الساعات والسيدة دالاوي..فيلم وروايتان

الساعات والسيدة دالاوي..فيلم وروايتان

علاء المفرجي
تعتبر"السيدة دالواي" للكاتبة البريطانية فيرجينيا وولـف احد اهم الأعمال الأدبية التي صدرت خلال القرن المنصرم، في عام1925، وتصف يوماً في حياة الشخصية الرئيسية كلاريسا دالواي في إنكلترا ما بعد الحرب العالمية الأولى. تستخدم رواية السيدة دالواي تقنية تيار الوعي السردية، وبُنيت على قصتين قصيرتين كتبتهما وولف.


بعد اكثر من نصف قرن أعاد مايكل كننغهام، في روايته"الساعات"، تصوير رواية السيدة دالواي، وإحياء شخصية كلاريسا دالواي في تواز مع شخصية مبتكرتها فيرجينيا وولف، عابراً الزمن ذهاباً وإياباً بين شخصياته الرئيسية الثلاث، ومن ثم حُولت رواية الساعات إلى فيلم، قامت فيه ميريل ستريب بدور كلاريسا دالواي.
في فيلم"الساعات"أمام أسلوب غير مطروق، وغير تقليدي في تناول الشخصية، والشخصية هنا هي الأديبة الإنكليزية فيرجينيا وولف، التي تعد احدى اهم واشهر الشخصيات الأدبية في بريطانيا في الربع الاول من القرن العشرين، ومن اهم المجددين في الأدب الإنكليزي، وتعود لها الريادة مع هنري جيمس، وجيمس جويس في ابتداع تيار الوعي في الرواية الإنكليزية والعالمية. تمتاز أعمالها بفخامة اللغة وشاعريتها.. وقد انتهت حياتها بالانتحار، بعد معاناة واضطرابات نفسية.
الفيلم لم يتقصّ إذن السيرة الشخصية لهذه الأديبة بالشكل التقليدي من نشأتها الأولى انتهاءً بالحدث المأساوي الذي انهى حياتها عام 1941.
فقد اعتمد الفيلم على رواية للكاتب الأميركي مايكل كننجهام حملت العنوان نفسه وهي الرواية التي ظفرت بجائزتين أدبيتين مرموقتين هما البوليتز، وفوكنز.. يختار كننجهام الحدث الأهم في رواية (السيدة دالاوي) التي يعدها نقاد ومؤرخو الأدب الانكليزي البوابة الرئيسية للدخول الى عالم وولف الروائي، والعمل الذي يشير الى اكتمال أدوات هذه الأديبة.
يختار كننجهام رواية (السيدة دالاوي)، وبالتحديد شخصيتها الرئيسية (كلاريسا دالاوي)، للولوج الى شخصية وولف الإشكالية بما تعانيه من اضطراب نفسي، ثم لينسج أحداث روايته المتطابقة مع أحداث فيلم المخرج (ستيفن دالدري) بإضافة أحداث من نسيج خياله.. ليضع القارئ عند دواخل النفس البشرية، تبدو متماثلة في مراحل زمنية مختلفة ابتداء من زمن فرجينيا وولف في الربع الاول من القرن المنصرم، وانتهاءً بتسعينيات القرن نفسه مع احدى الشغوفات بأعمالها الروائية والتي تحمل الاسم الأول لبطلة رواية وولف كلاريسا، مرورا بشخصية ثالثة وزمنها منتصف القرن وهي تقرأ الرواية..
ثلاث نساء وثلاث مراحل تاريخية متباعدة نسبيا وأحداث لرواية كتبت بداية القرن.. هي موضوع رواية كننجهام التي سيؤفلمها ستيفن دالدري بالاعتماد على سيناريو ديفيد هير، وهو يضع قارئ الراوية ثم مشاهد الفيلم فيما بعد عند موضوع متشابك تتقاطع فيه المصائر وتختلط فيه الأحداث.. الا ان ما يتجلى عنها أسئلة الوجود المحتدمة، ولامعنى الحياة، وايضا حيرة الإنسان إزاء عالم لم يختره.
الرواية كما الفيلم بمثل هذا التشابك في العلاقات ورسم المصائر، والاهم الانتقالات المباغتة بين مراحل زمنية مختلفة ذهابا وايابا، انما تحاكي طريقة وولف في بناء أعمالها الروائية وبالتحديد رواية (السيدة دالاوي)، وأسلوبها في وصف حياة بطلة الرواية كلاريسا دالواي زوجة البرلماني في زمن انتهاء الحرب الكونية الاولى في لحظة إشرافها على إعداد وجبة عشاء فخمة.. ثم ترحل بنا في الساعات التي تقضيها مع أفكار لوصف لندن قبل اكثر من مئة عام، وتعرّفنا على أسلوب حياة الطبقة الأرستقراطية.. ثم ترحل بنا ذهاباً الى المستقبل.. وهكذا في انتقالات زمنية تتجلى منها نظرة فلسفية للحياة والإنسان.. وبالطريقة نفسها تلجأ الرواية ثم الفيلم في التعامل مع الزمن ولكن من خلال ثلاث نساء.
