الاصلاحات الادارية العثمانية وأثرها في العراق 1839ـ 1908

الاصلاحات الادارية العثمانية وأثرها في العراق 1839ـ 1908

■ د. محمد عصفور سلمان
أصبحت منطقة المشرق العربي ومصر تحت سيطرة الدولة العثمانية خلال النصف الاول من القرن السادس عشر. فقد تمكنت القوات العثمانية في عهد السلطان سليم الاول (1512ـ1520) من فرض سيطرتها على بلاد الشام ومصر والحجاز ، وفي عهد السلطان سليمان القانوني (1520ـ1566) سيطرت القوات العثمانية على العراق ،

كما أرسلت في عام 1538 حملة عثمانية لاحتلال اليمن أقتصر تواجدها على منطقة السواحل ، ومناطق أخرى قريبة حيث لم تتمكن القوات العثمانية من فرض سيطرتها الكاملة على اليمن ، فخرجت اليمن في عام 1635 عن السيادة العثمانية ، ثم أعيد احتلالها ثانية عام 1872 وأستمر الاحتلال العثماني للبلاد حتى عام 1918 .
أما منطقة سواحل الخليج العربي فقد كانت سيادة العثمانيين عليها ضعيفة ، على الرغم من محاولاتهم في السيطرة على الاحساء والتوسع في منطقة الخليج العربي ، وبقيت الدولة العثمانية تنظر الى المنطقة بوصفها اقليماً عثمانياً واقعاً تحت نفوذها، إلا أن الواقع كان غير ذلك لانعدام أي سيطرة عثمانية على تلك المنطقة ، واقتصار نفوذها على الاعتراف بالتبعية الاسمية للسلطان العثماني .
ولتنظيم ادارة هذه الولايات فقد وعد السلطان العثماني في خط كلخانة باصلاح الادارة، والقضاء على الرشوة والفساد في اجهزة الدولة، والقضاء على تجاوزات الولاة، في حين اكد خط همايون على المساواة بين جميع رعايا الدولة في الحقوق والواجبات.
وكان قانون الولايات العثماني الصادر عام 1864، واللائحة التنظيمية للولايات الصادرة في عام 1871 المحاولة الاولى لاصلاح وضع الولايات العثمانية من النواحي الادارية مع تأكيد خضوع الولايات للسلطة المركزية للدولة العثمانية لان القضاء على الفوضى الادارية والرشوة ، التي كانت سائدة قبل صدور القانون واللائحة الادارية يجعل الحكومة قادرة على تطبيق الاصلاحات في الجوانب الاخرى من خلال تحسين وتنظيم وتطوير المؤسسات الادارية للدولة العثمانية بكل ولاياتها .
حرصت الدولة العثمانية من اصدارها قانون الولايات تعزيز النظام المركزي للحكومة العثمانية على ولاياتها المتعددة ، ورغم صدور القانون عام 1864، الا انه لم يطبق في ولايات المشرق العربي في عام صدوره . فقد تأخر تطبيقه في ولايات العراق واليمن والحجاز الى سبعينيات القرن التاسع عشر، أما في مصر فكان لها خصوصية بعد توقيع معاهدة لندن في السادس عشر من تموز 1840 ، فقد اكدت المعاهدة في كافة نصوصها بقاء مصر ولاية عثمانية، وفي الثالث عشر من شباط 1841 صدر مرسوم عثماني تضمن أثني عشر بنداً " كان بمثابة قاعدة بني عليها كيان مصر السياسي والاداري معاً " ، واصبحت مصر بموجبه ولاية عثمانية كباقي الولايات فقد تضمنت المادة الاولى من المرسوم " ان يختار السلطان العثماني من أولاد محمد علي الذكور أو اولاد أولادهم الذكور من يشاء ليخلف على السدة المصرية الوالي المتوفي . فاذا لم يوجد بيـن الاولاد والحفــدة ، خلف ذكر، خلف ذكر، فيختار الباب العالي من يشاء للولاية، بدون ان يكون لاولاد الاناث حق فيها، إلا اذا شاء السلطان اختيار أحدهم ، على ان لا يتبع حق التوريث الاختيار".
وكان العراق قبل صدور قانون الولايات العثماني مقسماً الى أربع ايالات هي بغداد، والبصرة، والموصل ، وشهرزور وعند تطبيق القانون في عهد ولاية مدحت باشا في العراق (1869ـ1872) قسم العراق الى ولايتين بغداد، والموصل ، وضمت الاولى سبعة ألوية هي بغداد، والحلة، وكربلاء، والعمارة، والمنتفك، والبصرة، ونجد " الاحساء" وعدد من الاقضية والنواح والقرى. أما ولاية الموصل فضمت ألوية الموصل، وكركوك والسليمانية ، وعدد من الاقضية يرتبط بها مجموعة من النواح والقرى.
