حوكمة السياسة النقدية للبنك المركزي العراقي..بناء الشفافية وكلفة الاقتراض الخارجي

حوكمة السياسة النقدية للبنك المركزي العراقي..بناء الشفافية وكلفة الاقتراض الخارجي

الجزء الثاني
الدكتور مظهر محمد صالح
ثانيا- تصنيف درجة المخاطر الاقتصادية / المدة الطويلة
مازالت الادبيات الاقتصادية الجارية تبرهن من خلال تجاربها الكمية المستمرة واستخدامها النماذج الاحصائية المختلفة، ان كلفة الاقتراض من السوق المالية الدولية تتناسب عكسيا مع درجة شفافية البلدان المقترضة

ولاسيما اقتراضات البلدان ذات الاسواق الناشئة. وقد اشرت تلك الدراسات انخفاض كلفة الاقتراض لديها الى قرابة 11 % في متوسط درجات الانتشار الائتماني (credit spread) عندما اختارت الدول مستوى من الشفافية ينسجم والمعايير الدولية للافصاح، وان هذا الامر قد تجسد بظاهرتين :
ينصرف مفهوم التصنيف الائتماني Credit Rating الى كونه مقياساً للجدارة الائتمانية للمدين، اي قدرة المدين على خدمة الدين ووسيلة لخفض اوحتى تأشير مخاطر الائتمان لأي مصدر ائتماني او اصدار ائتماني معين، كما يشير التصنيف الى القدرة العامة في تلبية الالتزامات المتعلقة بالائتمان اي خدمة الدين (دفع الفائدة والأصل) .
ان غياب التصنيف الائتماني (الرسمي) للعراق وتحديد درجة مخاطره الاقتصادية ، مازالت تختبر في مراكز الدراسات العالمية من دون وجود مرجعية رسمية تحدد الجدارة الاقتصادية لبلادنا .
فتصنيف مخاطر الاقتصاد للبلدان على المدى الطويل Long Term مازالت تبقي العراق في مرتبة وزنها 51.5 ضمن مجموعة الـ (14) دولة شرق اوسطية بلغ متوسط وزنها قرابة 59 نقطة، ولكن على الرغم من ذلك سيعلو العراق قليلاً بلدان الاسواق الناشئة التي ستبلغ 49.5 نقطة ويقترب من المتوسط العالمي
البالــغ 52.4 نقطـة .
* هل حققت جولة التراخيص تصنيفا ائتمانيا مضافاً غيرمعلن للعراق؟
بغض النظر عن هذه التي تصدرها مؤسسات التصنيف الائتماني الدولية والتي تنعكس لامحال في كلفة اقتراض البلدان من السوق المالية الدولية ، وتحملها هوامش مخاطر عالية عند الاقتراض المباشر تضاف إلى اسعار الفائدة المرجعية التي تتعامل بها السوق المصرفية التقسيمات العالمية، فأن مثل هكذا ظروف دولية معقدة امست لا تشجع على الاستثمار والتنمية والتعاون الدولي الايجابي ، وهذا ما لمسه العراق حقاً في تعامله مع المجتمع الدولي طوال السنوات الست الماضية، وعليه فأن عقد الخدمة النفطي عبر جولات التراخيص التي شهدها العراق خلال المدة الماضية مع شركات دولية عالية المستوى في تكنولوجيا النفط وتنفيذ العمليات الاستخراجية ، سيوفر في الظرف الراهن متلازمة ثلاثيـــة Triad Syndrome اساسية هـي :
1 - توفير ائتمان (اقتراض) غير مباشر وبشروط تتناسب ومعايير سوق التمويل الدولية ستوفره الشركة المقاولة وتتحمل ادارته الذي اخذ ينعكس ضمناً في الفترة القصيرة على تعظيم التصنيف الائتماني للعراق الى مستوى عالٍ على الرغم من ان بلادنا مازالت خارج التصنيف الاْئتماني الرسمي الدولي.
2 - توفير تكنولوجيا متقدمة في مجال الصناعة النفطية الاستخراجية، وهي التكنولوجيا التي حرم منها العراق على مدى اكثر من جيل تكنولوجي في اقل تقدير .
3 - تحقيق تدريب فني واداري للكادر العراقي والاطلاع على الادارة الحديثة للعمليات النفطية وعلى وفق معايير الادارة الدولية المعاصرة وهو مايعرف بالتدريب اثناء الخدمة In Service Training . وهذا ماسيتمتع بـه الشريك العراقي الملازم والمراقب لعمليات الانتاج من ميزة نقل للتكنولوجيا Transfer Technology والخبرات المختلفة .
