من اصدارات المدى.. الحضارة الإسلامية.. روح الاعتدال  معقولية الانتماء للأسلاف والإخلاص لحقيقة تجاربه

من اصدارات المدى.. الحضارة الإسلامية.. روح الاعتدال معقولية الانتماء للأسلاف والإخلاص لحقيقة تجاربه

الحضارة الاسلامية.. روح الاعتدال واليقين
تأليف : ميثم الجنابي
الناشر: دار المدى
يؤكد الباحث هيثم الجنابي على ان الحضارة الاسلامية من حيث فاعلية قواها الداخلية تعد حركة صراع تصهر في أعماقها المعقول والمنقول والعقل والوجدان والروح والجسد والدين والدنيا، وذلك في كتابه (الحضارة الاسلامية روح الاعتدال) الصادر عن دار (المدى) للثقافة والنشر،

مبيناً بأنها مكونات متناقضة بمعايير العقل المقارن ومتكاملة بمعايير العقل الثقافي، فان الروح البشري عادة ما يصرخ في أول خروج له من رحم الوجود الإنساني كما لو انه يرد على أنفاس الوجود بلغة تبدو للوهلة الأولى الصيغة الوحيدة الممكنة للقول بان حياة قد ظهرت وأنفاس قد تحررت من رق التعلق بالأسلاف.
فهو مضطر للابتعاد عنهم مع كل خطوة يخطوها إلى الأمام، كما انه ملزم بالوقوف لتأمل وجوده المستقل مع كل خطوة متحررة من اسر الماضي. وهو تحرر يجبره على تأمل أفعاله بمعايير الانتماء الصادق للنفس والإخلاص لتجارب الأسلاف. وهي عملية تعلمه معنى الحقيقة القائلة، بان كل يقين جديد يفترض إدراك وتأسيس معقوليته المتجددة. وكلما يتعمق هذا اليقين، كلما يصبح إشكالية مقلقة للعلم والعمل.. وقد بلورت هذه الإشكالية في الوقت نفسه روح البحث عن اليقين. وتميز هذا الروح في الحضارة الإسلامية بمفارقة احتوائه على الاختيار المجبور في تأمل أفعاله بوصفها بحثا عن الاعتدال. ولا يعني البحث عن اليقين هنا سوى معقولية الانتماء للأسلاف والإخلاص لحقيقة تجاربهم في العلم والعمل، وقد صنعت مرجعيات الثقافة وأعادت إنتاجها من خلال تذليل جزئية الرؤية وضيق الانتماء المذهبي، كما وضعت كل إبداع متجدد أمام امتحان استمراره المعقول والمقبول ضمن منظومة الوجود الثقافي للأمة وهو امتحان يصعب تذليل عقباته دون بذل الروح.. وبذلت الحضارة الإسلامية في ميدان البحث عن اليقين والاعتدال أحد أجزاء روحها الكبير من أجل استكناه ذاتها وموقعها في عالم الإبداع العقلي، وتقاليد الوحي النبوي، وبقايا الوثنية الغابرة. وهو استكناه رافق ولازم خلافات الأمة الناشئة واحترابها الداخلي. وإذا كان الوعي الإسلامي اللاحق قد بذل قصارى جهده لاستلهام تقاليد الرحمة والاستغفار لما مضى فإنه وجد في الاختلاف أيضا حقيقة الخالق وسنته الدائمة في الوجود، وبهذا يكون قد حافظ على استمرار الوحدة المرنة لما يمكن دعوته ببراهين الرحمة الميتافيزيقية وفعالية العقاب الفقهي، وهي وحدة استمدت مقوماتها من جدلية البحث عن اليقين والاعتدال التي شكلت أحد الأرواح الثقافية للحضارة الإسلامية.. وبدورها أعطت للفرقة تأويلاً شرعياً، ولاستمرارها أساسا منطقيا. وليست الأحاديث الشهيرة عن افتراق الأمة الإسلامية إلى نيف وسبعين فرقة الناجية منها واحدة، واختلاف أمتي رحمة، ولا تجتمع أمتي على ضلالة، سوى الصيغ المناسبة لبدايات الصراع السياسي، وملامح تكونه النظري الأول، وهي أحاديث لعبت دوراً هائلاً في تعميق وتقنين مختلف جوانب الإبداع الفكري، كما شكلت في الوقت نفسه عناصر المنهجية الخفية لحصر عدد الفرق الإسلامية الآخذة في التنوع والتعدد الذي كان نتاجاً لتداخل الدين والدنيا والسياسة والروح واتخاذه صيغ الثنائيات المتناقضة التي عادة ما تميز الفكر في مراحل الصراع الحادة.. وقد جرت ببطء كما هو الحال في كل عملية حضارية كبرى حيث مرت بمرحلة نضوج