واستند مدحت باشا الى قانون الولايات العثماني لتنظيم أمور العراق ، فعرفت البلاد في عهده تنظيماً أرتبطت بواسطته انحاء العراق كافة بمراكز ادارية رئيسة هي الولاية التي ترتبط بها مراكز ادارية أدنى هي اللواء، والقضاء، والناحية ثم القرية . فارسى بذلك دعائم الادارة الحديثة في العراق . وكانت هذه الاجراءات الادارية الجديدة كفيلة بخلق ادارة مركزية منظمة يكون مركزها بغداد وتولى الاشراف على شؤون الولاية .
وتقرر بموجب القانون تشكيل مجالس ادارية محلية شبه منتخبة في كل وحدة ادارية، وقد وردت أصول انتخاب المجالس في قانون الولايات لعام 1864،أما اختصاصاتها فوردت في نظام إدارة الولايات العمومية لعام 1871.وكان مجلس الولاية يتألف من الوالي رئيساً وعدد من الاعضاء بعضهم من الاهالي، والبعض الآخر من كبار الموظفين المتنفذين ، واوجدت مثل هذه المجالس ايضاً على مستويات الالوية والاقضية والنواحي والقرى .
وكان مدحت باشا بما يملكه من قدرة ادارية فائقة وخبرة متراكمة خلال مدة حكمه في ولايتي نيش عام 1861 والطونة ( الدانوب) عام 1864 ، قد استطلع آراء المتصرفين والقائمقاميين في تقسيم الالوية والاقضية بنواحيها وقراها، والتي روعي فيها الزمن والاوضاع الراهنة آنذاك .
شرع الوالي في اعادة تنظيم المؤسسات الادارية فعين الموظفين من ذوي الكفاية على رأس كل وحدة ادارية، ونظم شؤونها ، وطالب الموظفين في دوائر الولاية بذل الجهود لاصلاح الولاية وتطويرها وتحقيق التقدم، وحرص ان يتقاضى جميع موظفي الولاية رواتبهم في مواعيدها المقررة وحاسب المخالفين منهم من المتصرف نزولاً الى أصغر موظف، وطالب السلطة القضائية بتقديم المخالفين منهم الى المحاكمة ، وصدرت فعلاً أحكام بفصل بعض الموظفين ، واستخدم مدحت باشا صلاحياته في عزل بعض اعضاء مجلس ادارة الولاية بعد ثبوت استغلالهم مناصبهم في تحقيق منافع شخصية .
والى جانب هذه الاجراءات ، في تحسين وتطوير المؤسسات الادارية وتنظيم عمل موظفيها ، استخدم الوالي القوة العسكرية لاخضاع بعض شيوخ العشائر في منطقة الفرات الاوسط ، فقاد الجيش بنفسه وحاصر مدينة الحلة وقتل متصرفها في واقعة سميت " ذبحة المتصرف " أو" واقعة الدغارة" .
وجرت تغييرات في التقسيم الاداري للعراق ففي عام 1875 أصبحت البصرة ولاية بعد فصل بعض الالوية من ولاية بغداد وضم الاحساء اليها واصبح ناصر باشا أول حاكم للبصرة التي عادت ثانية في العام نفسه لتكون لواءً تابعاً لبغداد، واصبح العراق ولاية واحدة . وفي عام 1884 تغير التقسيم الاداري ليصبح العراق مكوناً من ثلاث ولايات بغداد، والبصرة ، والموصل ، إذ استقطعت بعض الالوية من ولاية بغداد لتشكل منها ولاية البصرة التي أصبحت تضم ألوية البصرة ، والمنتفك ، والعمارة، ونجد ويتبعها عدد من الاقضية والنواحي والقرى، وبقيت ولاية الموصل على سابق عهدها وترتبط بها عدد من الاقضية والنواحي والقرى، في حين تكونت ولاية بغداد من ألوية بغداد، وكربلاء، والديوانية وتلتحق بها مجموعة من الاقضية والنواحي والقرى .
وشهد العراق تطوراً في مؤسساته الادارية في نهاية القرن التاسع عشر واستخدم الموظفون من خريجي المدارس الحديثة في دوائر الولايات وشيدت الابنية الحديثة للدوائر، وأسوة بولايات الشام فقد تأسست في العراق دوائر للبرق والبريد، والمعارف ، والبلدية ، وغيرها من الدوائر التي كانت ترتبط بالوالي أو المتصرف والقائمقام ومدير الناحية ، وظهرت مدن جديدة .