على الرغم من ان مناخ الاستثمار الحالي في العراق، هو مناخ غير مشجع للاستثمار الدولي ولاسيما في المشاريع الستراتيجية الكبرى Mega Projects ، الا ان عقد الخدمة ومايوفره من اسناد تتولاه شركات اجنبية تنهض بالعمليات الانتاجية، سيطلق من دون شك اشارة موجبة عن تحسن مناخ الاستثمار الوطني، وسيفتح الباب لجذب تدفقات قوية للاستثمار الاجنبي المباشر في الحقول والقطاعات اللاحقة للاستخراج والانتاج النفطي ولاسيما صناعة التكرير والبتروكيمياويات وغيرها من قطاعات انتاجية صناعية وخدمية مختلفة، وعندها سيكون العراق مصدر جذب حقيقي للاستثمارات الاخرى وبيئة وطنية حاضنة للتدفقات الخارجية الداخلة تتوافر فيها ما يأتــي :
- منافسة استثمارية دولية غير احتكارية لمجالات الاستثمار في العراق.
- تنوع في مجالات الاستثمار .
- اضعاف القيود الدولية المفروضة على العراق ضمن سياسة الامر الواقع .
- ان امام العراق فرصة للتقدم واستغلال الوقت ضمن مايسمى بالكلفة الفرصيــــة Opportunity Cost لتعظيم الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي والارتقاء بحياة الافراد ومستوى المعيشة. ففي العام 1980 قبل اندلاع الحرب مع ايران بلغ متوسط دخل الفرد السنوي قرابة 3700 دولار والتي تعادل في الوقت الحاضر زهاء 10000 دولار ، في حين ازداد دخل الفرد السنوي من 750 دولاراً في نهاية 2002 الى نحو 3300 دولار وهو تطور مهم في حياة الفرد العراقي ولكن هذا المتوسط لايساوي سوى 1000 دولار بالقيمة الشرائية لعام 1980 قبل الحرب المذكورة آنفاً .
ان مضاعفة دخل الفرد العراقي ليبلغ على الاقل 7000 دولار سنوياً ، فأن الحاجة تقتضي الى مضاعفة الانفاق الاستثماري من مستواه الحالي البالغ 20 مليار دولار سنويا الى 40 مليار دولار وعلى مدى 8 الى 10 سنوات لكي يرتفع معدل النمو في الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي من مستواه الحالي البالغ 5% سنويـاً الــى 10% سنويــا علـى وفــق معطيــات معامــل رأس المـــــــال Capital Output Ratio ، اي نسبة الاستثمار الى الانتاج في الظرف العراقي الراهن والتي تعد مرتفعة بسبب تدهور البنية التحتية وتدني الانتاجية. وهذا لايمكن تحقيقه الا بموارد تمويلية ذاتية اضافية صافية Sustainable Self Finance لاتوفرها في الوقت الحاضر الا الصناعة النفطية الوطنية ، لكي تنطلق التنمية الحقيقية في بلادنا الى امام بعد ان تحولت ثروات البلاد الرأسمالية او التكوين الرأسمالي المادي الى ما يشبه الحطام واقرب ماتكون الى ( انقاض وخرائب) لا تساعد على أي انطلاقة قوية للتنمية الاقتصادية .
وعليه ، فأن المسؤولية الوطنية تتطلب الاسراع برفع طاقة الانتاج من النفط الخام الى مايزيد على 4 ملايين برميل يوميا خلال الاعوام 2010 الى 2012 وبواقعية عالية، وان اي تعطيل في تنفيذ عقود النفط الستراتيجية التي تتم بمساعدة شركات متخصصة اجنبية هو دمار لتقدم العراق ومستقبله الاقتصادي والاجتماعي والسياسي . فرخاء العراق هو مدعاة للوحدة الوطنية وان عدم ازدهاره هو الطريق للتشرذم والانعزال، وان اي تعطيل لفرص الاستثمار النفطي والدخول في دوائر ضياع الوقت والفرصة سيضيف للعراق عقداً آخر من عقود التنمية الضائعة وسيقود البلاد الى منحدر كارثة اقتصادية واجتماعية لا تحمد عقباها .
