صفحة مطوية من تاريخ العلاقات العراقية الامريكية

صفحة مطوية من تاريخ العلاقات العراقية الامريكية

■ د .سنان صادق الزيدي
بعد مرور ستة ايام فقط على قيام ثورة الرابع عشر من تموز 1958، قرر مجلس الوزراء العراقي تعيين العقيد فاضل عباس المهداوي رئيسا للمحكمة العسكرية الخاصة. التي اشتهرت باسم محكمة الشعب ومن ثم باسم محكمة المهداوي. وتقرر ان يكون واجبها محاكمة رجال العهد الملكي من الوزراء والمسؤولين بتهمة العمل "ضد مصلحة الشعب". وفي ضوء ذلك، باشرت المحكمة مرافعاتها في السادس عشر من آب 1958،

وكان أول المتهمين مثل أمامها قائد الفرقة الثالثة، اللواء الركن غازي الداغستاني. وكان الاقتراب والميول نحو الغرب والولايات المتحدة سواء في السلوك الشخصي او الرسمي التهمة الأوفر تحديدا وإدانة لرجال العهد الملكي، في مرافعات المحكمة. وهو المسار السياسي والتوجه العقائدي الموجه ضد الولايات المتحدة و"الامبريالية" الغربية، الذي التزم به قادة الثورة بحسب وصف تقارير الاستخبارات الأمريكية.
أثارت تلك الإدانة حفيظة السفير غلمن، وتجلت عند محاكمة العاملين في مكتب المعلومات الأمريكي ببغداد، ورفض المحكمة المذكورة السماح للقنصل الأمريكي بالدفاع عنهم، والرد على التهم الموجهة ضد الولايات المتحدة. كما وشكل قرار حكم المحكمة باعدام غازي الداغستاني هاجسا قويا مشوبا بالقلق على مصير الشخصية الأثيرة لدى الإدارة الأمريكية محمد فاضل الجمالي، الذي تقرر محاكمته في العشرين من أيلول 1958، لذا بادر غلمن بالاتفاق مع السفير البريطاني على ضرورة الاسراع بمفاتحة وزارتي خارجية بلديهما بالقيام بحملة اعلامية واسعة تشمل جميع المحافل الدولية، لإدانة وكشف سوء إدارة المحاكمات العسكرية المشكلة في العراق، واظهار "وحشية" قراراتها بحق المتهمين من رجال الحكم الملكي.
لم تؤيد وزارة الخارجية الأمريكيةمقترحات سفيرها ببغداد، ويبدو ان موقف عبدالكريم قاسم داخل العراق كان يهمها في الدرجة الأولى في تلك الفترة، فقد وجدت في الحملة الاعلامية المقترحة، من شأنها اضعاف لموقفه ويعطي الفرصة السانحة "للعناصر المتطرفة" من تقويض سلطة عبدالكريم قاسم ومن ثم التسلل والهيمنة على السلطة. غير ان وزارة الخارجية الأمريكية فضلت نقل احتجاج الإدارة الأمريكية إلى عبدالكريم قاسم عن سوء معاملة المحكمة العراقية لمستخدمي مكتب المعلومات الأمريكي. وقد نقل السفير غلمن احتجاج إدارة حكومته لعبدالكريم قاسم ومبينا له عدم ارتياحها من موقف الحكومة العراقية تجاه سياسة واشنطن في المنطقة، فضلا عن محاولات لا مسوغ لها لزج الحكومة الأمريكية في المحاكمات التي يترأسها "حكام عسكريون"، الأمر الذي من شأنه، كما اشار السفير غلمن، ان يترك أثرا سيئا على العلاقات بين البلدين.
ومهما يكن الأمر، فقد استمرت المحكمة على النهج نفسه في سير المحاكمات السابقة لرجال العهد الملكي، فقد وجهت المحكمة في جلستها الثالثة والعشرين في العشرين من أيلول 1958 لمحمد فاضل الجمالي خمسة تهم لعل أبرزها تحريض بريطانيا والولايات المتحدة في التعرض لسلامة سورية ولبنان وأمنهما عندما كان في موقع السلطة.