وكان تطبيق قانون الولايات العثماني لعام 1864 ولائحة تنظيم الولايات لعام 1871 والتعليمات الخاصة بالجانب الاداري الصادرة من الباب العالي قد حققت ، نوعاً من الامن والاستقرار في ولايات المشرق العربي .
وكان قانون الولايات العثماني قد نص على تشكيل مجالس إدارية في الولايات والالوية والاقضية والنواحي ، كما شكلت مجالس ختيارية في القرى. وكانت تلك المجالس تتشكل من مدير ومعاون له وعدد من الاعضاء يتم تعيين بعضهم من الحكومة العثمانية ، وينتخب الاهالي القسم الآخر، وهؤلاء المنتخبون هم سكان اللواء والقضاء والناحية . وأسهم أعضاء المجالس في تنظيم وادارة الشؤون العامة في الولاية وبالتنسيق مع المسؤول الاداري ، الوالي او المتصرف أو القائمقام أو مدير الناحية . ولهؤلاءملاك من الموظفين لادارة المؤسسات الحكومية في دوائر البرق والبريد ، والبلدية ، والصحة ، والمعارف ، والقضاء. ومن " دراسة مجالس الادارة يتضح انها كانت تهدف الى تدريب الاهالي على الحكم المحلي واشراكهم في المسؤولية ،وان يكون لاهل المكانة الر أي في إدارة أمورهم على أن تظل للحكومة المركزية اليد العليا في تسيير شؤون الدولة". وكان قانون البلديات الصادر في السابع والعشرين من رمضان 1294هـ/1877م قد منح مجالس الادارة في الولايات العثمانية حق تقسيم المدن الى مناطق حسب مساحتها وعدد سكانها .
وكان الجهاز الاداري في مركز الولاية يتكون من الوالي يساعده بموجب القانون مجموعة من الموظفين هم معاون الوالي، والدفتردار الذي يلي الوالي في السلم الوظيفي من حيث الاهمية، وهو مسؤول عن الامور المالية في الولاية، وارتبط به محاسبو الالوية وكانوا ينفذون اوامره وتعليماته وكان المكتوبجي يشرف على امور تحريرات الولاية وعمل بمعيته قلم تحريرات لاجراء مكاتبات الدائرة الرسمية والمحافظة على اوراقها وقيودها،واشرف المكتوبجي كذلك على مطبعة الولاية ، وقام بعمل هام هو أصدار حولية سنوية للولاية عرفت باسم " السالنامة" .
وهناك موظفون آخرون في الولاية هم مدير الامور الاجنبية يكون واسطة للمخابرات بين الوالي والموظفين الاجانب كالقناصل وموظفي القنصليات ، وكان يعين من الباب العالي بترشيح من وزارة الخارجية ومدير المعارف أختصاصه ترأس مجلس معارف الولاية والاشراف والتدقيق بكل الامور الخاصة بالتعليم والمكتبات ويعمل معه عدد من المفتشين والمعاونين ، ومدير الزراعة والتجارة لادارة تجارة الولاية والنظر في امور الزراعة ، ومدير الدفتر الخاقاني واختصاصه تفتيش واجراء احكام القوانين والانظمة والتعليمات التي تتعلق بحق إدارة الاملاك والاراضي والنفوس ، وموظفو الاملاك والنفوس مهمتهم إدارة القيود الاساسية المحلية ، ومدير الاوقاف كان مسؤولاً عن تحصيل اموال الاوقاف وشؤونها ، ومدير النافعة كان مسؤولاً عن تنظيم الطرق والمعابر وبمساعدة مهندسين، و" الاي بك" وهو ضابط يكون تحت امرة الوالي ، مهمته اجراء نظامات عساكر الامن ( الضابطة) .
أما الالوية والاقضية والنواحي فكان ينظمها جهاز اداري ، فعلى رأس اللواء المتصرف ويعين بارادة سلطانية ، ويساعده النائب، ومحاسب اللواء، ومدير التحريرات ، ومأمور دفتر خاقاني ، ومأمور نفوس اللواء، أما الجهاز الاداري في القضاء فيتكون من القائمقام على رأس كل قضاء ويساعده مدير مال القضاء ، والموظفون الآخرون تتلخص اعمالهم بادارة جميع المكاتبات والقيود والمحافظة عليها، ويكون مدير الناحية مسؤولاً في ناحيته ووظيفته اعلامية فهو ينشر انظمة وقوانين الدولة ويعلن اوامرها في القرى التابعة لناحيته.
