حوت في نهر دجلة سنة 1880

حوت في نهر دجلة سنة 1880


■ رفعة عبد الرزاق محمد
نشرت الصحف العراقية ليوم 19 اذار 2011 خبرا مفاده ان مركز علوم البحار في جامعة البصرة، اعلن عن تسجيل دخول سمكة كبيرة من نوع (القرش الحوت )الى مياه شط العرب للمرة الاولى. ويبدو ان السبب الرئيس في ذلك هو ارتفاع مناسيب الاملاح في شط العرب.

ويبدو ان الامر غريبا، فمثل هذه الاحياءالمائية الكبيرة تناى عن المياه العذبة ولا تقترب من السواحل الماهولة الا لماما. غير ان هذه الحادثة النادرة سبقتها حوادث مشابهة في العقود التي خلت،واهمها وقعت في الربع الاخير من القرن التاسع عشر، وقد وجدنا تفاصيلها في اوراق المؤرخ العراقي الكبير يعقوب سركيس (ت1958)، وقد هياها لاستكمال كتابه القيم (( مباحث عراقية ))،غير انه نشر موجز بحثه في مقال له عام 1955، لم اجده في الجزء الثالث من الكتاب المذكور الذي نهد الى جمعه وتحقيقه الاستاذ معن حمدان علي.
وقد نشرت جريدة (الشعب ) البغدادية ليوم 6 حزيران 1955 مقالا عنوانه ((العثور على عظام حوت بحري كبير في الفاو)). ذكرت فيه ان مياه شط العرب قد شهدت قبل مئة عام تقريبا دخول حوتين كبيرين،اجتاز احدهما منطقة الفاو ونفذ الى القرنة، وبالقرب من مدينة العزير اراد ان يتراجع فلم يستطع. وقد قطع حركة المواصلات النهرية، فاضطرت السلطات الحكومية الى استقدام مدفع ضخم، قذف الحوت عدة اطلاقات شلته عن الحركة.وهناك تقاطر الاهالي وهشموا الحوت،واتخذ الناس من عظامه مهابش وجواوين ومعابر للقناطر وغير ذلك. اما الحوت الذي بقي عند الفاو فقد استطاعت احدى السفن الحربية في الخليج تحطيمه باطلاق المدفعية عليه. ومنذ ايام قريبة( الحديث عام 1955) عثر مدير ناحية الفاو على عظام حوت كبير في الناحية ، فقدمها الى متصرفية لواء البصرة.ومن الجدير بالذكر ان مدير الناحية حصل على عظام هذا الحوت من شخص كان يستعملها كجسر صغير على النهر المحاذي لبيته.
اما الباحث القدير يعقوب سركيس فقد حدد مجيء الحوت الى نهر دجلة في سنة 1880 وقد وصل الى شمال قصبة العزير. وقد اعتمد سركيس على مصدر دقيق ونادر،هو يوميات كتبها احد موظفي شركة الملاحة التجارية النهرية في العراق المعروفةالى وقت قريب بشركة (بيت لنج)،وهو جوزيف زفوبودا،كان كاتبا يومذاك على الباخرة (بلوص لنج) التي كانت تمخر في نهر دجلة. وكان هذا يدون كل يوم من دون انقطاع تصرفاته ومشاهداته ومسموعاته حتى يومين سبقا وفاته في 19 كانون الثاني 1908، كتبها في دفاتر مجلدة بلغت صفحاتها نحو ثلاثين الف صفحة،وابتدا بها من عام 1863. واّل اغلب هذه الدفاتر النفيسة الى الاستاذ يعقوب سركيس ولم ار الا بقاياها في مكتبة الاثار العامة( المركز الوطني للمخطوطات ) .وقد تيسر لي نقل الكثير من محتويات تلك الدفاتر واعددته للنشر. ذكر جوزيف زفوبودا في يومياته ليوم 22 كانون الاول 1880:
حدث حادث غريب لم يحدث مثله فقد التقت الباخرة بلوص بحوت بحري طوله 40 قدما في الغميكة على بعد غلوتين فوق قبر العزير.وقد اطلق الناس عليه طلقات عديدة حتى استنفدوا رصاصهم فاستعاروا 12 ربطة من الخراطيش من الباخرة ( بغداد ) التي كانت تتبع الباخرة بلوص في المؤخرة. واطلقت عليه دون جدوى .وقد صعد هذا الحوت على الشاطىء الضحل، وخرج جمع كبير الى قربه بالزورق البخاري واقتطعوا قطعا من ظهره، ثم نزل الى الماء العميق وبقي يتحرك ويقذف الماء عاليا في الهواء حتى غاب عن الانظار في اعالي النهر ثم التقى به الناس قرب السد في ( ابو روبة ) فغطس تحت قعر الباخرة وخرج من الجهة الثانية اكثر نشاطا من ذي قبل وغاب.
وقد حصلت على قطعة من اضلاعه من الملاحين وقالوا ان الناس في العزير سمعوا ليلا صخبا عند مجيء الحوت فظنوا ان باخرة تقدم ولكنهم لم يروا انوارا. وكانت القرنة كذلك قد شاهدته يندفع في الماء من جهة الى اخرى، فاغرق زورقا كان يعبر النهر.واظنه مات بعد ذلك متاثرا من جروحه. وليس بخاف انه لا يستطيع الحياة في الماء العذب.
وبعد اربعة ايام كتب جوزيف زفوبودا ان اخاه هنري وكان هو الاخر يعمل كاتبا في الباخرة الثانية لشركة بيت لنج، قد اخبره ان الباخرة ( مسكنة ) شاهدت الحوت على الارض قرب السد وتمكنت من قطع ذيله،وهكذا نفق الحوت وترك هناك. غير ان ربان الباخرة (مسكنة) قص على زفوبودا حادثة قتل ملاحيه الحوت، فقال بعد يومين (28 كانون الاول) انه تمكن من الحصول على ذيله واخذه معه الى البصرة،وطول عظم الذيل12 قدما، اما الجسم فطوله 48 قدما. وكان قد ضرب بذيله بقوة حديد الباخرة فاصابه عطب ،وكذلك ضرب جزءا من ظهر الباخرة ،ونزف منه مقدار كبير من الدم بعد قطع الذيل. وبعد يوم او نحوه طفا الجسم منحدرا في النهر وقد انتفخ ويقال انه الان على الارض واتوقع رؤيته غدا.
وفي 29 من الشهر نفسه كتب زفوبوداانه في الساعة 15-9 وصلنا الى منطقة تحت التلول حيث القي الحوت الميت على الشاطىء،فذهبنا الى قرية بالزورق البخاري فوجدناه مستلقيا على ظهره وبطنه المخططة قد انتفخت فبلغ حجما عظيما...والذيل مقطوع من مؤخرة الجسم ولما اقتربنا منه شممنا رائحة كريهة،وطوله الان اكثر من 40 قدما. وثخن الشحم قرب الذيل المقطوع نحو ستة انجات.وتعلو البطن البيضاء حيوانات مائية كالتي على قعر الباخرة.وقد غض النظر الربان كاولي عن قطع شيء منه او رفعه من الماء لنتانته،فعدنا الى الباخرة.
لقد قدم لنا جوزيف زفوبودا التي استقرت اسرته في بغداد، في يومياته شهادة مفصلة عن حوت نهر دجلة سنة 1880، ومن يدري؟ ربماهذا الحوت هو اول حوت بحري دخل مياه العراق العذبة، وان غيره لم يدخلها. غير ان رحالة فرنسي كتب في مشاهداته ما يعضد يوميات صاحبنا،فقد كتب (دي ريفوار)الذي زار العراق عام 1880 وكتب رحلته(( العرب الاقحاح وبلادهم )) المطبوعة في باريس سنة1884 ،انه قدم الى القرنة بالباخرة بلوص لنج ،وشاهد الباخرة مسكنة كانت تسحب شيئا عظيما لونه يضرب الى السواد، وهو مربوط بدفتها، ولم يكن هذا الشيء سوى ذيل لحوت قد رسب في اليوم السابق في دجلة فوق المدينة بكيلوات معدودة...ترك هذا الحوت على حاله فتفسخ ونتن وانتشرت رائحته الكريهة الى ما يجاوره، ثم اصبح هيكلا يابسا ابيض اللون،فاشترى يهودي عظامه ووضعها في 45 صندوقا ارسلها الى فرنسة.وكانت حاملة هذه العظام اول باخرة دشنت خطنا(يقصد الخط بين البصرة واوربا) الفرنسي سيرفس دولريان (مصلحة الشرق).