عبدالستار إبراهيم
((تصوف)) تجربة جديدة/ قديمة في غابة الأسئلة الإشكالية التي تبحث في ماهية الوجود والغياب (العدم) هل هو غياب مؤقت ام انه دائم ونهائي؟ ((تصوف)) نص فلسفي – شعري بامتياز، جَسّدَ رؤيا الكاتب والمفكر اليوناني نيكوس كزنتزاكيس الخاصة بالثنائيات الأزلية: الحياة والموت، الخير والشر، الضوء والظلام.. وسائر الثنائيات التي لا نهاية لحلقاتها.
(1)
كزنتزاكيس الذي وصفت روحه بـ(القلقة المتمردة) والذي عرفناه في الروايات الخالدة: زوربا اليوناني، المسيح يصلب من جديد، الإخوة الأعداء، ومن خلال سيرته الذاتية (تقرير إلى غريكو) هو غيره في ((تصوف)) تصوف: مناجاة، بوح، تمتمة روحية، حوار هاديء ومصطخب في آن من قبل طرف واحد/ عقل يرشح عصارته بهدوء عجيب! نهنهة نفس تواقة لمعرفة ما التبس من معضلة كبرى (سر اعظم) نقصد بذلك، الحضور القصير للمرء فوق أديم الأرض، خلال مروره الخاطف ضمن فسحة الضوء البهية (الحياة) ومن ثم نزوله في هوة الفناء (القبر) حيث الظلام المستديم! ((تصوف)) ليس محض مجادلة فكرية في تضاعيف مسألة عابرة.. إنها اكثر من ذلك بكثير. إنها انغماس يصل حد الحذر والتماهي في جوهر (ذات) متخيلة غامضة، بيد أنها قريبة منا قرب الأنفاس من القلب، وقرب الوريد من الرقبة!
بالطبع، لايمكن حيازة قلادة الريادة في مضمار هذه الموضوعة الشائكة – جدلية الوجود وجدواه- لراهب الفلسفة اليونانية خلال القرن العشرين (كزنتزاكيس) فهذه الجدلية سالت على نسيجتها انهار من المداد مذ أول (مفكر بشري) وامتدادا إلى أساطين اثينا: أفلاطون، سقراط، هوميروس... وإلى مئات من فلاسفة الشرق والغرب، ومن ضمنهم بالطبع، ثلل المتصوفة التي توزعت عواصم وحواضن الحضارات المتعاقبة في مختلف أصقاع المعمورة. لقد أراد كزنتزاكيس للانسان ان يتحرر بارادته، وان ينعتق من أسر المؤسسات الزائفة، ومن إرث المعتقدات الجامدة البالية. اسئلة ليس من السهل بلوغ الاجابة عنها بيسر، بيد انها قابلة للتأمل والتمحيص حسب، لانها: (لاتستسلم للغة، ولا تنصاع للقوانين. لكل شخص خلاصه الذي يبلغه بحرية مطلقة. فكما لاتوجد طريقة للتعلم، لايوجد مخلصّ ليفتح الطريق ولا يوجد طريق ليُفتح.) ص89.
تشير بعض سطور المقدمة إلى ان كزنتزاكيس ولد في جزيرة كريت اليونانية عام 1883 وتلقى تعليمه في جامعة اثينا ثم باريس. طاف في بلدان اوروبية كثيرة، لكنه عاد واستقر في جزيرة (إيجنة) إبان الحرب العالمية الثانية منقطعا للتأليف الادبي والفلسفي. كتاب ((تصوف)) الذي يعود تخطيطه الاولي إلى العام 1914 ربما مثل الرؤيا الاساسية لكزنتزاكيس الشاعر والمفكر معا، حينها كان كزنتزاكيس في الثلاثين من عمره، وكان في زيارة للجبل المقدس (آيوس اوروس) بشمال اليونان، متجولا بين أوديته، ((تصوف)) هو المخطط الأولي لمسيرة الاكتشافات الموعودة، وهو البذرة التي نبتت في مؤلفاته الروائية والشعرية اللاحقة، إذ مثلت مرحلة ((تصوف)) حقبة الإرهاصات الكبرى لدى المؤلف الذي ظلت رؤاه الواردة في هذا النص ليس لها امتداد تجريدي آخر، فهو لم يحاول مثل هذا النوع المتناسق من الخطاب اللاهوتي، وان توزعت مقاطع كاملة منه في أعماله اللاحقة.. كان كزنتزاكيس أمينا لرؤاه وتجاربه بقدر صمود هذه الرؤى والتجارب أمام التساؤل.)
حرص كزنتزاكيس ان يعزف على وتر الحياة ومعناها.. لم يعجز عن توليد الاسئلة المتعاقبة، على شاكلة: ماجدوى وجودنا هنا.. في هذه اللحظة الراهنة.؟
ماجدوى حيواتنا التي تمر سراعا مثل لمح البروق؟ ويجيب: نحن لانسير من فوضى إلى فوضى اخرى، ولا من ضوء إلى ضوء آخر، ولا من ظلام إلى ظلام آخر، لأنه إذا كان هذا سبيلنا، فما قيمة حياتنا هذه؟ بل وما قيمة الحياة كلها؟ الحياة التي يشبهها بالمعركة الخاسرة تارة، وبالخالدة تارة اخرى، فـ((سيان إذا ما انسحبت منها معتزلا، او حاربت فيها ببسالة.. فستبقى دائما في أتونها.))
