الخطاط البغدادي ثروة وطنية نادرة وتجربة فنية رائدة

الخطاط البغدادي ثروة وطنية نادرة وتجربة فنية رائدة

تيسير الحمد
هو هاشم بن محمد بن درباس البغدادي ولد سنة 0431 للهجرة في بغداد نابغة الزمان وعميد الخط العربي ويعتبر علماً من اعلام الخطاطين العراقيين بدأ حياته ذواقاً للخط محباً له شغوفاً به منذ صغره
تعلم الخط في بداية حياته في الكتاتيب بطرقها البدائية وكان الاستاذ فيها يومئذ يسمى « الملا » والذي يتخذ من المسجد او من بيته مكاناً للتدريس وتعليم فنون الخط .‏

اجازه حامد الآمدي في سنة 1731 هـ وقال فيه : شاهدت فيك الصدق والاخلاص والمحبة لهذا الفن الذي لم يندثر ما دام الاسلام باقياً واعهد فيك ان تكون من اخيارهم و أول الخطاطين في العالم الاسلامي .‏
بقي هاشم يواصل تحصيله الفني منذ البداية بهذه الطريقة مع الملا الذي نال اعجاب هاشم فأخذ يفاخر ويعتز به بعدما ادرك هاشم ان قدرة الملا هذه قد انتهت في هذه الحدود وبالتالي رأى ان يتجاوزها الى طريق افضل وفي اطار اوسع فجادت عليه الايام بالملا علي الفضلي الاستاذ الفاضل الذي عرف بعلمه وورعه احبه هاشم وحفظ له الود والتقدير حتى نهاية حياته حيث كان لهذا الملا الاثر الكبير في نجاح هاشم اذ يعتبر الموجه الاول لهذا الفنان الكبير وعرف عن هذا المعلم بانه صاحب طريقة فنية متميزة تلك هي القاعدة البغدادية للخط والتي تاق اليها هاشم وعمل على اعادتها الى اصولها الاولى فكان لهاشم اول اجازة في الخط من يد هذا المعلم الشهير .‏
واصل تجويده للخط وبرع في الثلث والتعليق خاصة ونال شهرة فنية بفضل اساتذة مشهورين وبرع في بقية الخطوط العربية والزخارف الاسلامية وجاب البلاد العربية بغية الاتصال بكبار الخطاطين ، يعرض عليهم خطوطه ويطلعهم على نتاجه الفني فرحل الى الشام والتقى بالخطاط الدمشقي بدوي الديراني والى مصر والتقى بالسيدان ابراهيم ومحمد حسني البابا فمنحاه الاجازة في انواع الخطوط واتفقوا على اشتراكه في امتحان الدبلوم دون دراسة ولدى الامتحان المطلوب سنة 5491 وقبل 7491 كان الاول على الخطاطين الذين شاركوا في تلك السنة .‏
ثم شد الرحال الى استانبول مأوى افئدة الخطاطين في ذلك العصر ليتشرف بلقاء امام الخطاطين آنذاك الاستاذ حامد الآمدي فقدره واستحسن خطه وقال اعجاباً به قولته المشهورة نشأ الخط في بغداد وانتهى فيها ويقصد من ذلك ان الخط العربي بدأ حياته المجيدة بظهور عملاق الخط العربي علي بن هلال المعروف بابن البواب وانتهى هذا بظهور هاشم البغدادي وهذا يعتبر وساماً ومكرمة تضاف الى المآثر الحميدة التي تكرم بها عمالقة الخط لهذا الفنان . اجازه حامد الآمدي بإجازة هذا نصها : بسم الله الرحمن الرحيم ولدي هاشم محمد البغدادي الخطاط شاهدت فيك الصدق والاخلاص والمحبة لهذا الفن الذي لم يندثر ما دام الاسلام باقياً واعهد فيك ان تكون من اخيارهم واول الخطاطين في العالم الاسلامي فلك اهدي ازكى التحيات لما انت عليه من تقدم دائم كتب في الاستانة سنة 1731 هـ التوقيع موسى عزمي المعروف بحامد الآمدي .‏
ولقد قال عنه احد المؤرخين بالحرف الواحد: ولما كان الاستاذ حامد الآمدي قد بلغ من العمر عتياً وقد بلغ التسعين او جاوزها فقد بات الاستاذ هاشم اضبط من يكتب الحرف العربي في العالم .‏
والمرحوم الخطاط أبا راقم هاشم البغدادي يمثل ثروة قومية نادرة وحصيلة ناضجة من التراث وثمرة متكاملة من ثمرات التجارب الفنية الرائدة حيث يمثل لوحة فنية رائعة من لوحات الخط العربي كونه خلاصة مدارس ومرتكز تجارب ومجمع خبرات فنية موروثة استطاع ان يستوعبها ويمازج معها ويوحد بين قواعدها ليستخلص لنفسه قاعدة هي اقرب الى القاعدة البغدادية التي اولع بها واتقن اصولها وافرد لها من فنه مما جعلها متميزة .‏