وبذلك نجحت الدولة العثمانية بتطبيقها قانون الولايات في إقامة نظام حكم مركزي اكتمل بناؤه في عهد السلطان عبد الحميد الثاني ، وظهرت آثاره الواضحة في ولايات المشرق العربي ، فقد كان لقانون ونظام الولايات العثماني للعام 1864و1871 دور في تطور المؤسسات الادارية وإعادة تنظيمها،وبرز ذلك بشكل واضح في عهد السلطان عبد الحميد الثاني إذ أستمرت فيه الاصلاحات في النظام الوظيفي فتشكلت المؤسسات الادارية لاسيما في مجال إدارة الولايات والنظم القضائية وانشئت دوائر جديدة لتنسجم مع التطور الحاصل في الولايات مثل دائرة المعارف، والبرق والبريد، والنافعة ، والاشغال ، والزراعة، والمحاكم، والدوائر العسكرية، واسست لهذه الدوائر ابنية حكومية جديدة كما تأسست دور حديثة لتكون مقراً للوالي ، والمتصرف ، والقائمقام ، ومدير الناحية، والجهاز الاداري لكل ولاية .وبرز بعض اصحاب الخبرة والكفاءة الادارية في مؤسسات الولايات.
وظهر انتظام في سير المعاملات الادارية وسرعة البت فيها، وأسهم عدد غير قليل من ابناء ولايات المشرق العربي موظفين في الدوائر الحكومية في الولاية، وكان بعضهم من رجال الادارة والاعمال، وكان الموظفون كثيراً ما يقدمون الاقتراحات والتقارير في مختلف الموضوعات، ويتعرضون بالتفصيل لادق الامور اكثر من ذي قبل ، ولاشك ان تقديم وعرض مشروعات الاصلاح كان من أهم السمات التي تميزت بها فئة الموظفين لاسيما في النصف الثاني من القرن التاسع عشر . وفي اواخر القرن نفسه ظهرت فئة من الموظفين العاملين في مجالس ادارة الولايات والالوية ومجالس البلديات ، وصناديق الاموال وغيرها من التشكيلات المحلية عن طريق منحهم الرتب والنياشين والدرجات الشرفية لنشاطهم الاداري وحسن اداءهم العمل في مؤسسات الدولة العثمانية .
وبرز التخصص في الادارة في الولايات العثمانية وتأسست مؤسسات جديدة اتسمت في تطبيق اساليب حديثة لمتابعة الاعمال مع السرعة في اجراء المكاتبات الجارية بين الالوية ومركز القرار في اسطنبول وحكومة الباب العالي ، وان المكاتبات القادمة من الوحدات الادارية الفرعية في الولايات أو في المركز كان يصدر القرار بشأنها اسرع ما كان عليه في النصف الاول من القرن التاسع عشر ويصدر المرسوم السلطاني الخاص بها .
وعلى سبيل المثال ، كتب مدحت باشا ، خلال ولايته في العراق ، الى الباب العالي اقتراحاً، بعد تصديق مجلس الولاية العمومي عليه، يطلب فيه تسجيل الاراضي المتروكة والمهملة باسماء الاهالي كي يجعلهم يحافظون على املاكهم ويهتمون باصلاحها وزراعتها والاستقرار فيها ، وبناء على الاقتراح رفع مجلس الصدارة العثماني مذكرة الى السلطان عبد العزيز يقترح فيها الموافقة على المذكرة المتضمنة أسس معالجة مشكلة الاراضي الزراعية في العراق، وفعلاً صدر مرسوم سلطاني بالموافقة على الاقتراح، بتنظيم عملية تسجيل الاراضي.
واعترفت الدولة العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين بفرصة أوسع للغة العربية في الادارة في ولايات المشرق العربي كما استعانت بالعنصر العربي فيها ، وفي الحكومة المركزية والوظائف الرفيعة في حكومة الولايات " السراي". وفضلاً عن اهتمام الدولة العثمانية بتنظيم عمل مؤسساتها الادارية في ولاياتها المتعددة فقد كان للمؤسسات العسكرية نصيباً أكبر من الاهتمام والتحديث ، كونها تشكل الاساس في حركة الاصلاح العثمانية، إذ أن تطوير المؤسسات البحرية والحربية ورفدها بعناصر كفوءة حاصلة على معلومات اكاديمية عسكرية حديثة سيسهم في رفع المقدرة القتالية لافراد القوات العسكرية للدولة العثمانية ومنها بالتأكيد ولايات المشرق العربي ، وتؤدي دورها في الدفاع عن الدولة وحمايتها .