برهان الدين العبوشي.. فارس السيف والقلم

برهان الدين العبوشي.. فارس السيف والقلم

لم يمض وقت طويل على الندوة التي عقدها قسم اللغة العربية في جامعة البترا تكريما للشاعر الفلسطيني الراحل برهان الدين العبوشي، بمناسبة مرور مائة عام على ولادته، حتى صدرت أعمال هذه الندوة في مجلد واحد ضم أوراقا قدمها عدد من أساتذة الأدب العربي في جامعة البترا،

وبعض الجامعات الأردنية الأخرى والعربية (1).
لقد جاءت هذه الندوة في سياق ما دأب عليه قسم اللغة العربية في جامعة البترا من عقد ندوة سنويا لتكريم أحد أعلام الفكر والأدب، يتم خلالها تناول أعماله بالبحث والنقاش، ثم تنشر وقائع الندوة في كتاب، لتصل إلى أكبر عدد ممكن من الباحثين والدارسين، سواء من خلال حملات تبادل المطبوعات مع الجامعات الأخرى، أو من خلال وسائل التوزيع والنشر التقليدية.
حرر الأبحاث المنشورة في هذا المجلد بصيغتها النهائية اثنان من أساتذة الأدب العربي في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة البترا هما د.خالد الجبر ود.نبيل حسنين، وكلاهما غني عن التعريف لما قدماه للمكتبة العربية من أبحاث ودراسات مميزة. ضم الكتاب، بالإضافة إلى كلمتي د.عدنان بدران، رئيس الجامعة، وسماك العبوشي، النجل الأكبر للشاعر المكرّم، ثمانية فصول تفردت وتفاوتت في موضوعها، وجديتها، وتنوعها، وأصالة محتواها.
بدايةً، نوه بدران بأهمية وضرورة عقد هذه الندوة التي تكرم الراحل العبوشي، حيث تؤدي دورا حقيقيا ومهمّاً في تواصل دؤوب مع المجتمع، وتسهم كذلك في نشر الوعي بين الناس حول ارتباط الأدب الملتزم بقضايا الأمة المصيرية (2). وفي كلمته شكر سماك العبوشي جامعة البترا وقسم اللغة العربية، وأشاد بجهود د.حلمي الزواتي ود.أحمد الخطيب في التخطيط لهذه الندوة وتبنيها (3).
شكلت ورقة د.فهمي مقبل الفصل الأول من هذا المجلد (4)، حيث درس وحلل صورة الشاعر العبوشي في كتابات معاصريه من الكتاب والأدباء والباحثين بلغة أدبية جميلة وعبارات رشيقة، كما هي عادته في معظم كتاباته وأبحاثه.
وعلى مدى ست وثلاثين صفحة موثقة بهوامش ومراجع عديدة، تناول مقبل سيرة الشاعر العبوشي والظروف السياسية التي صاحبت ولادته ونشأته، ثم حلل شخصيته الأدبية والوطنية، وكشف خلالها، مدعما بآراء عدد كبير من الباحثين الذين تناولوا شعر العبوشي وحياته، عن الجوانب الإنسانية والوطنية والسياسية والعروبية والاسلامية في أدبه، سواء من خلال مجموعاته العديدة أو مسرحياته الشعرية. لقد شف هذا التحليل عن نفس أبية غيورة لا تحيد عن الحق ولا تجامل الباطل، فكان نصيبه الحرمان من إكمال دراسته الجامعية، وتشريده خارج وطنه الأم فلسطين، وأخيرا تجاهله إلى حد النسيان، فلسطينيا وعربيا (5).
ضم الفصل الثاني ورقة د.رجا سمرين، الشاعر والأديب الفلسطيني المعروف، وأستاذ الأدب العربي في معهد التربية للمعلمين في الكويت سابقا (6). ناقش سمرين في مستهل ورقته المعنونة"أدب السيرة في تراث العبوشي"(7) مفهوم السيرة الذاتية وأبعادها الشخصية والاجتماعية والسياسية، ثم انطلق يبحث عن هذه الأبعاد في سيرة الشاعر العبوشي"من السفح إلى الوادي ألبي صوت أجدادي". ومع أن الشاعر الراحل لم يقسم مذكراته صراحة تحت هذه العناوين، إلا أنه وفّى هذه الأبعاد ضمنيا ما تستحق من الاهتمام. ولقد عقب سمرين بالتحليل والدرس على مختلف أجزاء تلك المذكرات بدءا بمرحلة الطفولة الأولى والدراسة المتعثرة والظروف السياسية التي صاحبت هذه المرحلة على المستويين الوطني والقومي، مرورا بتصديه للعمل العام، وانخراطه في مقاومة الإنكليز الذين كانوا يهيئون فلسطين لتكون وطنا قوميا لليهود. ثم علق على ذهابه للعراق ومشاركته في ثورة رشيد عالي الكيلاني وعودته إلى فلسطين بعد إخماد نار الثورة، وأخيرا وقوع نكبة فلسطين عام 1948، ولجوئه إلى العراق والاستقرار فيه إلى أن وافاه الأجل في بغداد يوم الثامن من شباط/فبراير عام 1995 عن عمر يناهز أربعة وثمانين عاما قضاها مجاهدا بيده ولسانه وقلبه (8).