أحداث الفيلم تدور في يوم واحد، فرجينيا وولف عام 1923 لحظة كتابة روايتها الأهم (السيدة دالاوي)، ولورا ربة بيت (جوليان مور) تقرأ الرواية عام 1952، ثم صحفية هي كلاريسا (ميريل ستريب) عام 1998.
يوم واحد في ثلاثة عصور مختلفة وثلاث نساء، وساعات.."من هدايا الحياة الصغيرة لنا تلك الساعة التي تحتشد فيها حياتنا، تقول كلاريسا، فيما يستهل كننجهام روايته بما تقوله وولف:"ليس عندي وقت لتوصيف غاياتي. عليّ قول الكثير عن (الساعات) واكتشافي؛ كيف احفر كهوفا بديعة خلف شخصياتي؛ أظن ان هذا يمنحها ما أريد؛ الإنسانية والضحك والعمق. فكرتي عن هذه الكهوف تتواصل، ثم يهلّ كل منها الى نور النهار باللحظة الحاضرة".
الساعات هنا هي ما تحتشد فيه تفاصيل عن العزلة واللاجدوى، وايضا عن الملل وإيجاد معنى للحياة... سلسلة طويلة تمتد على مدى قرن من الزمن، من الخيابات والرغبات المكبوتة والسعي لان تكون الحياة ذات قيمة.
(الساعات).. رواية لكننجهام مثلما هي فيلما لستيفن دالدري، ليست سيرة تقليدية مباشرة لحياة فيرجينيا وولف، بل هي صدى للسيرة الحياتية والإبداعية لها، لها دليل على حياة لاتشبه حياة اخرى، سيرة تختصر كل حياتها مثلما تختصر الأثر الذي تحدثه كتاباتها، بهذا المعنى يعتمد مخرج الفيلم نص الرواية، ومن يشاهد الفيلم يجده متطابقا مع متن الرواية من جهة الفكرة ورسم الشخصيات.
يوم متماثل بتفاصيله، مختلف بشخوصه وعصره، تتقاسمه ثلاث نساء يبدون مختلفات للوهلة الأولى، لكننا سرعان ما نجدهن يتقاطعن بالسلوك والتفكير والمصير، نساء هن امتداد لحياة وولف وأفكارها.
فيرجينيا وولف(نيكول كيدمان)، (الروائية و الكاتبة و الناقدة الانجليزية في لندن عام 1921 وهي تعيش وضعا نفسيا بينما تكتب روايتها الأهم. ثم لورا براون(جوليان مور),عام 1951 في لوس أنجلس، ربة منزل مع طفلها ريشارد الذي سيكون احد شخوص الرواية، تقرأ رواية السيدة دالاوي، وتتماهى مع أحداثها، فهي لا تشعر بعاطفة تجاه زوجها، وتجد صعوبة في التكيف مع حياتها كأم وزوجة.. ثم كلاريسا فون (ميريل ستريب) بدلالة واضحة هو اسم بطلة فيرجينيا وولف (السيدة دالاوي) موظفة خمسينية في احدى مكتبات مدينة نيويورك عام 1998 , تختارها الرواية والفيلم بوصفها شخصية معاصرة لرواية فيرجينيا وولف, السيدة دالاويس".. كلاريسا في علاقة مع صديقها ريتشارد – الطفل مع الشخصية الثانية لورا بروان, وهو شاعر كبير يعاني مرض الايدز تظهر منشغلة بإقامة حفلة لصديقها هذا (يجسد دوره ريتشارد هاريس).
المشهد الافتتاحي حيث فيرجينيا وولف تخرج مسرعة من بيتها و تتجه خلال البساتين الى النهر، نسمع صوتها وهي تقرأ رسالة الوداع التي تركتها لزوجها، ثم تلقي بنفسها في النهر منتحرة في واحد من اهم مشاهد السينما. ثم تأخذنا الكاميرا الى عام 1951 في لوس انجيلوس سنة 1951 حيث زوج لورا براون يحمل باقة زهور الى زوجته. ثم انتقالة من الكاميرا الى عام 1923 في انجلترا سنة وزوج وولف في طريقه الى البيت، بينما الاخيرة تستيقظ من النوم.
في نيويورك عام 2001 كلاريسا في فراشها مستيقظة للتو، ومرة اخرى الى الخمسينات لنشاهد لاورا مستلقية في فراشها.. وهكذا الفعل نفسه وكذلك الوقت. بهذه الانتقالات تكتمل صورة الشخصيات ويستقيم الحدث.
نساء ثلاث تتقاطع تفاصيل يومهن المعاش.. وتكتمل في هذه التفاصيل الصورة المقربة لفيرجينيا وولف.. هنا نحن أمام مشتركات تتعدى الوجود المادي، الى حيث الاغتراب والقلق والحزن، ثم البحث المحموم عن المعنى مثلما هو البحث عن العاطفة.