على يد هاشم انتقلت الريادة والقيادة والرئاسة في فن الخط الى العرب بعد ان تولاها الاتراك بما يقرب من خمسة قرون وقد بقيت هذه الاصول تتجاذب اطراف فنه وهو يحاول التوفيق فيها ليكسب الحرف جمالاً الى جماله ويضيف اليه هندسة تزيد في روعة هندسته حتى استقامت له القواعد وتكاملت في شخصه الاصول ومن هنا كانت له قاعدة عرف بها ، على الرغم من حرصه على التقليد والتزامه بالقواعد وقد ظل طلابه ومعارفه يتابعون اجتهاده وهو يأخذ أبعاده ويشعرون شعوره وهو يتجدد من خلال الممارسة المستديمة ويؤكد التزامه بالقواعد التي رسمها أعلام الخط البارزين ولعل مكتبته الخطية تعد أروع مكتبة خطية في نفائس النماذج ونوادر المخطوطات التي اقتناها عبر رحلته الطويلة مع هذا الفن الجميل‏
ويوم كان في مصر عرض عليه تدريس الخط في مدرسة تحسين الخطوط غير أنه رفض وفضل العمل في بغداد وعاد إليها يتحفها بفنه ويهبها عصارة جهده فأغنى جوامعها بشامخ أعماله وتجاوزها إلى بقية مدن العراق ومحافظاته بروائع خطوطه وبديع هندسته وزخارفه حيث شملت خطوطه الكتب والمجلات والجرائد والدواوين وأصبح فيما بعد أستاذاً‏ للخط العربي في معهد الفنون الجميلة ببغداد كان المخلص في عمله المتفاني في واجبه المحب لوطنه وفنه وكان صديقاً للفنان المعروف محمد صبري كتب معظم الخرائط المهمة التي طبعتها مديرية المساحة كما تشرف بكتابة المصحف الكريم الذي كتبه الخطاط الشهير محمد أمين الراشدي ، وطبع في مطبعة مديرية المساحة .‏
كما أن له نسخة من القرآن الكريم تعتبر من أجود أعماله ، كما ظهرت نسخته القيمة للوجود عندما استقر رأي ديوان الأوقاف لاول مرة على طبع المصحف الكريم فأخبروه ليكون مشرفاً على طبعه في ألمانيا وعاد بعد أكثر من سنة وهو يحمل آية من آيات الجمال في خطوطه وزخرفته ثم تجددت فكرة طبعه مرة ثانية فاختير لهذا الواجب المقدس ومكث لهذا العمل في ألمانيا أكثر من سنتين يواصل عمله ليل نهار عاد بعدها مختتماً أعماله المجيدة بهذا العمل الرائع كما قام بخط وتصميم المسكوكات والعملات الوطنية لبلده ولبعض الاقطار العربية ل تونس والمغرب وليبيا والسودان ومن شدة حرصه على ضبط قواعد الخط لم يحصل أحد على إجازة منه سوى الخطاط عبد الغني عبد العزيز وكان من تلاميذه صادق الدوري وعبد الله الجبوري ومحمد القاضي ويوسف ذنون وصلاح الدين شيرزاد الذي يشرف الآن على إدارة مجلة حروف عربية التي تصدرها ندوة الثقافة والعلوم بدبي في دولة الامارات العربية المتحدة ومن آثاره الخالدة (كراسة قواعد الخط العربي) والتي تعتبر أهم مرجع تدريبي وفني في الاعجاز الخطي للحروف العربية حيث تضم قواعد وأصول تعليم الخط مع ما يتميز به من سهولة ووضوح وعبقرية فطرية وملتقى انبعاث جمالي يأخذ بالالباب وإنه لايخلو وجودها عند أي خطاط والذي يجهل كراسته الرشيقة والمقدسة فهو جاهل في فنه وفي ما يجب أن يحظى به هذا الفنان القدير من المكانة العالية والمقترنة بالاجلال والاحترام في نفوس كل الخطاطين ومحبي وعاشقي هذا الفن الرائد .‏
ولعل من مميزات خطوط البغدادي المهمة هو التأكيد على قولبة الحروف أي إمكانية إعادة كتابة نفس الحرف لعدة مرات بصورة متطابقة تماماً ، وهذه ميزة لدى الخطاط تدعو إلى الفخر والزهو ولا يمتلكها إلا من أكثر من التمرين وأجاد وأتقن‏
كما ان محاولته للوصول إلى كمال الحرف في انتصابه وانكبابه وتدويره واستلقائه وتقويره وامتداده وتناسقه وتناسبه كما أشار بذلك التوحيدي في شروط حسن الخط وجمال حيويته جعل جل اهتمامه ينحصر في إعادة رسم هيكلية الحرف وفق صورة يمكن أن نعبر عنها بأنها تمتاز بكثير من العذوبة والطراوة وتتضح هذه الخاصيتان عن مقارنة خطوطه بخطوط الذين عاصروه أو سبقوه أي ان العناية ببناء الحرف طغت لديه على العناية بصناعة اللوحة الخطية ولكل من الكتابة الخطية شروط ومقومات وخصائص وأنه كان يؤكد أستاذيته في كتابة الخط ويؤكد الطريقة التقليدية الاكاديمية في رسم الخطوط وأجادتها ومن ثم إتقانها وإبعاد كل مايضير العين من غريب أو شاذ‏.

جريدة الرياض السعودية