وفي الفصل الثالث قدم د.محمد صالح الشنطي، عميد البحث العلمي في جامعة جدارا الأردنية، نظرة تحليلية أخرى لمذكرات الشاعر الراحل مناقشا جدل الشعر والتأريخ في تلك المذكرات بلغة راقية وأداء متميز (9).
استهل الشنطي ورقته بالإفصاح عن هدفه من الدراسة، ومنهجه في تحليل مذكرات العبوشي، واستجوابه لفكر الشاعر وخطابه السردي، ليلقي الضوء على الترابط العضوي بين ما هو خاص بحياة الشاعر وما هو عام مرتبط ببيئته زمانيا ومكانيا، وكيف تمكن الشاعر العبوشي من تقديم هذا كله في إطار لوحة مكتملة المعالم والرؤى. لقد أكد الشنطي أن مذكرات العبوشي، بصرف النظر عن تعريفات السير الذاتية ومقاييسها، سجلّ دقيق للوعي الوطني والقومي العربي في مرحلة مهمة من تأريخنا المعاصر، والذي شهد تقسيم الوطن العربي، وتسليم فلسطين للصهيونية العالمية، لتكون وطنا دائما لليهود، ومن ثم تشريد آلاف الفلسطينيين، أصحاب الأرض الشرعيين إلى الشتات، وكذلك الهزائم العربية المتتالية، والتناحر على كراسي الحكم، وتراجع الوعي القومي، واضمحلال الاهتمام بالمسألة الرئيسة (قضية فلسطين).
كما لاحظ الشنطي أن العبوشي لم يغفل الجانب الوطني الفلسطيني حتى عندما كان يتحدث عن أدق المواضيع الشخصية والعائلية. واكتشف الكاتب جوانب مهمة في شخصية الشاعر الراحل صاحب المذكرات، منها الصدق والغيرة على وطنه ودينه. ولعل اعتراضه على ما قاله جورج أبو شهلا، أحد معلميه، حول حديث الإفك، معرضاً بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعن أبيها، لَدليل صادق على ذلك.
كما امتازت مذكرات العبوشي عن مثيلاتها من السير الذاتية بكثرة الشواهد الشعرية، سواء كانت من شعره أو من شعر غيره. وخلص الشنطي إلى القول إن مذكرات الشاعر العبوشي مزدحمة بحوادث التأريخ على قلة عدد صفحاتها (128 صفحة)، مثقلة بعبير الأرض في احتفالية بالوطن فلسطين، ونكران غير متكلف للذات (10).
وفي الفصل الرابع، أولى الأوراق التي تناولت بالبحث والتحليل أشعار العبوشي ضمن هذا المجلد، تناول د.أحمد الخطيب فلسطينَ في شعر العبوشي قبل النكبة وبعدها بأسلوب ممتع وتحليل دقيق للقصائد ضمن أطرها الزمانية والمكانية والنفسية والسياسية (11). ويرى الخطيب أن برهان الدين العبوشي واحد من أبرز شعراء المقاومة العرب والفلسطينيين إلى جانب إبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود وعبد الكريم الكرمي وحسن البحيري ومطلق عبد الخالق وهارون هاشم رشيد. وما يميز العبوشي عن بعض أقرانه من شعراء فلسطين أنه شاعر ثائر أتبع القول بالفعل، فقاوم الانتداب الإنكليزي على أرض فلسطين، وشارك في ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق عام 1941، وظلت فلسطين هاجسه وحلمه المطارد حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى غريبا عن أرضه التي أحب وأنشد لها أجمل القصائد (12).
