«مأساة جيفارا».. الثورة مسرحية

«مأساة جيفارا».. الثورة مسرحية

ماجد نور الدين
كاتب مصري
حظيت شخصية"جيفارا"بأكثر من تناول في المسرح العربي، فقد كتب (ميخائيل رومان) نصا بعنوان"ليلة مصرع جيفارا”، وكتب القاص العراقي جليل القيسي نصا آخر بعنوان"جيفارا عاد.. افتحوا الأبواب”، ولكن ربما يكون نص الراحل معين بسيسو"مأساة جيفارا"الذي أخرجه حسين ادلبي لمصلحة مسرح الشعب بحلب ضمن أعمال مهرجان دمشق المسرحي في دورته الثالثة،

من اكثر الأعمال التصاقا بجيفارا. فهي أولا تسجل انفتاح الكاتب على التراث الإنساني الحديث، وثانيا انه اختار انموذجا بطوليا عنيدا ويملك إصرارا مدهشا لتحقيق أحلامه في العدالة والحرية؛ انموذج شعبي بسيط ناضل من اجل حرية الإنسان في إطار من الشمولية مكنت له الديمومة برغم الغياب عن ساحة الأحداث.
لقد وجد بسيسو أن الشخصية بهذا المحتوى كافية لإسقاطها على نضال الشعب الفلسطيني رغم كل محاولات التهميش والإذلال عبر اكثر من ستين عاما، وفيها حاول شعرا أن يجد لنا جيفارا عربيا مثله الفلاح الثالث (رامون) الثائر الذي تختلط ملامحه مع ملامح جيفارا كثيرا حتى لتبدو مسألة الفصل بين الشخصيتين غير ممكنة، وحيث انه نجح من خلال ذلك في معالجة قضية الثورة عموما وقضية الشعب الفلسطيني بوجه خاص. لقد تأثر بسيسو كثيرا برحلة جيفارا النضالية، فصاغ منها موضوعا إنسانيا كبيرا، مستثمرا كل أدواته لدفع قضية النضال الفلسطيني إلى الواجهة ومن خلال الكلمة الصادقة والتعبير الحر الأصيل في فضاء مسرحي شعري قلما تجد له مثيلا، لا سيما إذا كانت المعالجة واقعة تحت تأثيرات الحدث الواقعي الحي وبحجم قضية شائكة مثل القضية الفلسطينية.
تقع المسرحية في ثلاثة فصول، يعرض الأول فيها حياة البؤس للفلاحين في قرية بوليفية. وقد اختار بسيسو أسلوب كسر الحائط الرابع عند بريخت (كسر المسافة بين الجمهور والممثلين) في صياغة هذا الفصل بغرض إدخال الجمهور في اللعبة المسرحية كون القضية المطروحة ما زالت قضية معاصرة حية يعيشها الناس بكافة فئاتهم، ومن ثم ثورتهم ضد الطغيان والاستبداد، بينما يعرض الفصل الثاني عملية مطاردة جيفارا متكئا فيه الكاتب على أسلوب وتكنيك الاسترجاع المسرحي (الفلاش باك) التي جربها الكاتب الأميركي الراحل (آرثر ميلر) في مسرحيته (بعد السقوط) وذلك لاستحضار أحداث وقعت في الماضي ولم يكن بالإمكان استحضارها على خشبة المسرح دون هذه التقنية، بينما يستعرض الفصل الثالث عملية القبض عليه ومن ثم اغتياله بطريقة مؤسية قاسية.

وتظهر في المسرحية براعة الكاتب في استخدام الشعر لصياغة الأحداث الدرامية، حيث جاءت اللغة صافية تتجلى فيها مقدرة وبراعة بسيسو في المزج المتوازن ما بين الشعر والدراما، وهي أيضا لغة بسيطة سهلة لا تعقيد فيها ولا غموض، وقد استحضر من خلالها الكثير من الصور الفنية المعاصرة ومنها على سبيل المثال صورة (بابا نويل) الذي لم يعد يحمل الهدايا للأطفال في ليلة الميلاد وانما هو يوزع أصابع الموت عليهم بعد أن حولوا الأغصان في يديه إلى بنادق ورصاصات قاتلة، وهنا نسمع صوت جيفارا في المسرحية:"بابا نويل في هذا العصر.. وفي ليلة عيد الميلاد صار يوزع بدل الأغصان بنادق وبدل شموع الميلاد صواعق”. أما فيما يخص الوزن الشعري في الحوار فيمكن القول إن بسيسو في هذه المسرحية شاعر متمكن اكتملت أدواته الشعرية قبل أن يكتب للمسرح. وقد كان الوزن الشعري واحدا من العناصر الأساسية التي ألم بها ليقدم لنا ببراعة شعرا غنائيا يشهد على مقدرته في مجال بحور الشعر العربي والسيطرة على زمامها حيث الأوزان والقوافي تذوب في التعبيرات وروح الشخصيات المتنوعة لتعبر عن شرائح عديدة من أبناء الشعب الفلسطيني.
مهما يكن من أمر فان الشاعر بسيسو كان واحدا من رواد وفرسان المسرح الشعري في مجال أدب المقاومة الفلسطيني. وقد استطاع من خلال ثقافة عالية ومهارات كتابية متميزة أن يقدم لنا أعمالا ممتازة ما زالت تعيش في الذاكرة والوجدان، وتحيا في ثنايا الروح اكثر كلما عبرت مناسبة تتعلق بمأساة الشعب الفلسطيني واغتصاب أرضه ونكبته التي مر عليها اكثر من ستين عاما وما زالت تراوح مكانها. وبغض النظر عن بعض الكتابات النقدية التي ألمحت إلى أسلوب المباشرة عند بسيسو فإن نظرته كانت تتجه على الدوام نحو تصوير الحالة والموقف، ومن ثم المناشدة لاتخاذ موقف وهذا بالطبع ما تمليه قضية ما زالت حية بل وتتفاعل كل يوم وهي قضية فلسطين والإحساس العميق بإنسانية هذه القضية.
لقد عرف"معين بسيسو"كشاعر من جيل"أدب المقاومة الفلسطيني"ولكنه أيضا كان مسرحيا بارعا، سخر جهده في هذا المجال لخدمة قضايا الشعب الفلسطيني، فكتب جملة من المسرحيات منها:"ثورة الزنج"العام 1970 وطرح من خلالها مفهوم"المقاومة الشعبية”، و”شمشون ودليلة"وفيها استثمر شخصية شمشون ليسقط عليها رمز القوة العسكرية (الإسرائيلية) أو الغاصب الذي اغتصب الأرض وشرد دليلة، و”العصافير تبني أعشاشها بين الأصابع"و"كليلة ودمنة”، و”الصخرة"أو (المنجم)، ومأساة جيفارا التي قامت فرقة مركز عناد باقتباس مسرحية جديدة عنها بعنوان"أحلامي لا تعرف حدودا”، وعرضت ضمن فعاليات الدورة الخامسة عشرة لمهرجان المسرح التجريبي بالقاهرة عام 2003، واحدثت صدى طيبا لدى الجمهور والنقاد.

عن موقع المصري اليوم