دافع الجمالي، كما جاء في جلسات المحكمة العسكرية، عن آرائه وعن سياسة العهد الملكي التي فضلت التحالف مع الدول الغربية والولايات المتحدة دون غيرها من الأنظمة والدول، وفي هذا الشأن كتب السفير غلمن إلى وزارة خارجية بلاده في الرابع عشر من تشرين الأول 1958 واصفا المحاكمة بانها "منظر مقزز عندما أراها تحاكم أبرز الشخصيات المؤيدة "للعالم الحر" واكثرهم حميمية للولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه وصف رئيس المحكمة إنه "تافه وحقير". وغيرها من الأوصاف والنعوت. ولم يستبعد السفير غلمن، تعمد الحكومة العراقية بعرض جلسات المحكمة بصورة مباشرة وعلنية من خلال محطة التلفاز والإذاعة العراقيتين، وعد غلمن، ايضا، في مذكراته ان الحكومة العراقية عمدت عن قصد بعقد جلسات المحكمة بعد انتهاء الدوام الرسمي لجميع الدوائر الحكومية كي يتسنى لأكبر عدد ممكن من المتابعين للأمور السياسية في البلاد الاطلاع عليها. ونصب أجهزة الراديو والتلفزيون في الاماكن والمحلات العامة لاطلاع عامة الجماهير على مجريات المحكمة وشدهم إلى آراء وأقوال المهداوي.
لم تكن جلسات المحكمة وما يشن فيها من خطب وكلمات تهاجم فيها الولايات المتحدة، بمنأى عن سمع ومرأى مراسلي الصحف الأمريكية في بغداد؛ فقد تساءلت صحيفة "نيويورك تايمس" ما إذا كانت تلك التهجمات هي جزء من سياسة الحكومة العراقية تجاه الولايات المتحدة؟! أم انها نتيجة حتمية لكل ثورة.
وفي ظل تفاقم الأوضاع السياسية في العراق، واضطرابها بالاجواء المشحونة بالتوتر والحساسية تجاه العالم الغربي، مارست المحكمة العسكرية في هذا الشأن دورا في اذكاء وتأجيج عواطف الجماهير، وتأليبها ضد الغرب وتبني المواقف العدائية لكل رجال العهد الملكي، بعد تجريدهم، من وطنيتهم بوصفهم يمثلون الغرب وادواته في العراق!، بحسب منطق ومعايير المحكمة نفسها. ولم يكن بأي حال من الأحوال الغاء الطابع المسيس الذي اضفي على اجراءات المحكمة برمتها. لذا نرى بعض القضايا المعروضة أمام المحكمة لها أهمية استثنائية، أرادت منها ان تكون رسائل سياسية معبرة يلوح بها في وجه الإدارة الأمريكية. ولسنا هنا في معرض تقويم اعمال المحكمة العسكرية، بقدر ما يمكن الإشارة اليه، عما كانت تتمتع به، برأينا، من قصور في عمليتي الإدراك السياسي والفكري معا تجاه أوضاع العراق المشار اليها آنفا، وخاصة في تبسيطها وتسطيحها للعلاقات المفترضة بين النظام الجمهوري الجديد في العراق وبين العالم الغربي "المستعمر الامبريالي". ولا بد ان مثل تلك العلاقة محكوم عليها بالشك والحذر مع إمكان التقاطع فيها مع الغرب والغاء كل خيوط الاتصال والتقارب معه.
ونتقارب في هذا المجال مع أحد الباحثين، ان المحكمة العسكرية كانت إحدى مؤسسات النظام الجمهوري الذي أخذت تتظاهر بالانحياز علنا لنظام الكتلة الشرقية. وقد دللت احداث تلك المرحلة ان الأمر كان يتطلب من النظام الجمهوري تقديم المزيد من البراهين والاثباتات على مقدرته في قطع كل الجسور مع العالم الغربي. ويبدو ان الجمالي ارادت المحكمة العسكرية له، ان يكون القربان الأكثر قبولا على مذبح العداء للامبريالية والولايات المتحدة. ففي العاشر من تشرين الأول 1958 أصدرت المحكمة قرارها بالاعدام شنقا حتى الموت بحق محمد فاضل الجمالي. وقد بذل الأمريكان ما بوسعهم للحيلولة من دون تنفيذ القرار، وخاصة بعدما استشعرت سفارتهم ببغداد ان هنالك أمل في تراجع رئيس الوزراء عن المصادقة على تنفيذ الحكم. وفي الوقت نفسه، انشغلت الاوساط الرسمية والشخصيات البارزة في الإدارة الأمريكية بواشنطن بقضية الجمالي، إذ عبر دالاس في حوار هاتفي في الحادي عشر من تشرين الثاني 1958 مع راونتري، عن امتعاضه وشعوره بالألم من "فظاعة قرار الإعدام"، وكما طلب من راونتري ان يبذل ما في وسعه من ايقاف تنفيذ عقوبة إعدام الجمالي.
