
نخلص الى حقيقة من عدة حقائق يمكن ان نتطرق ونشير اليها عن طالب عبد العزيز الشاعر والكاتب والإعلامي والمحلل والناقد بانه المتمكن في كل هذه الحرفيات والمفاصل الثقافية بتنوعها ونضيف الى ذلك انه وجه اجتماعي ويشفع له ما اثرى به المكتبة البصرية والعراقية والعربية.