ثقافي عبر دهاليز الفكر النقدي والتقليدي، العقلي والنقلي الخوارجي والشيعي والمرجئي والمعتزلي وغيرها. ومع ذلك لم يكن بإمكانها أن تسير إلى ما لا نهاية في عالم النهاية. فإذا كان الاتفاق العام حول فرق الإسلام الثلاث والسبعين قد وضع حداً لشهية الإضافات الدائمة، فإنه لم يقض على إمكانية الإضافة الدائمة كفروع لأصول. وبهذا يكون الوعي الإسلامي قد خطا في ثقافته نحو الحدود الضرورية التي أبدعتها له تصورات القرآن ويقينياته الجازمة إذ كان ينبغي لهذا الوعي أن يقف عند حدود ملموسة إن أراد تأمل اللامتناهي. وهي نظرة استمدت مقوماتها الأولى من حدس واحدية الحقيقة وتنوع الضلال التي شكل القرآن نموذجها المتسامي ومرجعيتها الروحية. وقد مثل علم الملل والنحل، أو علم الموسوعات الفلسفية والدينية أحد نماذجها النظرية الرفيعة، وليس مصادفة أن يبدأ أول الأمر بتصنيف ودراسة الفرق الإسلامية لينتهي بفرق ومدارس مختلف الأديان والحضارات، ويعبر منها إلى دراسة الحضارات وخصوصية أرواحها الثقافية، فهو الانتقال الذي يعكس تراكم مرجعية الاعتدال العقلاني في البحث عن اليقين عند الأوائل والأواخر.. واضطرت الثقافة الاسلامية بفعل سيطرة الوحدانية الدينية الى البحث في الجزئيات عن خيوط المعرفة الكلية، ولم تعد هذه المعرفة مجرد انعكاس لعلاقة الجزئي بالكلي في العلم الالهي كما تناولها علم الكلام والفلسفة بل واستمراراً طبيعياً لتطوير المعرفة التجريبية والنظرية، فقد كان وراء تنوع اتجاهات ومدارس علم الملل والنحل الاسلامي اشتراكه في البحث عن الفرقة الناجية، ولا يعني إلباس كل منهم لباسه الخاص سوى ان العلم قد دار دورته التاريخية الأولى التي أسست لامكانية اغتنائه الثقافي والمعرفي، ويواصل المؤلف بحثه حتى يذكر ان نقد الأديان في الثقافة الاسلامية يصب في مرجعية رؤيتها الذاتية عن وحدة المعقول والمنقول، وهي مرجعية شاطرها الجميع بقدر تحسسه وعقله وتذوقه لها، ونتج بعد ذلك تشابه جميع فرق الاسلام في المستوى الحسي وتنافر في المستوى العقلي مع الاقرار بوحدتها في الوقت نفسه، ولم ينحصر نقد الأديان في علم دون آخر، فالثقافة لها منطقها الخاص الذي يتجلى في كيفية حل المعضلات الكبرى للوجود الطبيعي وما وراءه، ومجموع هذه الحلول يكون الروح الثقافي للامة في التجارب الاجتماعية والسياسية والفكرية وهو توليف يؤسس لبنية العقيدة الثقافية ومبادئها الكلية وأسلوب تحقيقه في العلم والعمل، وليس مصادفة ان تتراكم في الصيرورة الثقافية للاسلام العناصر التي أبدعت الحديث القائل بان الاسلام بدأ غريباً وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء، ولقد اراد القول بان كل حركة كبرى للإمام هي رجوع الى المبادئ الأولى، الا ان الثقافة لم تضع هذه الفكرة بمعايير العقل المطلق بل ضمن روحها الأخلاقي ومعايير رؤيتها الخاصة عن وحدة الطبيعي وما ورائه.. واذا كانت المؤلفات التاريخية لقضايا الامامة والسياسة قد صورت دراما الامامة والصراع الدائم بين السلطة والاخلاق والحق والباطل والمكر والفروسية والخطأ والصواب والاجتهاد المضاد فان مؤلفات الملل والنحل الاسلامية صاغت بطريقتها الخاصة نمط استيعابها للخلاف في اطار تصنيف الفرق الاسلامية، ويذكر الباحث عن النوبختي عند وضعه قضية الإمامة في صلب البواعث الأساسية القائمة وراء الخلاف في الأمة فانه يكون بذلك قد حدد اسلوب تعامله معها وابرز الطابع السياسي لمفهوم القاعدة الدينية، ويروى له من العلل التي من أجلها تفرقوا واختلفوا، وفي محاولته الكشف عن هذه العلل يربطها بالاسباب السياسية وانعكاساتها الفكرية.