لمحات من الأدب المجري..بين النضال والتحرر والأساليب الأدبية الفكرية

لمحات من الأدب المجري..بين النضال والتحرر والأساليب الأدبية الفكرية

ثائر صالح

عرض/ أوراق.... التوزيع/ دار المدى

يذكر الباحث ثائر صالح ان الأدب المجري لم ينشر منه باللغة العربية سوى القليل في محاولات أبرزها الانطولوجيا التي صدرت في مصر قبل أربعة عقود وترجمات عدد من قصائد الشاعرين ايتلا يوجف وشاندور بتوفي للشاعر فوزي العنتيل قبل اكثـر من عقدين.. وذلك في كتابه (لمحات من الأدب المجري) والصادر عن دار (المدى) للثقافة والنشر،

ويتضمن تعريفاً ببعض ملامح الأدب المجري من خلال القصائد والقصص التي تمثل فترات زمنية متباعدة تبدأ من القرن الثامن عشر وتستمر حتى نهاية القرن العشرين.. مبيناً اللغة المجرية تنتسب الى عائلة اللغات الاورالية القديمة، وفرعها الفِنوغوري، وقد نشأت وتطورت في سهوب غربي سيبيريا ومناطق آسيا الداخلية قبل نحو أكثر من 2500 سنة عندما اضطرت القبائل المجرية الى الهجرة جراء ضغط الشعوب التركية التي فقدت مراعيها بسبب الجفاف، وذلك في مناطق ما يسمى بشقيريا اليوم.. وجاء المجريون الى حوض جبال الكاربات في القرن التاسع الميلادي وهم يحملون ثقافتهم البدائية المميزة لهم، والمنبثقة عن الديانة المجرية القديمة (الشامانية)