وفي الشأن نفسه، يلاحظ ان وزارة الخارجية الأمريكية، وجهت القائم باعمالها ببغداد إلى ضرورة الاسراع باجراء اتصال غير رسمي مع رئيس الوزراء العراقي يطلب فيها شفهيا ولاسباب انسانية بالعدول عن تنفيذ قرار الاعدام بحق الجمالي، وان تنفيذ الحكم معناه انعكاس على نحو غير ايجابي على الحكومة العراقية. وبذلك الاسلوب ارادت الخارجية الأمريكية ان تتجنب تفسير رئيس الوزراء العراقي او البعض من العناصر المناوءة لبلادها، ان طلبها يعد تدخلا في الشؤون الداخلية للعراق. إذ تؤكد الدلائل الموثقة في هذا الجانب ان رئيس الوزراء استجاب لطلب الخارجية الأمريكية في اثناء لقاء فرتزلان له في ديوان وزارة الدفاع العراقية. ولم يعط عبدالكريم قاسم أي تفسير سوى انه عد الطلب "عملا انسانيا".
وجدت الأوساط الأمريكية في قبول عبدالكريم قاسم لوساطتها متنفسا يمكن من خلاله التوصل إلى اجراء آخر من دون إثارة حساسية الأحزاب الوطنية والتيارات الجماهيرية الغاضبة والمتعطشة في القضاء على كل ما يمت بصلة للعهد الملكي. إلا ان الخشية التي اصابت تلك الأوساط بدا لها ان رئيس الوزراء العراقي كان مترددا في البت في قضية الجمالي، وبوصف الوثائق الأمريكية "انه كان في حيرة من أمره"، بسبب ما تعرض له من ضغط شديد مارسته بعض القوى السياسية عليه، فقد دفعت بالتظاهرات الكبيرة الصاخبة التي تجوب شوارع بغداد الرئيسة مطالبة بانزال اقصى العقوبات بحق رجال العهد الملكي. مما أضعف الأمل عند الأمريكان بتخليص رقبة الجمالي من حبل المشنقة، وادركوا يومها ان عبدالكريم قاسم لم يكن الوحيد القادر على وقف ذلك الهيجان المتعصب في تلك الفترة على الأقل.
يبدو ان الاحداث المتسارعة والمتلاحقة جعلت الإدارة الأمريكية على يقين تام ان المحكمة العسكرية غدت "مؤسسة معادية لامريكا" بفضل ما كان يبديه كل من رئيسها والمدعي العام ماجد محمد أمين، من تعاطف وتآزر مع قوى اليسار، إذ انتهجت المحكمة مسارا جديدا باعلان عدائها الصريح للولايات المتحدة ومهاجمتها على لسان رئيس المحكمة باسلوبه الساخر والمتهكم المعهود به، ومن خلال التنكيل بالمتهمين الماثلين أمامه، مثلما جرى مع سعيد قزاز إذ وصفه المهداوي بافذع الأوصاف، لسنا في حاجة إلى ذكرها. والواقع ان العبارات والأوصاف التي كان المهداوي ينعت بها كبار المسؤولين الأمريكيين، وجدت صداها عند الخارجية الأمريكية, وفي الوقت نفسه سببت احراجا غير متوقع لسفير العراق بواشنطن علي حيدر سليمان، عندما طلبت الخارجية الأمريكية منه تقديم تفسير وتوضيح لما تضمنته برقية مترجمة لعبارات وأقوال المهداوي في محكمته بحق الولايات المتحدة وشخصياتها الرسميين. والحق ان السفير العراقي لم يجد المبرر الكاف للرد على الطلب، كما جاء في مذكراته، إلا انه حاول ان يبرئ ساحة عبدالكريم قاسم من تبعيات المحكمة. وعزا أقوال المهداوي إلى مجرد استهلاك داخلي. والواقع لم تشكل تلك التبريرات موقفا قويا يستند عليه السفير العراقي أمام إلحاح الأمريكيين في طلبهم، اذ سرعان ما انهارت تلك التبريرات وجردت من مصداقيتها بعد أيام قليلة، أمام تصريح لعبدالكريم قاسم مفاده "انه يؤيد كل كلمة قالها المهداوي". وقد عد السفير العراقي ذلك التصريح انه عمل سلبي يؤثر على علاقات البلدين.