4 -الاستنتاجات والتوصيات : تقييم تكاليف الاخفاق ورؤية المستقبل
على الرغم من ان العراق مازال يخضع لاحكام البند السابع من ميثاق الامم المتحدة وهو البند الذي يضع العراق للأسف الشديد في اطار المجموعة الدولية التي لاتوفر معايير السلام والامن والاستقرار الدولي وتبيح استخدام القوة ضد بلادنا. وازاء ذلك ، فقد اضحت قواعد القانون الدولي هي الاخرى لا توفر الضمانات الكافية عند قيام النزاع مع الشركات التي تعمل في العراق، اي في بلاد لا يعتد بضماناتها وتعاقداتها عند قيام اي نزاع قانوني مع الشركات التي تعمل في العراق ، سواء اكان لمصلحة العراق ام لمصلحة الشركة المقاولة.
ان بلادنا قـد صُنفت رسمياً منذ العام 1982 ضمن مجموعة البلدان عالية المخاطر High Risk Countries حيث احتل العراق درجة تقييم قدرها (23.1) مقابل بلد مثل النرويج حالياً الذي يحتل اليوم درجة تقييم (100) وان تسلسل العراق بين المجموعات الدولية قـد احتل التسلسل 111 وهي آخر التسلسلات في التصنيف الائتماني الدولي كبلد عالي المخاطر مقابل التسلسل (1) الذي تحتله النرويج اليوم على سبيل المثال .*
تؤكد الدراسات الاكاديمية ان كلفة الاخفاق السيادي او المخاطر السيادية المتمثلة بأخفاق الحكومة في تسديد التزاماتها امام دائنيها الخارجين وحسب مايؤشره التصنيف الائتماني للدول او الانتشار الائتماني ، فأنها ترتب تكاليف واعباء اضافية يتحملها الاقتصاد الكلي للبلاد وعموم النشاط الاقتصادي لتعبر عن ظاهرة الاخفاق الستراتيجي strategic default . فهنالك على سبيل المثال تكاليف السمعة reputation في السوق المالية وكذلك تكاليف الائتمان التجاري trade credit التي تتأثر بسلسلة الاخفاقات والمعبر عنها بالضغوط التي تتعرض اليها التجارة الخارجية وكلف تمويلها وقبول تكاليف مضافة عن طلب الائتمان التجاري بما في ذلك تعدد سلسلة الوسطاء التجاريين واللجوء الى الوسائل غير التقليدية في تمويل التجارة.
كما ان هنالك كلفاً أخرى هي كلفة الاقتصاد المحلي التي يتأثر بها النظام المالي الداخلي تحت ضغط الاخفاق السيادي وعجز الدولة عن الايفاء بألتزاماتها في خدمة ديونها الخارجية، فضلا عن الكلف السياسية التي ترتب استبدال مراكز حكومية تحت تأثير الاخفاق السيادي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* MICHAEL MELVIN 1985, International Money and Finance, Ch.11, APPENDIX 11 : Country Risk Analysis, PP. 185-188

HARPER & ROW, PUBLISHERS, New York
ان الصورة التي شهدتها بلادنا خلال الاخفاق السيادي الناجم عن الحصار الاقتصادي وللأسباب المعروفة منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى مطلع القرن الجديد كان انمواذجاً تجسدت فيه تكاليف الاخفاق السيادية على الصعد كافة التي مازال بعض آثارها ممتدة حتى الفترة القريبة . وهي التكاليف التي تحملها العراق بسبب مخاطرة السيادية ما وضعت البلاد بما يسمى بـ ( نقطة الاخفاق – Default point ) وهي النقطة التي تجعل الديون عند اعلى نقطة عند استمرار تكاليفها التعاقدية والعجز عن سدادها مقارنة بحالة التفاوض واعادة هيكلة الدين واخضاع الدين الى اختبارات قدرة تحمل الدين DSA وهو الامر الذي ابعد شبح الاخفاق السيادي ومشكلات نقطة الاخفاق حسب ماجسدتها مفاوضات نادي باريس واتفاقية تسوية المديونية السيادية للعراق في العام 2004 مع مجموعة الدائنين المنضوين في نادي باريس .
ويلاحظ في هذا الشأن ان نظرية نقطة الاخفاق Default point theory هي واحدة من اخطر ماتواجههُ الديون السيادية في حالة اخفاقها والتي تؤكد عدم قدرة البلاد المدينة من تحقيق صافي مركز للثروة بسبب استمرار الدين ولاسيما عندما تكون المطلوبات مساوية للقيمة السوقية الكلية لموجوداتها وهو الامر الذي يبقي قيمة الثروة الصافية تساوي صفراً بشكل دائم zero equity .