والأشعار السحرية وأشكال الوعي الميثولوجي البدائي والأشعار الملحمية أو قصائد العمل وغيرها من الاشكال الأدبية الاخرى.. وحفظ المؤرخون القدامي بعض القصص المجرية البدائية برغم أن اعتناق المجريين المسيحية أدى الى محاربة وإبادة كل ما له صلة بالديانة المجرية البدائية القديمة. ومن بين أهم القصص التي وصلت الينا قصة الغزال العجيب وطير الرخ التي تروي أصل المجريين وطريق وصولهم الى أوروبا، وقصص الزعيم آلموش والحصان الأبيض والزعيم بوتوند.. ولا يزال الأدب الشعبي يحفظ الكثير من الوعي البدائي القديم للقبائل المجرية المرتحلة في سهوب أواسط آسيا.. ويذكر المؤلف ان الملوك المجريون الأوائل لعبوا دوراً هاماً في تشكيل ورعاية الثقافة والأدب كالملك لاسلو والملك كالمان في أواخر القرن الحادي عشر، وتواصلوا ثقافياً بأوروبا عبر علاقاتهم المتشعبة مع روما وبيزنطة وكييف وأوروبا الغربية. وزاد بيلا الثالث في القرن الثاني عشر هذه التأثيرات بالتأثير الفرنسي فارتفعت المجر في أواخر القرون الوسطى الى مصاف الدول الأوروبية المتقدمة في مجال الثقافة ووصلت الذروة في عهد الملك ماتياش في القرن الخامس عشر حيث احتلت موقعاً هاماً في أوروبا عصر النهضة آنذاك.. وهناك متوازيات كثيرة بين الملك ماتياش والخلفاء العباسيين الكبار مثل الرشيد والمأمون في التعامل مع الثقافة والأدب.. وفي الفترة العاصفة من تأريخ أوروبا التي شهدت التهديد العثماني فقد كانت مرحلة ظهور الحركة الدينية الاصلاحية لوثر وكالفن، والتي مهدت الطريق أمام اللغات المحلية وقضت على المكانة الخاصة التي تمتعت بها اللغة اللاتينية كلغة أدب وعلم لقرون طويلة. ولا ننسى تأثيرات حركة ترجمة الكتاب المقدس الى اللغات المحلية على انتعاش أدب هذه اللغات، وهي العملية التي بدأها مارتن لوثر بترجمته الكتاب المقدس الى اللغة الألمانية. وقد ترجم غاشبار كارولي الكتاب المقدس العهدين القديم والجديد بكامله الى اللغة المجرية في العام 1590، ولا تزال ترجمته من بين أجمل الترجمات المجرية لغةً الى اليوم.. وشهد منتصف القرن السادس عشر ظهور الأدب المكتوب باللغة الوطنية المجرية واحتلال موقعها الذي تستحقه، وبرغم الاضطهاد الشديد الذي واجهت به الكنيسة الكاثوليكية حركة الاصلاح الديني انتشرت الكنائس الاصلاحية في مناطق واسعة من المجر، وبوجه الخصوص في مقاطعة أردَي ترانسلفانيا وشرقي نهر تيسا السهل المجري. وظهرت مدارس وجامعات عديدة في مدن هذه المناطق، تلتها المطابع بعد ظهور الطباعة في مدن براشو ودبرتسن وغيرها.. وبدأ عصر الباروك في المجر أثناء وبعد التحرر من الاحتلال العثماني، لكن الاحتلال العثماني أُبدل باحتلال الجيوش الامبراطورية التي نهبت حتى القليل الذي سلم من النهب الذي قام به العثمانيون. كل هذا دعا النبلاء المجريين الى مقاومة الاحتلال النمسوي، وبلغت المقاومة الذروة في حرب التحرير التي قادها راكوتسي الثاني في أواخر القرن السابع عشر، ومن بين أهم شعراء هذه الفترة ميكلوش زريني الشاعر والكاتب والسياسي المقاتل الذي اشتهر في حروبه مع الأتراك.. وفي أواخر القرن الثامن عشر بدأ تعليم اللغة المجرية في المدارس الثانوية برغم ان الثورة الفرنسية كانت في أوج هيجانها، وافتتح أول مسرح مجري وتشكلت أول جمعية للكُتاب، ومن أبرز ممثلي عصر التنوير هم جورج بَشَنْيَي الذي خدم فترة في بلاط ماريا تيريزيا في فيينا، ولعب دوراً أساسياً في تطوير اللغة والثقافة المجريتين. أما فرنتس كازينتسي الكاتب والصحفي واللغوي الكبير فقد دعم ظهور المسرح المجري واهتم بحركة الترجمة، وأسهم في ترجمة أعمال شيكسبير وغوته وليسنغ وموليير. لكن أهم إنجازاته كانت في مجال تحديث اللغة. وفي عشرينيات القرن التاسع عشر بدأت مرحلة أدب عصر الاصلاح الرومانتيكي، وتميزت بالسعي للاستقلال عن حكم عائلة هابسبورغ النمسوية. ولعب الأدب دوراً هاماً في هذا الصراع متشبعاً بالمحتوى القومي ومنفتحاً على الأدب الشعبي.. ومن أبرز ممثلي هذا العصر ميهاي فُرُشمارتي الشاعر الانساني الكبير، وأحد أفصح الشعراء المجريين لغة، برع في ترجمة الإرث القومي، وكتب في الدراما اعمالاً منها ملحمته الدرامية تشونغور وتونده. ويوجيف كاتونا الكاتب والمخرج والممثل المسرحي والأديب والمترجم. من أهم أعماله"بانك بان". ومنذ أربعينيات القرن التاسع عشر، تعزز الاتجاه الشعبي في الأدب، بموازاة تعزز التوجه الديمقراطي في أوروبا، وحافظ الشعر الغنائي الوجداني على موقعه في الصدارة، متمثلاً بعمالقة الأدب المجري الذين خرجوا من محيطهم المحلي ليشتهروا في كل أوروبا والعالم، وفي مقدمتهم شاندور الشاعر الثوري الذي قتل في حرب المجريين التحررية وهو في السادسة والعشرين، ويانوش أرانِ أمين عام الأكاديمية المجرية، وإمره مَداتش صاحب أشهر دراما مجرية"ترجيديا الانسان". غير أن العصر الذهبي للأدب المجري بُني على يد مجموعة من الكتاب والشعراء الكبار، ممن يعرفون بجيل الغرب.. وشهدت نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين العديد من الاكتشافات العلمية والنهضة الأدبية الجديدة، ويتربع كل من الشعراء أندره آدي وميهاي بابيتش وآرباد توت والكتاب جيغموند موريتس وفريجش كارينتي على عرش الأدب المجري.. ولكن الحرب العالمية الاولى انعكست بآثارها السياسية والاجتماعية على الأدب فقد انتهت بخسارة النمسا ـ المجر وألمانيا.. وفشلت الثورة الاشتراكية ودولة المجالس المجرية في 1919، ثم جاءت معاهدة تريانون لتقتطع ثلثي الأراضي المجرية وتوزعها على دول الجوار، تلتها الأزمة الرأسمالية الكبرى 1929-1933، فصعود النازية والحرب العالمية الثانية.