الكاتب علي لفتة سعيد..خلق من الأدب شخصية موازية لخلق ذاته الخاصة

الكاتب علي لفتة سعيد..خلق من الأدب شخصية موازية لخلق ذاته الخاصة

وجدان عبدالعزيز
ان تكتب عن شخصية مهمة، تفتح على نفسك بابا من القلق المبرر كون أهمية الشخصية، تنتظر بين حالات من الاتزان وحالات من الانفعال، حيث احصى علماء النفس للشخصية ما يقرب من خمسين تعريفا وهذه دلالة على تعقيد مفهوم الشخصية وعدم إدراكها الإدراك الكامل، إلا انه في الأعم الأشمل

هي مجموع الخصائص الفردية والذاتية والجسمية والعقلية للفرد ونزعاته السلوكية والعاطفية والأخلاقية التي تميزه عن غيره تميزاً واضحاً، ومثلما قبول الذات ومحبتها ضروريان في تكوين شخصية ناضجة، كذلك علاقة الفرد مع الاخر ضرورية.

فالصداقة والصدق والانفتاح على الاخر لابد منها لتكوين الشخصية، ولكن هذا الطريق لا يخلو من المخاطر والصعوبات. وان اعمق علاقة هي علاقة المحبة. وفيها يخرج الإنسان من أنانيته ويكشف ذاته بحقيقتها للآخر. ومن الضروري في تكوين شخصية مستقلة ان يحقق الفرد التوازن بين الاتكالية والاستقلالية، بين الانبساط والانكماش، أي ان يحقق التوازن بين الداخل والخارج في علاقاته. فإذن دون المحبة لا يمكن ان نحقق شخصية ناضجة، لان المحبة هي أساس الشخصية. والمحبة ليست فقط شعور، بل هي قرار والتزام وهي بلا شروط، وفيها يحس الانسان بقيمته وقيمة الاخر.
وأنا أمام شخصية ادبية مبدعة ووطنية مخلصة وهو الاستاذ علي لفتة سعيد، فالأدب، كما نعرف يبتعد عن اللغة النفعية المعقلنة الى اللغة الاشارية المنفعلة المستفزة دوما، وحينما قررت ان اكتب وللمرة الرابعة عن شخصية المبدع الكبير سعيد، وجدت من المستحسن ان اتعرض الى ثلاث حالات من التلقي كما اشار لها الناقد عبدالله الغذامي في كتابه"تشريح النص"ص51: الاولى الاقناع ذي التوصيل ورسالته ذهنية عقلية غايتها الإقناع اما الثانية فهي حالة الانفعال واعتمادها يكون على التعبير الوجداني، وكما اشار الناقد الغذامي فان هاتين الحالتين تقليديتان أزليتان.. ونشأت حالة ثالثة رافقت النصوص الأدبية الحديثة، قال عنها الغذامي ص55: (وهي حالة"الانفعال العقلي"انها حالة انفعال وهذا يضمن للنص شرط وجوده الجمالي، لكنه ليس انفعالا عاطفيا، انما هو انفعال عقلي، اي ان العقل يسعى لكي يستعير من العاطفة احدى صفاتها وهي"الانفعال"، انه نوع من الخلط بين الوظائف العضوية للإنسان، فكما قامت الرمزية على تراسل الحواس، فان الشعر مثلا يقوم على تراسل الوظائف، انه نوع من تدجين العقل وترويضه ليكون"انسانيا"او هو ترقية للعاطفة وترفيع لها، لتكون انتظامية ومهذبة)، من هنا فان الكاتب سعيد سعى ان يكون حاضر الوعي، رغم انه يعيش لحظة الكتابة في قدحتها الأولى، فهو قاص عاش عوالم السرد وطاف في أجواء الواقع وتأثيراته، ولاسيما الحروب التي عاشها وشارك في جبهاتها القتالية واستثمر كل أبعادها عبر مسيرة قصصية طويلة، ثم عاش أجواء الرواية المترامية الأطراف بصراعها المستمر كونها قطعة حياتية لا تخلو من الخيال، ثم الشعر هذا التيه الاحتمالي والمشروع غير المكتمل، ناهيك عن عمله الصحفي، وكل هذا عاش الوعي والقصدية طلبا في الجمال الروحي، فـ(الجمال هو الحق والحق هو الجمال، لان الحق مثل الأخلاق يخدم الحياة داخل المجتمع، ولكنه لوحده لا يحقق الحياة، والحقيقة ليست الاخلاق والحق وحدهما اللذين يساعدان على الحياة، بل تشاركهما في ذلك كل القيم الاجتماعية الاخرى، كالعدل والإخلاص والوفاء والانصاف والشرف والصدق والشجاعة والتضحية والفداء وحب المصلحة العامة وغيرها من القيم الاجتماعية الاخرى)ص29 الاقلام