مازن لطيف
كثيرة هي الشخصيات اليهودية العراقية التي تركت اثراً واضحاً في المجتمع العراقي وكان لها دور كبير له مساس حقيقي مرتبط ببقية افراد المجتمع العراقي في مجالات مختلفة كالطب، الفكر، الادب، الصحافة، الفن، ولتعريف الجيل العراقي الجديد بتلك الشخصيات سوف اتناول في هذه السلسلة، العديد من تلك الشخصيات والتي أبدؤها برائد من رواد الصحافة العراقية الذي ما تزال بصماته واضحة في الصحافة العراقية الى اليوم.
ولد سليم البصون في بغداد في عام 1927 تلقى دراسته الأبتدائية في مدرسة الأليانس، والمتوسطة في ثانوية شماش، والاعدادية في ثانوية التفيض الأهلية المسائية... وقد بدأ اتصالاته الأدبية والفكرية والسياسية في عام 1943 وهو في السادسة عشرة، عند اول اشتغاله في الصحافة، وكان ذلك في "جريدة الشهاب" التي كان يصدرها النائب والمحامي شفيق نوري السعيدي. وفي عام 1945 عمل في "جريدة الشعب" محررا أو مندوبا برلمانيا لها، الأمر الذي أتاح له فرصة نادرة في التعرف بسياسة البلاد وشخصياتها، انضم إلى "الحزب الوطني الدمقراطي" الذي كان يراسه كامل الجادرجي، وكان البصون آنذاك يعمل في "جريدة الشعب"، وحين تألف "الاتحاد الوطني" الذي كان يرأسه عبد الفتاح ابراهيم عمل سكرتيرا للتحرير في "جريدة السياسة" ثم "صوت السياسة" لسان الحزب، وحيث كان يعمل في جريدة لسان حزب آخر فقد انضم إلى نفس الحزب الذي كانت مبادئه واهدافه متقاربة مع "الحزب الوطني الديمقراطي"، وبذلك اصبح سليم البصون هو المشرف على تحرير "جريدة السياسة" وفي نفس الوقت اختير محررا "للجنة الدعاية والصحافة" في الحزب. في سنة 1948، تولى سليم على حسابه اصدار "جريدة الأستقلال"، لصاحبها طه لطفي البدري التي ورثها من ابن اخيه عبد الغفور البدري وقد اشرف على تحريرها وادارتها.
وفي عام 1948 تزوج من الكاتبة والقصصية مريم الملا التي أصبحت نعم المؤازر والنصير له. وبعد شهر من زواجه، أي في شهر العسل القت السلطات القبض عليه واعتقل وبعد محاكمة صورية امام محكمة جزاء بغداد ووفق مرسوم "صيانة الأمن العام وسلامة الدولة"، حكم عليه بوضعه تحت المراقبة وقررت وزارة الداخلية نفيه إلى قضاء بدرة على الحدود العراقية الأيرانية لمدة سنة، وكان صاحبنا هو المعتقل الوحيد من بين جميع المعتقلين في تلك الفترة من مختلف الفئات السياسية والأديان، الذي رفضت وزارة الداخلية، وكان يترأسها آنذاك مصطفى العمري، صرف المخصصات المالية له، وهي المخصصات المقررة للمعتقلين. فامضى بقية شهر العسل والسنة الاولى من زواجه منفيا في قضاء بدرة على الحدود العراقية الإيرانية، قضاها لوجه صاحبة الجلالة الصحافة العراقية.
وبعد انتهاء مدة نفيه، أعيد مخفورا إلى بغداد، وقبل ان يطلق سراحه صدر الأمر باعادة اعتقاله واحتجازه، وظل شهرين محتجزا حتى توسط له بعض الأصدقاء والمعارف لدى قائد القوات العرفية الحاكم العسكري العام، فاطلق سراحه بالكفالة.
بعد بضعة اشهر عاد إلى عمله في الصحافة فعمل في بعض الجرائد والمجلات، كان منها "جريدة الشعب" في الفترة التي بدأت هجرة اليهود الجماعية إلى اسرائيل عام 1950، ثم انتقل إلى "جريدة البلاد" التي كان يصدرها شيخ الصحافة العراقية رفائيل بطي، وعمل مديرا للتحرير من عام 1954 حتى وفاة صاحبها حين تولاها ورثته وهم اولاده، فواصل العمل معهم بإخلاص.
