عبد الرحمن بدوي والثقافة العربية المعاصرة

عبد الرحمن بدوي والثقافة العربية المعاصرة

عدي حسن مزعل
ليس من السهل مطلقاً الخوض مع بدوي (1917 - 2002) في ما خاض فيه بقصد دراسة مؤلفاته وتقييمها سلباً أو إيجاباً أو الاثنين معاً، ولكن من السهل وصف عطائه الفكري للثقافة العربية المعاصرة. فالرجل بحق مدرسة أو قل مكتبة فلسفية يجد القارئ لها شتى أصناف الفلسفة قديمها وحديثها. ذلك أن إحدى السمات الرئيسة في مؤلفاته أنها تجمع بين طرق اشتغال متنوعة وكثيرة جداً في كل حقل أو مجال: كـ(الدراسة والترجمة والتحقيق).


فمن جهة الدراسة نجدها تبدأ من الفلسفة اليونانية والوسيطة بشقيها المسيحي والإسلامي ومروراً بالحديثة وانتهاءً بالمعاصرة، أما الترجمة فقد تعددت بين الفلسفة والاستشراق والشعر والمسرح والتاريخ، كذلك التحقيق الذي يعد بحسب احد الباحثين: من"أجل أعماله"، (احمد محمود صبحي، اتجاهات الفلسفة الإسلامية في الوطن العربي، بحث منشور في كتاب الفلسفة في الوطن العربي المعاصر، ص107)، إذ أن هذا التحقيق طال العديد من المخطوطات في الفكر الإسلامي كـ(التصوف، الفلسفة، الفرق والمذاهب)، كما طال بعض مؤلفات أرسطو التي لم يقتصر تعاطيه معها على التحقيق فقط، بل الترجمة أيضاً، فضلاً عن أن هذه التحقيقات عادة ما تكون مقدمة بدراسة، كل ذلك العطاء ينسجم انسجاماً تاماً مع وصف بدوي لنفسه في موسوعته الفلسفية بأنه:"فيلسوف مصري، ومؤرخ للفلسفة"، وانه"قد أحاط علماً بكل تاريخ الفلسفة"(عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، ص294، 295)، وهو وصف قلما تجد من يجرؤ على وصف نفسه به، لا بل قد لا تجد باحث من طراز بدوي على صعيد الثقافات المعاصرة شرقاً وغرباً لديه هذا الكم من العطاء الفكري.
وأعمال بدوي خير شاهد على هذا الوصف، إذ أنها وخاصة التحقيق منها من الإعمال التي يصعب جداً على فرد واحد القيام بها، وهي كما يقول صبحي: بحاجة إلى"فريقاً من المتخصصين المتفرغين ليقوموا بما قام به وحده".(أحمد محمود صبحي،اتجاهات الفلسفة الإسلامية في الوطن العربي، ص107). وهذا مما يحسب لبدوي ويجعله في منزلة رفيعة جداً في الثقافة العربية المعاصرة التي أغناها في مختلف حقول المعرفة فكان بذلك مساهماً فاعلاً في تطوير هذه الثقافة، إذ فتح لها آفاقاً لطالما ظلت مغلقة على باحثي هذه الثقافة. وقد تجلى ذلك أيما تجلي في اعتماد جملة من الباحثين العرب على تحقيقاته وترجماته، ولا سيما في الفلسفة الإسلامية والفلسفة اليونانية. حتى انه يندر وجود باحث عربي معاصر يخوض في الاختصاصات سالفة الذكر من دون العودة إلى تحقيقاته و ترجماته.
ولعل في هذا العطاء ما يكفي للقول بحقه: انه مكتبة فكرية متنوعة قل نظيرها في الثقافات على اختلافها، وانه مرآة انعكس فيها"تاريخ الفلسفة"قديمها وحديثها.
لقد تجلت هذه المعرفة الفذة بتاريخ الفلسفة في تأريخه للفلسفة اليونانية، ذلك التاريخ الذي يقدم لنا مثالاً جيداً على موسوعية بدوي. تحت عنوان خلاصة الفكر الأوروبي ـ سلسلة الينابيع ـ وضع بدوي أربعة من مؤلفاته المتعلقة بالفلسفة اليونانية. وقد جاءت المؤلفات في موسوعته الفلسفية مرتبة على النحو الآتي:

1ـ أفلاطون، القاهرة، 1943.
2ـ أرسطو، القاهرة، 1943.
3ـ ربيع الفكر اليوناني، القاهرة، 1943.
4ـ خريف الفكر اليوناني، القاهرة، 1943.
أول ما يلاحظ في هذه المؤلفات المتعلقة بتاريخ الفلسفة اليونانية هو:
1ـ صدورها جميعاً في سنة واحدة 1943، وهو آمر يعود من دون شك إلى كفاءة بدوي في التأليف، وهذه السنة هي السنة ذاتها التي ألف فيها أطروحته للدكتوراه "الزمان الوجودي" التي نوقشت سنة 1944، فضلاً عن انه قد مارس التأليف قبل حصوله على شهادة الماجستير سنة 1941، وهذا ما يتضح من مؤلفاته، كـ: نيتشه 1939، التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية 1940، وشبنجلر الصادر في ذات السنة التي حصل فيها على شهادة الماجستير.
2ـ تغطيتها للفلسفة اليونانية بجميع مراحلها التي مرت بها، من سمات هذا التاريخ التي تجعله في طليعة التواريخ الممتازة في هذا المجال: سهولة العبارة، طريقة عرض الأفكار، التعاطي مع الأفكار من منظور تاريخي، المقدمة التوضيحية التي تسبق الموضوع المدروس، بيان آراء أهم المؤرخين حول القضايا الإشكالية، كل ذلك يجعل من تاريخ بدوي للفلسفة اليونانية تاريخاً رائداً بامتياز، تاريخاً لا نظير له في الثقافة العربية المعاصرة. فبدوي من أوائل الذين أرخوا، وبتفصيل للفلسفة اليونانية بجميع أطوارها وشخصياتها، باستثناء تاريخ زكي نجيب محمود واحمد أمين، المعنون بـ"قصة الفلسفة اليونانية"، وتاريخ يوسف كرم المعنون بـ"تاريخ الفلسفة اليونانية"، فهولاء قد سبقوه في التأليف، ولكن لم يسبقوه أو يتقدموا عليه من جهة المضمون والسعة والفرادة. لهذا ليس ثمة مبالغة في القول: ان تاريخ بدوي للفلسفة اليونانية إذا ما قورن بما أُلف في هذا المجال عربياً قبله وبعده، فما من شك أنه الأفضل من بين تواريخ الفلسفة. هذا ما يتضح للقارئ حين الاطلاع على هذا السفر التاريخي للفلسفة اليونانية.
وإذا كنا قد بيّنا ما يمتاز به بدوي في الثقافة العربية المعاصرة، فأننا نرمي إلى بيان ما لا يمتاز به انطلاقاً من مبدأ:"بضدها تتمايز الأشياء"، وذلك بمقارنته مع باحثين عرب آخرين عرفوا بمشاريعهم النقدية. على الرغم من أننا ندرك نسبية هذا المأخذ انطلاقاً من مبدأ آخر وهو: أن لكل باحث رهانه وخياره في أشتغالاته الفكرية والنقد من الرهانات التي لم يعول عليها بدوي في أعماله الفكرية.
ذلك أن مؤلفات بدوي على كثرتها قد خلت من مشروع نقدي. ولعل التنوع في مؤلفاته قد يكون هو السبب وراء عدم تصنيفه ضمن النقاد البارزين في الثقافة العربية المعاصرة، ولا سيما أصحاب المشاريع النقدية كـ (الجابري، أركون، نصر حامد أبو زيد، حسن حنفي، طه عبد الرحمن... الخ)، أي أن أشتغالاته المتعددة قد أعاقته عن الخروج بمشروع نقدي، فضلاً عن أنه بقي حبيس وجوديته التي أرسى دعائمها في الأربعينات من القرن العشرين، وهو آمر ربما لم يقده إلى استثمار العدة المنهجية التي جاءت بها ثورة العلوم الإنسانية على مستوى المناهج النقدية خاصة، وما أثمرت عنه من نتائج في التعاطي مع النصوص والظواهر الاجتماعية، تلك النتائج التي تظهر بقوة في أعمال أصحاب المشاريع النقدية والتي جاءت مشاريعهم تحمل سمة المغايرة والاختلاف للقراءات السائدة عن التراث، فأسهموا بذلك في تجديد النظرة إلى التراث كما أسهموا في تدشين مناهج ومفاهيم داخل الثقافة العربية، الآمر الذي نتج عنه بزوغ عصر جديد في هذه الثقافة هو: عصر النقد. وهذا ما لم يكن لبدوي نصيبٌ فيه.