(2)
(نأتي من هاوية مظلمة وننتهي إلى مثيلتها. اما المسافة المضيئة بين الهاويتين فنسميها الحياة.)
بهذا المقطع المعبر، الفلسفي، شديد الواقعية.. يستهل كزنتزاكيس متن نصه ((تصوف)) او ملحمته الخالدة (على قصرها واقتضابها) مضيفا: (لحظة ان نولد تبدأ رحلة العودة. الانطلاق والعودة في آن. كل لحظة نموت، لهذا جاهر كثيرون ان هدف الحياة الدنيا هو الخلود. في الاجسام الحية الفانية يتصارع هذان التياران:
الصاعد، نحو التركيب، نحو الحياة، نحو الخلود.
الهابط نحو التحلل، نحو المادة، نحو الموت.) ص13.
ونقرأ عددا من التجليات الواردة في الكتاب..
- اشتاق إلى شيء واحد هو، ان ادرك ماالذي يختبئ خلف الظواهر، ماهو هذا السر الذي ينجبني ثم يقتلني؟ وهل خلف التيار المنساب والمرئي للعالم يختبئ حضور ثابت لامرئي؟
- (إلى أين نحن ذاهبون؟ لاتسل! اصعد واهبط. لاتوجد بداية ولا نهاية. توجد هذه اللحظة الحاضرة، مليئة بالمرارة ومليئة باللذة. افرح بها كاملة. الحياة خير والموت خير.)
- وتستمر تساؤلات المتصوف اليوناني تترى، مندغمة بالأجوبة في آن: (أكرر السؤال طارقاً ابواب الهاوية. من الذي يبذرنا في هذه الارض دون إن يطلب منا؟ من الذي يقتلعنا منها دون إذن منا؟ انا مخلوق مؤقت وضعيف، مصنوع من طين وأحلام لكني ادرك ان في داخلي تصطخب كل قوى الكون. اريد اللحظة واحدة، وقبل ان تحطمني هذه القوى، ان افتح عينيَّ فاراها امامي. هذا هو هدفي الوحيد في الحياة.) ص22.
إله كزنتزاكيس، او كما يحب ان يسميه (النَفَس العظيم) ذاك المصطفى من مخيال موار لاتنقصه الحكمة او الحجة والمنطق، لايعتقد ان ثمة شيء يقينيا في الكون. انه يراهن على اللايقين، وهو ليس فكرة تجريدية او ضرورة منطقية، او محض بناء منسجما هائلا من الأفكار والتصورات. روح الانسان شعلة متوهجة، وهو يشكل كينونة واحدة، جوهر واحد مهّدد كما يذهب كزنتزاكيس.
(3)
تشير زوج كزنتزاكيس (هيلين) في ورقة الختام، وعبر مقال حمل عنوان (الذي لم يساوم) إلى ان كزنتزاكيس كان متدينا، متدنيا عميقا. بحث عن الإله لكنه لم يقل.. ها... قد وجدته وآمنت به. انه يؤمن بقوة اعلى منا تحركنا. كان يبحث لاكتشاف حدود دورنا (كبشر) وماهية وجودنا على هذه الارض، وكان معنى الإله بالنسبة له هو ان نكون احسن مما نحن عليه.
كتب كزنتزاكيس في احدى أوراقه: (أؤمن بإله واحد، قائد وإمبراطور كل القوى المضيئة، المرئية منها والمستترة. أؤمن بالأقنعة المؤقتة التي لاتحصى، والتي اتخذها الإله عبر القرون، وأتبين خلف التيار المنساب بلا انقطاع، وحدة لاتنفصم عراها. أؤمن بكفاحه الشاق والمضني، الذي يطوَّع المادة ويجعلها تثمر كنبع يهب الحياة نباتات وحيوانات وبشرا.) ص90.
نحرص على الاشارة إلى ان هذه القراءة، لاتحيط بـ((تصوف)) كزنتزاكيس عن قرب، بل ينبغي قراءة النص والتمعن بطروحاته بنَفَس صوفي متنور، يقظ.. إذا اصبنا القول والتعبير. قراءته بذهنية صافية، متأملة، مؤمنة بالانسان: وجودا، وكينونة، ومصيرا.. وقبل كل شيء (بعقل) هذا الكائن الذي استورت الارض بارادة ربانية. ينبغي القراءة عبر مرئية جريئة من المِران الروحي الذي يفضي بقدرما، بشكل ما، إلى التجلي وإلى الفهم الكامل- أو بحده الأدنى- دون تحفظات استباقية ساذجة.
* ((تصوف)) نيكوس كزنتزاكيس. إصدار مؤسسة المدى 2013، الطبعة الرابعة، ترجمة سيد احمد علي.