ثلاثية الكهولة والموت والمتعة

ثلاثية الكهولة والموت والمتعة

د. كلكامش نبيل
يناقش الكاتب الأميركي الشهير فيليب روث في روايته "الحيوان المحتضر" العديد من المسائل الوجوديّة والجوهريّة التي تتشكّل منها حياة الإنسان، فهو يناقش مسألة الجنس والموت والزواج والعلاقات الأسريّة والثورات الاجتماعية من خلال سرد متّصل غير مقسّم إلى فصول في رواية تختلط أحداثها بتفاصيل من حياته الشخصيّة. فالكاتب يناقش مسألة التقدّم بالعمر

من خلال طرحه لذكريات"دافيد كيبيش"الذي يبلغ العقد السابع من عمره، وقد بدت حياته سلسلة من الذكريات لا أكثر، عن علاقاته المتنوّعة بطالباته الجامعيّات لا سيّما الشابّة الأميركيّة الكوبيّة كونسولا كاستيلا، والتي تنحدر من عائلة كوبيّة ثريّة مهاجرة. فالكاتب يحاول توضيح ما يعانيه رجل في عمر متقدّم يقيم علاقة مع شابّة في الرابعة والعشرين من العمر ويحاول توضيح أسباب انجذاب فتاة في مثل عمرها لرجل يكبرها سنا بكثير ويرى كون الثقافة والحديث عن الفن والنقد الأدبي والكتب والموسيقى غطاء يخفي حقيقة غايته التي يريد الوصول إليها ألا وهي الجسد.
تغرق الرواية في البداية في وصف ممل بعض الشيء للعلاقة بين دافيد وكونسولا وتكاد تكون مفرطة في الوصف بشكل يقارب البورنوجرافيا، ولكنّ الكاتب يناقش وسط ذلك مسائل متعدّدة كالزواج والذي يرى فيه سبيلا للقضاء على الغيرة والقلق الذي يعمر قلب الرجل من أن يفقد حبيبته أو قرينته ولهذا يجبرها على توقع عقد يكسبه الطمأنينة بأنّها لن تتركه. الكاتب يناقش مسألة انفصال"كيبيش"عن زوجته والظلال التي يلقي بها ذلك الانفصال على علاقته بابنه، فهو يصف عدم قدرة الابن على مسامحة والده الذي خان والدته وفي الوقت نفسه ازدواجيته لأن الأخير يتمسّك بدور المثالي مع إنّه يخون زوجته فيما بعد هو الآخر ولكنّه وتحت وطأة ما اكتسبه من أمّه لا يقوى على الانفصال وتبقى الأسرة بالنسبة إليه الأولويّة ولكنّه يحاول توضيح بأنّ خيانته هو لا تشابه خيانة والده ولكأّن الكاتب يحاول توضيح شيزوفرينيا البشر من خلال موقف الابن هذا وموقف كونسولا التي تدين علاقة كاتب شهير بفتاة شاهدتها ترافقه في المقهى، لكأنّ الإنسان يعجز عن رؤية واقعه بذات العين التي ينظر بها إلى الآخرين.
يناقش الكاتب مسألة الحريّة والتي يعتقد بأنّ بطله وضع نهاية لزواجه من أجلها، ويرى بأنّ الحريّة حقّا تستحق كل ما قام به، فنقرأ،"التفاهة هي تخلّي المرء عن حريّته بإرادته."ونقرأ أيضا،"إذا ما أخذت الحريّة منك بالقوّة، فلا حاجة إلى القول بأنّك لست تافها، إلاّ بالنسبة إلى الشخص الذي انتزعها منك بالقوّة. لكن من يتخلّى عن حريّته، من يستميت ليتخلّى عنها، يدخل إلى عالم التفاهة."و"ربّما يكون الشخص الحر مجنونا، غبيّا، منفرا، بائسا، لمجرّد أنّه حر، لكنّه ليس تافها، إنّ لديه بعدا ككائن."فالكاتب يرى الحريّة أولويّة تستحق التضحية ويرى بأنّ ابن"كيبيش"لا يقدّر السبب الذي قام به والده من اجله بالانفصال عن أمّه. تناقش الرواية أيضا الحركات الشبابيّة والتمرّد في أميركا في ستينيّات القرن الماضي ويحاول التذكير بين الفينة والأخرى بمدى جرأة الفتيات في الوقت الحاضر مقارنة بما كان عليه الحال لدى أسرته اليهوديّة من أواخر القرن التاسع عشر والتي تقطن في ضواحي نيويورك وكذلك المقارنة مع أسرة كونسولا الكوبيّة والتي تضيّق على ابنتها كثيرا في سنيّ المراهقة.
