رسائل إيتالو كالفينو: في تورينو يكمن خطر الإصابة بالجنون

رسائل إيتالو كالفينو: في تورينو يكمن خطر الإصابة بالجنون

رلى راشد
جعل إيتالو كالفينو من العجب محطة كتابية أولى، ومن الإتساق المحطة الثانية. تحت أفق نصوصه، برزت لذة الأدب الجمعي والتلاعب بفكاهة لاذعة وحنونة. عند وفاته في أيلول 1985، رثاه زميل المغامرة الروائية الأميركي جون أبدايك. توقف عند كالفينو العبقري الى جانب الكاتب الرائع، وأشار الى أخذه التخييل الى مطارح جديدة ليعيده لاحقا الى منابع السرد الإستثنائية والقديمة.

استطاعت روايات كالفينو الفانتازية وحكاياته، الوصول الى أبعد من حوض البحر الأبيض المتوسط، بينما ظل وجه صاحبها على غموض، يعدله إصدار رسائله للمرة الأولى في الانكليزية. هنا ارتياح لافت في الإختلاط بالناس واستعداد عال للمواجهة.

سئل كالفينو مرة إذا كان شعر بالضجر في حياته، فأجاب:"أجل في الطفولة"، مضيفاً أن سأم الطفولة صنّف على حدة، ذلك انه ضاجّ بالأحلام، وبنوع من الإنتقال الفكري الى مطرح مختلف، الى واقع آخر. أما السأم الراشد فيقوم على التكرار، ذلك انه استنزاف لأمر محدد، يجعلنا عاجزين عن توقع أي مباغتة. أضاف كالفينو:"أتمنى أن يكون لديَّ الوقت لأستسلم الى الضجر راهنا. أما خشيتي فأن أكرر نفسي في منجزي الأدبي. ذلك ان اجترار النفس تأليفيا يملأ الكاتب حزناً طافقاً". لم يكن ثمة احتمال أن يمسّ هذا التخبط الذاتي نص كالفينو الذي دأب يبحث عن شيء يتجاوز قدراته، عن شيء غير مسبوق، وإن بجرعة قليلة في كل مرة. في"ايتالو كالفينو: رسائل 1941-1985"قسط من ذاك الكولاج، بل بابٌ موارب لدخول منطق الكاتب. اختار الرسائل مايكل وود وقدم لها وترجمها مارتن ماكلوفلين وصدرت بالإنكليزية لدى منشورات"برنستون يونيفرستي برس"لتتقدم كأنها بورتريه لعالم كالفينو الشخصي - التأليفي. في حضرة كتابة كالفينو، نحن أيضا إزاء كتابات سواه. نتمهل عند الآداب بالفرنسية والإنكليزية والايطالية، ونستفهم النقد الأدبي والأدب بالمطلق، والثقافة والسياسة.
كان كالفينو من بين ايطاليين قلائل الى جانب البرتو مورافيا ولويجي بيرانديللو وأمبرتو إيكو، اخترقوا ممانعة الثقافة الأميركية الأدبية للترجمة. ظل وليم وويفر لفترة مديدة مترجم كالفينو الوفي والدائم الى الإنكليزية، وها شخصٌ آخر، هو استاذ الدراسات الإيطالية في جامعة اوكسفورد مارتن ماكلوفلين يتولى نقل رسائل الإيطالي بعدما تمرس في ترجمة أعمال عدة في منجزه من بينها"كتابات السيرة الذاتية"و"في خضم الحرب". الواقع ان كالفينو لم يكن سهلاً إزاء مترجميه، إذ اراد منهم إنصاتاً كاملا لنصه، بل وانغماسا فيه الى حدّ نسيان الذات. عمد مرة الى اقالة أحد مترجميه الى الإنكليزية لسبب تبدى بديهيا في عرفه، وهو التجاسر على إظهار فيض من الفرادة، أتى في غير مكانها. قام المترجم آنذاك بتعديل عنوان إحدى قصص كالفينو ليجعله"بالأبيض والأسود"في حين كان في الأصل"من دون ألوان". لم يتردد كالفينو في التخلي عن خدمات المترجم لأن الأبيض والأسود، كما شدّد، من فصيلة الألوان!