في هذه الفترة طلب وزير الداخلية سامي فتاح منع اشتغاله في الصحافة واتصل باصحاب "جريدة البلاد" وطلب منهم استبعاده، وخشية من سطوة الوزير، كادوا ان يستجيوا لطلبه ذلك، لولا ان احدهم وهو فائق بطي وكان قد درس الصحافة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة اصر على الأحتفاظ به او تعطيل الجريدة عن الصدور، فتم الأتفاق بين الأخوة على ان يحرر فيها ويرسل المقالات من البيت ويكون البيت واسطة للألتقاء والعمل.
وحين قامت ثورة 14 تموز 1958 بقيادة عبد الكريم قاسم وسقطت الحكومة وتألفت اول جمهورية عراقية، كان اشتغاله بالصحافة من مركز قوة، حين أصبح مدير تحرير جريدتين رئيسيتين كانتا تنطقان باسم زعيم الثورة عبد الكريم قاسم، وهما "جريدة الرأي العام" للشاعر الكبير الجواهري، و"جريدة الجمهورية" وكذلك "جريدة الأخبار"، وكان لمكانته الكبيرة عند الزعيم عبد الكريم قاسم، أنه أصبح يشرف على تحرير صحفتين صباحيتين بارزتين وصحيفة مسائية وصحيفة اسبوعية. بلغ عدد الصحف والمجلات التي اشتغل في تحريرها اكثر من عشرين جريدة ومجلة خلال 30 عاما أي من 1943 ولغاية 1973
وقد اعتقل البصون مرات عديدة خلال السنوات 1943 و1948 و1956 و1959 وأخيرا بعد أن اعياه الكفاح في خدمة صاحبة الجلالة قرر البصون في عام 1963 الابتعاد عن العمل الصحفي خوفاً على زوجته واولاده. فبدأ بالعمل كمدير لكراج سيارات ولوريات تابع لشركة أهلية، ومن الجدير بالذكر هنا انه بالاضافة الى اتقالاته المتكررة لردعه، جرت محاولتان لقتله في سنتي 1959 و 1963 واحتجز ايضا من قبل مخابرات الأمن في سنة 1973. وبعد ان تأزم وضع اليهود العراقيين اضطر مكرها للهجرة مع اولاده من العراق ولم يبق مجال للعيش في العراق خاصة بعد ان اوقف سليم البصون عن العمل فهاجر من العراق في آب 1973. وبعد خروجه من العراق لم يكف عن العمل في عالم الصحافة الحرة التي كان يهواها.
زامل سليم البصون الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري في العمل الصحفي وربطتهما صداقة طويلة حميمة وقد ألف البصون كتاباً عن الجواهري عنوانه "الجواهري بلسانه وبقلمي"، وهو كتاب ضخم يحتوي على حوادث خاصة مع الجواهري ووثائق غير منشورة من قبل ودراسة واسعة عنه، فضلا عن قصائد ورسائل خاصة للجواهري كُتبت خلال لقاءات عديدة بينهما امتدت في بعض الأحيان لساعات طويلة.
أكمل سليم البصون تدوين الكتاب في العراق ولكنه لم يطبعه هناك خشية أن تعرقل هذه الخطوة امكانية خروجه من العراق بعد ان صدرت موافقة وزارة الداخلية على منحه جواز السفر- في موضوع حساس جداً بالنسبة لأي يهودي عراقي.
اصطحب سليم كتابه، الذي كان بالنسبة له مشروع حياته ، وهناك فكر في طباعته. ولكن ومع الاسف جابهته مشاكل أخرى، الأولى منها هي مراعاة ما قد يسبب للجواهري والذي كان انذاك على قيد الحياة ويعيش بين العراق وجيكوسلوفاكيا، من أصدار كتاب عنه بقلم كاتب يهودي يعيش في إسرائيل.
وللراحل البصون العديد من الكتب المخطوطة من ابرزها كتابه "الجواهري بلسانه وبقلمي" وقد صدر قبل فترة قصيرة في بغداد عن دار ميزوبوتاميا و"النازية في العراق" و´حقائق عن الحركة الكردية" و"صحفيون ادباء" و"هؤلاء عرفتهم"، و"شخصيات من التاريخ" و"دراسات سياسية" و "تراثيات" ومجموعة قصص بعنوان "قدر يسخر".
توفي سليم البصون في شهر آب عام 1995 بعد ان اصيب بمرض اقعده لمدة اربعة عشر عام عن العمل البناء، وقد تناساه اصدقاؤه وتغافلوا عن ذكر مآثره ولم يكن القد ر الغاشم أكثر إنصفا له في أواخر حياته.