تناقش الرواية مسألة العلاقة بين اعمار مختلفة وترى فيها عبئا إضافيّا فالرجل يتساءل عن سبب قدوم هذه المرأة إليه ويساوره القلق الدائم بالفقدان والخسارة الوشيكة، ولكنّه في الوقت ذاته يرى بأنّ المرأة تكسب شيئا معنويّا من إخضاع رجل كبير له وزنه وشهرته في الغالب وتشعر بالظفر والهيمنة، فنقرأ،"لقد كانت البداية الحقيقيّة لسيطرتها.. السيطرة التي كانت سيطرتي المدخل إليها. لقد كنت أنا مؤلّف سيطرتها عليّ."ولكنّ هذا القلق في النهاية يجبره على قطع علاقته بها فجأة وليستمر الانقطاع فترة ثماني سنوات، قبل أن تعود من جديد لتؤكّد له بأنّ النهايات لا تكون في الغالب كما هو مفترض وبأنّ القصص الأسطورية التي يموت فيها الناس تباعا وفق تسلسل أعمارهم ليست من الحقيقة في شيء وبأنّ النهاية الغامضة قد تزورنا في أيّة لحظة.
تناقش الرواية أيضا قضيّة المواطنة والانتماء، فكونسولا التي ولدت في أميركا لا تعتبر نفسها كذلك وتصرّ على تعريف نفسها ككوبيّة ويزداد ذلك الشعور قوّة في النهاية وكأنّ الإنسان يتقمّص كل مشاعر الطاعنين في السن ما أن تحلّ النهاية حتى وإن جاءت مبكّرا. فكونسولا عاشت على صور خلقتها بنفسها عن وطنها الأم كوبا ويمزّق قلبها تحطّم تلك الصور في النهاية وتلاشي حلم رؤية هافانا أمام عينيها كما رحل أهلها من قبلها من دون رؤية مدينة صباهم وأحلامهم.
يناقش الكاتب مسألة الموت والمرض من خلال وصف حال صديق"كيبيش"المقرّب ولحظات وفاته بعد إصابته بجلطة دماغيّة، ومن ثمّ وصفه لحال كونسولا الفاتنة بعد أن أصابها السرطان والذي أصبح يهدّدها بفقدان ثديها الايمن، الشيء الاثير الذي لم يستطع كيبيش نسيانه على الإطلاق طوال سنوات فراقهما. يكاد يكون وصف"فيليب روث"لكل تلك المشاهد عن المرض والجنس مثيرا للاشمئزاز وكأنّ الحياة تختزل في هذه الأمور قبل أن تحلّ النهاية ويفنى الإنسان، وكأنّ به يريد إيصال رسالة بمدى عبثيّة الحياة وبشاعتها. في النهاية يجيد الكاتب وصف تغيّر الزمن في منظور كونسولا ليكون مشابها لنظرة"كيبيش"العجوز فنقرأ،"فالوقت بالنسبة للشباب يتكوّن دائما بما هو الماضي، لكنّ الوقت بالنسبة إلى كونسولا هو الأن كم تبقّى لها من المستقبل."ونقرأ أيضا،"إنّها الآن تقيس الوقت بالعد إلى الأمام، تعدّ الزمن باقتراب الموت."فشبح الموت الذي كان يطارد"كيبيش"وجعله يعتقد بأنّ كونسولا ستعيش طويلا بعده قد فاجأه ليزورها مبكّرا – وإن تترك الرواية النهاية مفتوحة من دون أن نعرف نتيجة العمليّة – ولكنّها رواية تؤكّد على هاجس الإنسان منذ أقدم العصور وخوفه من فكرة الفناء، فنقرأ"في كل شخص هادئ وعاقل، يوجد بداخله شخص ثانٍ مختفٍ أحمق خائف من الموت.
الرواية جميلة وإن كان من الممكن أن تصيب القارئ بالملل في بعض الأجزاء إلاّ أنّها تستحق القراءة وثريّة بالمعلومات الفنيّة والموسيقيّة وتنم عن ذوق رفيع للكاتب في مجال الموسيقى الكلاسيكيّة كشومان وموتسارت وبيتهوفن وشوبان وسكارلاتّي، بالإضافة إلى معرفة قديرة في شؤون فن الرسم والنحت. الرواية محاولة لتبديد مخاوف الإنسان من الموت وتذكير بأنّ العمر المتقدّم ليس بالضرورة دليلا على قدوم النهاية، فهذه النهاية قد تأتي في أي لحظة، فنقرأ"قد لا تفعل الشيخوخة ما يفعله السرطان، لكنّها تفعل ما يكفي."فهي تعبير عن مخاوف الإنسان من التقدّم في السن والفناء ولكنّها دعوة لأن لا نيأس وإن لم تقدّم لنا البديل عمّا يفترض بنا القيام به أثناء إنتظارنا قدوم اللحظة، ولكنّني أعتقد بأنّ انتظار لحظة الفناء هو فناء مبكّر بكل المقاييس والأجدى بنا أن ننسى موضوع النهاية حتّى تأتي فجأة، إن كان في الإمكان نسيان ذلك، ولكن نسيان ما لا يمكننا إيقافه بالتأكيد الطريقة الأفضل لأن نحيا بسعادة.