وعلى صعيد النمو الاقتصادي فقد اظهرت الدراسات الاكاديمية التي قام بها الكثير من الباحثين خلال عقد من الزمن امثال (2006)Sturzenegger, F and Zettelmeyer. J وكذلك Borensztein, E and Panizza. U (2008) أن الاخفاق الستراتيجي الذي هو أٌس الاخفاق السيادي وتكاليف الاخفاق السيادية عبر دراساتهم التطبيقية التي اجريت على قرابة 83 بلداً في العالم خلال المدة 1972-2000 ، ان كلفة الاخفاق السيادي او الستراتيجي ترتبط بعلاقة عكسية مع النمو الاقتصادي، وان التكاليف الستراتيجية لنقطة الاخفاق لها تأثير سلبي negative effect على النمو الاقتصادي بنسبة تتراوح بين 0.5% الى 2% وبمتوسط انخفاض لم يقل عن 1.2% . *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* Sturzenegger, Federico, and Jeromin Zettelmeyer, 2006, Debt Default and Lessons from a Decade of Crises ( Cambridge, Massachusetts: MIT Press ) .
وكذلك :
Eduardo Borensztein and Ugo Panizza, 2008, The Costs of Sovereign Default. IMF Working Paper
WP/08/238
International Monetary Fund
وازاء تبدل الوضع الاقتصادي للعراق كقوة اقتصادية واعدة ، فأن بلادنا غدت اليوم بأمس الحاجة الى وضع تصنيف رسمي للجدارة الائتمانية لها Credit Rating من مؤسسات تصنيف ائتمانية دولية معتمدة رسمياً لاسيما بعد تبلور مؤسسات احصائية وطنية تتمتع بقدر مناسب من الشفافية على مستوى اجهزة الاحصاء لدى السلطة النقدية اوالسلطات المالية والتخطيطية الاخرى .
وقدر تعلق الامر بتطور الشفافية من حيث البيانات التي تنتجها مؤسسة الاحصاء المرتبطة بالسياسة النقدية ، فأن هناك تلازماً قوياً بين استقلالية البنك المركزي من جهة وحوكمة نشاطاته من جهة اخرى والتي تعتمد الافصاح ركناً اساسياً في تلك الحوكمة وتقوم على مسألتين:
الاولى خضوع حساباته ،التي هي مصدر بياناته الى التدقيق الخارجي وفق المعايير المحاسبية الدولية وهو الامر الذي تحقق منذ عام 2005 وحتى الوقت الحاضر، والاخرى انتظام تدفق المعلومات وفق معيار النشر العام وتشكيل المصفوفة الاحصائية الوطنية التي يرفدها الجهاز المركزي للأحصاء وتكنولوجيا المعلومات بالبيانات الوطنية التي تخص القطاع الحقيقي والمالي بشكل عام بعد ان آزرت مؤسسة الاحصاء في البنك المركزي العراقي تطور هذه المصفوفة وبناء مقوماتها بشكل متسق يجعل من الجدارة الائتمانية للعراق عند مستوى التحقق الرسمي المتوافق مع القدر الحالي الكامن لبلوغ مستوى يوضح تقدم العراق ونشاط مؤسساته المعلوماتية والمقدرة على بناء دولة المؤسسات بالتزامن مع تدفق المعلومات والبيانات من حيث الانتظام والدقة على وفق المعايير التي تعتمدها المؤسسات الدولية او متعددة الاطراف، فالعراق هو عضو فاعل فيها كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية ومنظمة الانكتاد واجهزة الاحصاء الرسمية للامم المتحدة .
لذا نوصي باهمية تبني التصنيف الرسمي لجدارة العراق الائتمانية ويكون البنك المركزي العراقي والجهاز المركزي للاحصاء وتكنولوجيا المعلومات COSIT النقطة المرجعية في المساعدة على بناء التصنيف الائتماني لبلادنا بما يتناسب والمرحلة الجديدة القادمة التي يتطلع اليها العراق كقوة اقتصادية اقليمية ودولية مزدهرة مندمجة في النظامين المالي والاقتصادي العالمي.

* احد البحوث المشاركة في مؤتمر المدى الاقتصادي الاول