العدد 6 لسنة1989، وكانت رؤيته في ديوانه(أثر كفيّ) هذا حول (الوطن/الانثى)، كثنائية خلقت وجهة نظره حول معطيات الممارسة الايجابية في الحياة، فـ(الشخصية الانسانية بنى ومستويات شعورية وعقلية وعملية، خاضعة لتأثيرات قادمة من كل اتجاه: اجتماعية، اخلاقية، دينية، جسدية، ذاتية... وهي بالتالي محكومة بعناصر وتأثيرات ليست جميعا ملكا شخصيا، وانما هي في جانبها الموضوعي، ملكي مثل ما هي ملك كل انسان، اذ لا فردية حقيقية بالفعل. هي اللاوعي الجمعي في حقيقة موضوعية الى حد بعيد. فالشخصية ـ اذن ـ هي تركيب ديناميكي لمجموع تلك التأثيرات والعناصر والعوامل، ولابد ان يكون لها بالتالي الحضور نفسه والمشاركة ذاتها في الادب كما في الفلسفة، كما في الانفعال الذي قد يقود الى الإبداع الفني. هذا التركيب المعقد هو المادة الحية في الأدب والفلسفة والاجتماع وغيرها..هو النسيج المبدئي والأساسي في كافة العلوم الانسانية على تنوعها، ولبصمات الشخصية من الوضوح ما هو كاف لملاحظتها وتمييزها أنّى اتجهت وكيفما تشكلت)، وفي هذا الاتجاه خلق الكاتب سعيد من الأدب شخصية موازية لخلق ذاته الخاصة في (ان الادب شخصية مسؤولة وواعية ويجب ان تبقى تلك المسؤولية واضحة وذلك الوعي ظاهرا في كل ما تقدمه لنا العملية الادبية من تجارب، مهما اختلفت اشكالها وتباينت اهدافها وتفاوتت بيئاتها، يجب ان تفوح منها"رائحة الانسان"عبقة تخلق من دمنا وخيالنا وفكرنا احساسا وجدانيا متوهجا منطلقا من واقع تلك الحقيقة التي نسميها"بالحياة الانسانية")ص23 اسفار في النقد، وبهذا فان الادب لا يفشي ويكشف أسرار الحياة وخفاياها فقط، انما يسلط عليها اضواء كاشفة منتقدا اياها (والنفس الانسانية هي المجال الأخصب للفنون والآداب والرؤية النفسية لدى الاديب تنبع اساسا من منطقتين، الاول تجاربه الذاتية، حيث يتعرض في حياته لانفعالات وعواطف ومواقف ومشاكل وتكون لديه ردود افعال خاصة به، وتتكون لديه بعض المفاهيم والقناعات الشخصية، ومن ثم يترجم ذلك كله في ادبه قصصا او شعرا او مسرحا، اما المنطلق الثاني فهو ما يجري أمامه من وقائع وأحداث في خضم الحياة فيتابعه بوعي ويحاول ان يبحث عن الدوافع والمؤثرات والنتائج على وفق منهجه وتصوراته وقد يتناول ذلك موضوعية على قدر استعداده. والأديب بين هذا المنطلق وذاك يستلهم خبراته ومعتقداته ويخضع تفسيراته الخاصة التي تتعلق بواقع الأعراف والتقاليد لمؤثرات سياسية او اجتماعية او اقتصادية)، وما اريد قوله في ان الكاتب علي لفتة سعيد يسعى لتكوين ادب شخصية تتوازن مع ذاته التي تبحث عن حياة مثالية كلها جمال وحب.. ولغة الجمال ولغة الحب هي لغة كونية عابرة للحدود، ومن هنا فان ادب الكاتب سعيد يكتسب تلك المسحة الانسانية الكونية التي تحاكي جميع الذوات المحترقة في مشاغل الادب والجمال.. اي انه يرفض التقوقع بأحضان الماضي الى الأفق الانساني في حضوره (وعجيب ذلك الانسان، انه مخلوق لا تقف رغباته عند حد وهو لا ينفك يسعى الى التسامي ويهفو الى الافضل والأحسن.. فهو لا يقنع بادراك الاشياء ومعرفة الموجودات والأحداث المحيطة به، بل يستشعر في الادراك ذاته لذة ويتذوق المعرفة خالصة عن كل ما يتعلق بها من أهداف عملية، وهو لا -يكتفي بتذوق احساساته وانطباعاته عن الاشياء، بل يضفي عليها من خياله ما يكسبها كمالا وجمالا تستجيب له نفسه بالرضا والسرور، وعندما تمتلأ نفسه بشعور البهجة يصف كل ما يرضى إحساسه وخياله بالجمال)ص26 فلسفة الجمال، هذا هو كاتبنا المبدع علي لفتة سعيد، تعجز الكلمات عن استيعاب ورؤيته الجمالية وقدرته على التعبير عن خلجاته الانسانية...