تتحدث رسائل الكاتب بين 1941-1985 عن تشكّل كالفينو الفكري وعن حالاته المزاجية المتبدّلة، متفائلاً في الولايات المتحدة الاميركية، وناسكاً في باريس حيث شعر بأنه دخيل. تؤمّن النصوص في هذا المعنى، نسقاَ من السيرة الذاتية الموثّقة لانتماء كالفينو الشيوعي واستقالته من الحزب في 1957، ناهيك برحلته التأسيسية الى الولايات المتحدة الأميركية في نهاية الخمسينات وبداية الستينات من القرن العشرين. تتابع انتقاله الى العاصمة الفرنسية حيث أقام بين 1967 و1980، ناهيك برحلته الى مسقطه كوبا حيث تسنى له لقاء تشي غيفارا. ينتصر لكالفينو في الرسائل، ذاك الافصاح الذاتي الرقيق والصريح والمشكك على السواء.
في باريس في خريف 1969 بعث كالفينو للناشر فرنكو ماريا ريتشي برسالة رداً على طلبه كتابة نص يرافق مؤلفاً يتمحور على نسخ ورق تارو فيسكونتي-سفورزا التي تعود الى القرن الخامس عشر. نقرأ كالفينو في الرسالة متوجها الى الناشر:"عزيزي السيد ريتشي، ها هنا سيرتي الذاتية. ولدتُ في 1923 تحت سماء اقامت فيها الشمس المضيئة وزحل الكئيب، في وسط الميزان المتناسق. صرفتُ الخمسة والعشرين عاما الأولى من حياتي في سان ريمو التي كانت لا تزال خضراء وحيث شيء من التطرف المديني في وسط ناس ريفيين وعمليين يعيشون في عزلتهم الفظة. انطبعت خلال حياتي كلها بهاتين السمتين الخاصتين بالمكان. انتقلتُ لاحقا الى تورينو الصناعية والعقلانية، حيث لا يقلّ خطر الإصابة بالجنون عن المناطق الأخرى (تماما مثلما اكتشف نيتشه)". كان هذا النص- الرسالة النواة، ثم تطور ليصير رواية"قصر الأقدار المتقاطعة"(1973).
تبين هذه المحاججة وسواها ان الرسائل ليست تمرينا روتينيا مفتقرا الى الألق، وإنما هي على نقيض ذلك مصدر أساسي لإدراك السياق الثقافي والفكري لنص كالفينو وعلاقته بالكتّاب الآخرين ومن أحاطهم. كان كالفينو ناقداً أدبياً مؤثراً، ومحرراً أدبيا مهماً، وكاتباً بارعاً راسل اومبرتو إيكو وبريمو ليفي وغور فيدال ومايكل انجلو انطونيوني وبيار باولو بازوليني ولوتشيانو بيريو وسواهم. في المجموعة السخية 650 رسالة تتوزع كرنولوجياً بين الحرب العالمية الثانية وأفول حياة الكاتب. في الرسائل شيء من السخرية وكثير من التبصر في شؤون أدبية وثقافية فسيحة النطاق. والحال ان بعض الرسائل تبلغ مرتبة الأبحاث النقدية. تبدو إحداها دفاعا عن الإيجاز، في حين لا تتعدى أخرى كونها ثلة ملاحظات موجهة الى والديه، كتبها كالفينو في أثناء تواريه وشقيقه إبان حقبة مقاومة الفاشية.
يكاد مسار كالفينو يبدو مثالياً. اجتهد وثابر وأكبّ على نصّه ليخرج بالأفضل. نسج حكايات منطقية وواقعية بدءا من حالات خارجة على المنطق، لازمتها سخرية لم تستسلم للتجريح أو العدائية. كتب كالفينو ما استطاعه عوضاً مما كان ينبغي له أن يكتبه. لذا لا نزال محكومين بتذكره الى اليوم.

عن النهار اللبنانية