ومهما كان الأمر، فان الأمريكان باتوا على قناعة تامة ان عبدالكريم قاسم استطاع ان يحول المحكمة العسكرية إلى منبر ناطق باسمه بفضل الصلاحيات الواسعة التي منحها لرئيس المحكمة من أجل ترسيخ وتدعيم ركائز حكمه في البلاد. إذ استطاعت هذه المحكمة ان تستغل كل المناسبات من اجل التنديد بالولايات المتحدة الأمريكية والأنظمة الامبريالية صانعة منهم للجماهير العراقية عدوا يتربص بالنظام الجمهوري العراقي ومتآمرا على مكتسبات الشعب العراقي. فقد تزامن عقد اجتماع دول ميثاق بغداد في تركيا في أيار 1959 بحضور لوي هندرسون ممثلا عن الولايات المتحدة الأمريكية، مع جلسات محاكمة توفيق السويدي. إذ وجد المدعي العام للمحكمة في تلك الاثناء مناسبة في شن هجوما لاذعا على تصريحات الن دالاس تجاه العراق. كما صب جام غضبه على دول الميثاق معد إياها دول تتآمر على الحكومة العراقية وبدعم من الحكومة الأمريكية. لم تدع الخارجية الأمريكية تلك المناسبة من دون ان تستدعي السفير العراقي على حيدر سليمان للاستفسار والاستيضاح عما يجري في جلسات المحكمة العسكرية من اتهامات ضد الولايات المتحدة الأمريكية. وذكر مساعد وكيل وزير الخارجية الأمريكية هندرسون، للسفير العراقي، من ان الثورة والنظام الجديد في العراق لم يكونا من المستهدفين في الاجتماع الأخير لدول ميثاق بغداد، وأقسم هندرسون على ذلك، كما ورد في مذكرات السفير العراقي الذي أكد خلال المقابلة على ان حكومته ضد سياسة الاحلاف والتكتلات بما فيها ميثاق بغداد.
ومن خلال تلك الاحداث، ومن غيرها، بقيت اعمال المحكمة العسكرية محل اهتمام ومتابعة الإدارة الأمريكية وخاصة القضايا التي تكون الولايات المتحدة فيها موضع اتهام في جلسات المحكمة. ولعل أبرز قضية اهتمت فيها الإدارة الأمريكية بعد قضية الجمالي، هي محاكمة المتهمين بقضية اغتيال عبدالكريم قاسم، فقد اتهم المهداوي في الجلسة المنعقدة في الثاني والعشرين من كانون الثاني 1960 الولايات المتحدة الأمريكية انها وراء عملية الاغتيال الفاشلة، إذ قامت السفارة الأمريكية بالقاهرة بتخطيط وتمويل العملية، فقد تم رصد مبلغ نصف مليون دينار عراقي لتنفيذ العملية، ومن الضروري الإشارة هنا إلى ان تلك الاتهامات لم تستند إلى وثائق دامغة لتورط الولايات المتحدة فيها. وقد نفت وزارة الخارجية الأمريكية، الاتهامات الموجهة ضد إدارة حكومتها، بتأكيد السفير الأمريكي ببغداد جيرنيكان لوزير الخارجية العراقية هاشم جواد عدم تورط بلاده في العملية، ورجا السفير أيضا، "تصحيح ذلك التصريح" لان الموضوع قد يثار في مجلس الشيوخ الأمريكي، وقد يؤدي إلى ضجة تحرج المسؤولين في وزارة الخارجية الأمريكية على حد تعبيره. وشكل هذا التصريح احراجا آخرا للسفير العراقي علي حيدر سليمان، بعد ان استدعته وزارة الخارجية الأمريكية، وأبدى لويس جونز، في اثناء لقائه السفير العراقي، عن "تأثره العميق" لتلك التصريحات لان الحكومة الأمريكية "تضمر للعراق ورئيسه أحسن النوايا"، مما تعذر على السفير العراقي هذه المرة بالاجابة، متحججا بعدم اطلاعه على نص التصريح المذكور، كما ورد في مذكراته.
لم يكن بوسع مثل هذه الأمور ان تترك أثارا عميقة على مسار تطور العلاقات القائمة بين الولايات المتحدة الأمريكية والعراق والتي شهدت تطورا ملموسا في بداية العام 1960، فضلا عن رغبة المسؤولين الأمريكان إلى احتواء كل فجوة تطفو على السطح قد تؤدي إلى تعكير صفو العلاقات بين البلدين خوفا ان توظف تلك للمصالح السوفيتية المتنامية في العراق. إلا ان ظهور أزمات جديدة على الساحة العراقية، دفع حكومة الولايات المتحدة الأمريكية بتغيير مواقفها تجاه الحكومة العراقية، خصوصا بعد ان اعلن عبدالكريم قاسم رسميا رغبته بضم الكويت للعراق.