ويرى الخطيب أن مطلع ثلاثينيات القرن الماضي كان موعد تبلور موهبة العبوشي الشعرية، وإحساسه الحقيقي بوجع بلاده المبتلاة بفساد الأنظمة العربية، وتنامي الهجرة اليهودية، والاحتلال الإنكليزي البغيض، وتسريب مساحات شاسعة من الأراضي الفلسطينية المملوكة لبعض الإقطاعيين العرب والزعماء الفلسطينيين في السهل الساحلي الفلسطيني وفي بقاع أخرى من مدن وقرى فلسطينية متفرقة إلى شركة تطوير أراضي فلسطين وإلى الصندوق القومي اليهودي (13). ولذلك صبّ جام غضبه لا على الإنكليز والصهاينة فقط، بل وعلى السماسرة وباعة الأرض أيضا، فنعتهم بأقذع الأوصاف.
ويؤكد الخطيب أن العبوشي كان واعيا للمؤامرة العالمية على فلسطين، فنذر نفسه للجهاد من أجل تحريرها بالبندقية، وبالكلمة الواعية. ويتابع الخطيب قصائدَ العبوشي عبر مجموعاته الأربع، بيتا بيتا، فيجد أن الشاعر قد عاش كل هذه الأحداث، بل تنبأ بحدوثها قبل وقوعها. وبعد ضياع القسم الأكبر من فلسطين وسقوطه بيد اليهود عام 1948، لجأ العبوشي إلى العراق ليحمل المشعل من جديد، ينير درب شعبه وأمته في جميع محطاتها وثوراتها وحروبها مع دولة الاحتلال ومع الأنظمة الفاسدة التي حمت حدود الكيان الصهيوني منذ النكبة حتى يومنا هذا (14).
لقد شكلت ورقة د.زاهرة أبو كشك، من قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة الزيتونة الخاصة، الفصل الخامس من هذا المجلد، حيث درست الالتزام السياسي في شعر العبوشي (15). والسياسة، كما يلاحظ القارئ لأشعار العبوشي، هي محور قصائده، وهاجسه الدائم، وظله الذي لا يفارقه. وتعزو أبو كشك التزام العبوشي السياسي إلى إيمانه العميق بحقه كاملاً على تراب وطنه كافة، وهذا الإيمان تغذّيه عقيدة دينية مدّته بكل أسباب القوة، وشعور وطني فياض حمله على وضع روحه على راحته مقاوماً المحتلين بالبندقية والكلمة الصادقة المعبرة. هذا الشعور الفياض أضفى نبرة خطابية عالية على معظم قصائد الشاعر فأعطاها شحنة عالية كفيلة باستنهاض الهمم وتحفيز الشباب على المقاومة. وخلصت أبو كشك إلى التأكيد على ما بدأت به ورقتها من أن الشاعر العبوشي بقي يحمل هموم شعبه إلى أن غادر الحياة الدنيا معبّراً عن ذلك بقصائده المجلجلة التي ما خبا أوارها على مدى السنوات الماضية، لتبقى نبراسا يضيء عتمات الطريق الطويلة والشاقة إلى فلسطين (16).
وفي الفصل السادس من هذا العمل، تفردت د.ابتسام مرهون الصفار، أستاذة الأدب العربي في كلية التربية للبنات بجامعة بغداد، بورقة عن العراق في شعر العبوشي (17). وكما أشارت الباحثة، فإن الشاعر العبوشي قد ألِفَ العراق قبل الوفود إليه مدرّسا عام 1939، ومشاركته في ثورة رشيد عالي الكيلاني عام 1941، حيث كان يرى، وبقي إلى وفاته، في أهل العراق السند الحقيقي والظهير القوي لشعب فلسطين. فكان كثيرا ما يستنهض هممهم في قصائده وخطبه. وعندما وصلت طلائع الجيش العراقي إلى جنين عام 1948، مدينة الشاعر، كان هو أول من التحق بهم مجاهدا. وبعد النكبة عاد إلى العراق من جديد، فنال جنسيتها العربية كشاعر عربي مناضل في عام 1951، ثم اقترن بفتاة عراقية من آل الحافظ الموصليين، فأنجب منها ولدين هما سماك وحسن. وعن استقراره في العراق ونيل هويته، قال:"جئت من وطني الأصغر إلى وطني الأكبر العراق"(18).
لقد أحب الشاعر الراحل العراق حبا صافيا إلى حد العشق والتقديس (19)، وكان يرى فيه المنقذ والأمل المرجى، ويرى في أنهاره وبحيراته أنهار فلسطين وبحيراتها، وخاصة بحيرة طبرية التي ربطها ببحيرة الحبّانية. كيف لا وقد أفرغ في مجموعته الأولى"جبل النار"وحدها إحدى وثلاثين قصيدة للعراق تحت باب"العراقيات"، هذا عدا المقاطع المتفرقة في قصائد المجموعة. أما مجموعاته الأخرى فما خلت من ذكر العراق ممجدا وعاشقا. وتساءلت الصفار في نهاية ورقتها عن أسباب اعتزال العبوشي الشعر خلال العقدين السابقين لوفاته، وقد مر العراق بأحداث داميات جسامٍ لم يُسمع له خلالها صوت، بل اعتزل الناس وأغلق عليه بابه، وربما كان هذا سببا في التعتيم عليه وعلى أشعاره خلال تلك الفترة.
