الفكري والأدبي     ..جدلية الاختلاف في الرأي

الفكري والأدبي ..جدلية الاختلاف في الرأي

يعالج كتاب جدلية «الفكري"و«الأدبي».. من جبريات الرأي إلى شعرية الاختلاف، لمؤلفه الدكتور صلاح يونس، إشكالية الفكر وإشكالية الأدب والأدباء على حدّي التواصل والتفاعل، ويؤدي تحليلها إلى تنازع في العمق بين جانبي الثقافة: الفكر المجرّد والأدب المشخص.

ويشرح المؤلف أنه لا توجد جماليات معهودة في القصيدة العربية الحديثة..كتلك التي عرفناها في القصيدة التقليدية، ونعني بها المستوى الذي طرحه أدونيس، ومن قبله نازك الملائكة وصلاح عبد الصبور. وفي القصة القصيرة نجاحات كبيرة بدءاً من محمود تيمور إلى زكريا تامر، كما يبين المؤلف أنه كثر الكتاب في الرواية. كما أن قليلاً من الكتاب لجأوا إلى الزمن الدائري كأبي القاسم الشابي الذي نلحظ قلق الوجود وتساؤلاته، إذ خرج عن النسق الإحيائي لينقل المسألة خارج المذاهب إلى القانون الطبيعي.
ويشير المؤلف إلى أنه في النثر العربي لم يعد الأديب يكتب أدباً وإنما يكتب فكراً، فابن المقفع كان في كتابته النثرية يقدم مشروعاً سياسياً ينتقد فيه الخلافة الإسلامية، وهو أهم من ما كتبه نجيب محفوظ في رواياته، لأنه لم يستطع أن يقدم مشروعاً سياسياً ينتقد فيه أية سلطة، وإنما انشغل بالحيّز الاجتماعي المصري..
وبالمقابل فإن ما كتبه جورجي زيدان عن التراث العربي الإسلامي هو جزء من تأريخ مسطح، فقد أحال الحركات السياسية المعارضة للخلافة العباسية إلى حركات خارجة عن مفهوم الاعتراض وأبدى تعاطفه مع الخلافة المركزية، هذا ما رأيناه في"العباسة أخت الرشيد."
ويبين يونس أنه في متن النهضة العربية، شعر متخلف عن عصره، وشاهدنا على ذلك: حافظ إبراهيم، وفي متن المرحلة الليبرالية والثورية شعر متخلف منذ لحظة خلقه، والشواهد على ذلك كثيرة، من نزار قباني صاحب الخواء الأنيق إلى سليمان العيسى صاحب الخواء والضجيج. ونلاحظ كثرة الإنتاج الشعري والقصصي من الوزارات والاتحادات الأدبية، إلى درجة أنهم ينتجون المجموعات والدواوين أكثر من ما تنتج وزارة الزراعة من الشمندر السكري أو البطاطا بكثير.
ويلفت الكاتب إلى أن شخصية الأديب تضخمت وظهرت الأنا الفردية متخالفة مع الأنا الأدبية. وكلاهما في صراع سياسي، إما مع التاريخ وإمّا مع السلطة، في نرجسية واضحة. وأسست لها قصيدة المديح في الشعر العربي.
ويؤكد الكاتب أنه عندما تنشغل الشعرية بهذه الأنا المنتفخة خارج حدود العقل، فإنها لن تنتج ادباً أو فكراً، إنما تنتج طريقاً للتزوير، تحاك من خلالها شخصية هلامية تشبه إلى حدّ كبير، ما يفعله الإعلام اليوم. إن الأدب النرجسي يستهلك اللغة ويزوّرها، بينما يشكو المفكر العربي اليوم من اللغة، وخاصة إن كان مهموماً بالاقتصاد والفلسفة والتربية، فيجد العربية، على ما يزعم أهلها من غناها المعجمي، فقيرة عندما تكون الأمور دقيقة وتحتاج إلى كلام دقيق.
ويشرح يونس أنه استعاد أحمد شوقي، أزمنة ابن مالك وابن عقيل وملوك الطوائف، ليجعل من شعر المديح شعراً يفارق عصره. في الوقت الذي كان فيه قاسم أمين وروّاد النهضة، من فرح أنطوان ومحمد عبدو، يهتمون بصياغة عصر وإنسان عربيين ينتميان إلى العصور الحديثة.
ويبين المؤلف أنه إذا كان المثقف أو الأديب قد هُمشَ من قبل النظم السياسية السائدة، فإن المثقف نفسه ارتضى لنفسه التهميش، ولم يدرك أين تكون معركته.
كما أن الشاعر تبقى تصوراته منفعلة بالحدث، بينما يكون المفكر قد انتهى دوره، قبل أية أزمة تمرّ بها البلاد، فالأفكار ليست بذوراً موسمية، بل إنها تعايش مستمر بين الواقع والعقل، ومن التعايش إلى التواصل والتفاصل، من دون اكتساب، أي حدّ من حدود الاستعلاء والتقديس.
ومن الراجح أنّ لكل عصر أدعياءه ومفكريه، إلا أنّ المفكر الذي لا يخترق الجدران السميكة ليكتشف الضوء عند غير أمته، فيحمل منها لنفسه قبساً ثم يتمناه لجموع الأمة، إنما هو الأديب الذي تبحث عنه الأمة قبل أن يبحث هو عنها.
عن/ البيان