وحمل الفصلان الأخيران، السابع والثامن، دراستين نقديتين لمجموعتين شعريتين للشاعر الراحل ("جبل النار"و"جنود السماء"). فقدم د.نبيل حسنين، من قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة البترا، دراسة عن التناص في شعر العبوشي"متخذا مجموعة"جنود السماء"نموذجا (20). وقدم د.إبراهيم خليل، من قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة البترا أيضا، دراسة أسلوبية في مجموعة"جبل النار"للشاعر الراحل في الفصل الثامن والأخير من هذا المجلد.
ويرى حسنين أن التناص في شعر العبوشي في مجموعته"جنود السماء"تَمثل في أربعة أنواع رئيسة: الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة، والأسماء، والأحداث التاريخية، والتي بلغت بمجملها ثلاثمائة وثلاثين تناصا. وانتهى الباحث إلى أن الأفكار الدينية قد استحوذت على مجمل أشعار العبوشي مما جعل التناص القرآني سمة غالبة على مجمل قصائد المجموعة (21).
وخاتمة أبحاث هذا الكتاب ورقة د.إبراهيم خليل (22) الذي قسمها إلى قسمين رئيسين: الأسلوبية: معناها والغاية منها، ثم ظواهر أسلوبية عند العبوشي في مجموعته"جبل النار".
في القسم الأول استعرض الباحث مفهوم مصطلح"الأسلوبية"عند عدد من الباحثين، وأظهر التباين في آرائهم و فهمهم لفلسفة هذا المصطلح والغاية منه. وفي القسم الثاني أشار خليل إلى أن نصوص المجموعة الشعرية عكست شخصية الشاعر العبوشي بكل أبعادها، وهي صورة حية للواقع العربي والفلسطيني بعد النكبة مباشرة، حيث صدرت المجموعة بعد النكبة وعشية العدوان الثلاثي على مصر. ولذا جاءت مفعمة بما يليق بتلك المرحلة من مفردات سيطرت على جميع القصائد تقريبا، منها: الوطنية، والجهاد، والعروبة، والقرآن، والسيف، وفلسطين، والعزة (23).

***

رغم أهمية هذا الكتاب النابعة من أهمية الموضوعات التي تمت مناقشتها، ومن مكانة الباحثين العلمية والفكرية، هناك بعض الملاحظات الأساسية والعامة، منها:
- كثرة الأخطاء المطبعية في نصوص بعض الدراسات والشواهد الشعرية، إذ هناك ما لا يقل عن عشرة أخطاء في إحدى الأوراق المنشورة، مما لا يليق بهذا العمل الجاد.
- افتقار الكتاب لكشاف عام بأهم الموضوعات التي تناولتها الأبحاث، ولكشاف آخر بأسماء الأشخاص والأماكن الواردة في نصوص الأبحاث.
- خلوّ الكتاب من قائمة مراجع عامة مختارة من أبرز المراجع التي استعان بها الباحثون لإعداد أبحاثهم، وخلوّه كذلك من نبذة تعريفية بالمشاركين في إعداده.
- لم يمهد المحرران للكتاب بمقدمة تُظهر أهميته والآمال المرجوة من إعداده ونشره.
- لقد وضع الناشر اسمه على جميع صفحات الكتاب، بطريقة تتنافى وتقاليد طباعة الكتب.
ورغم ذلك، فإن هذا العمل الأصيل يستحق اهتمام أساتذة الأدب العربي وطلبتهم في الجامعات العربية، وقد يكون مفتاحا ومحفزا لأعمال أخرى أكثر اتساعا بحيث تكون أشعار العبوشي موضوعا غنيا ومغريا للبحث من قبل طلبة الدراسات العليا في الجامعات العربية والأجنبية. كما يستحق هذا الكتاب أن يجد مكانه الطبيعي في مكتبات الجامعات الأردنية والفلسطينية والعربية، ليكون في متناول يد الباحثين، بل لا بد أن يكون ضمن المجموعات الشخصية للمهتمين بالأدب والشعر الفلسطيني المقاوم.

* باحثة ومترجمة وناشطة حقوقية فلسطينية
مقيمة في كندا.