بدر شاكر السياب ذكريات الشعر والألم

بدر شاكر السياب ذكريات الشعر والألم


عبد الوهاب الشيخلي
باحث راحل
في نهاية الأربعينيات ومطلع الخمسينيات من القرن العشرين بدأ اسم الشاعر بدر شاكر السياب يتردد في المحافل الأدبية والفنية في بغداد. وشاءت الصدف أن نعمل معا في النهار بمديرية الأموال المستوردة ومساءً في جريدة الشعب ومجلة الأسبوع. وفي عام1957وعلى أثر عودته من لبنان أجريت معه حواراً نشر في مجلة الأسبوع قبل أن يعين سكرتيرًا لها ببضعة شهور جاء فيه:

إذا قدر لك أن تلتقي الشاعر بدر شاكر السياب دون أن تعرفه من قبل, فستحسبه كاتباً بسيطاً في إحدى الدوائر, أو معلمًا خاب أمله في الترقية منذ زمن بعيد. جسم نحيل هزيل, بسيط في ملبسه, يسير بصورة مستعجلة متأبطًا كتابه. اكثر قراءاته بالإنجليزية. يكره الزيف والادعاء والعظمة.
وبعد أن التقطت له بعض الصور بالكاميرا التي كنت أحملها معي دائماً لأغراض صحفية سألته عن المهمة التي ذهب من أجلها إلى لبنان والأهداف التي حققها هناك فأجاب: اعتادت مجلة (شعر) اللبنانية تقديم أمسية شعرية مساء كل خميس يحضرها شعراء لبنانيون - وقد شاءت هذه المرة أن يشارك فيها شاعر من العراق فوقع الاختيار علي فذهبت وألقيت شيئًا من أشعاري. وفي تلك الجلسة قررت الجامعة الأمريكية (قسم اللغة العربية) الاعتراف بالشعر الحر و إدخاله في مناهج الدراسة للسنوات المقبلة. وقد استغرق إلقاء الشعر من قبلي ساعة من الزمن إلا أن الجمهور طالب المزيد فألقيت قصيدة أخرى. لكنهم لم يكتفوا بذلك وطلب أحدهم قصيدة (المومس العمياء) ولما أخبرتهم أن هذه القصيدة تستغرق ساعة من الزمن أجابوا جميعًا أنهم مستعدون لذلك! وهنا سألت الشاعر السياب - هل كنت تكتفي بإلقاء القصائد دون شرحها? فأجاب: كنت أشرح لهم الجو العام للقصيدة, وهذه طريقة جديدة لتذوق الشعر الحر وتقريبه إلى أذهان الجماهير. وهل خرج أحدهم برأي جديد خلال تلك الجلسة? - نعم. لقد صرح جورج صيدح الشاعر المهجري الكبير برأي جديد حيث صار يعتقد بوجود شعر جيد بغض النظر عن أسلوبه في التعبير.

الشعراء في مرآته
كان السياب يحمل كتاباً باللغة الإنجليزية للشاعر (ت. س. اليوت) فقلت له: ما هذا? فقال: هذا الكتاب يعود لشاعر عظيم تعلمنا منه الكثير في مجال الشعر الحر وقد حاول بعض الشعراء العرب تقليده ففشلوا لضعف في اللغة العربية أو الإنجليزية. وهنا طلبت من الشاعر بدر السياب أن يتحدث عن تجربته الشعرية فقال: كان الحافز الأول لكتابة الشعر الحر بعد أن قرأت الشعر في اللغة الإنجليزية فلاحظت تعدد التفعيلات في أبيات الشعر وعدم انقطاع المعاني من بيت لآخر كما هو الحال في القصيدة العربية. فبدأت الكتابة وفق نسق ٍ جديد من التفعيلات مع أجواء وأفكار جديدة تنسجم مع روح العصر. وأضاف السياب قائلاً: وللحقيقة والتاريخ لاحظت أيضا ً أن الموشحات الأندلسية تتسم بطابع خاص تجد في بعضه ملامح الشعر الحر. وفي عام 1940 وفي مجلة الرسالة المصرية قرأت للشاعر خليل شيبوب قصيدة عنوانها (القصر والحديقة المهجورة) وكانت في معانيها وألفاظها وتفعيلاتها قريبة من الشعر الحر. وفي عام 1947 وفي قصيدة (روميو وجولييت) للشاعر علي أحمد باكثير تجد هذا اللون من الشعر بشكل ملحوظ. وكنت قد كتبت في الشعر الحر عام 1946 قصيدة عنوانها (هل كان حبًا) وألقيتها أمام طلاب دار المعلمين العالية ببغداد فلاقت استحسانًا كبيرًا وكان عبد الوهاب البياتي وشاذل طاقة بين الحاضرين أما قصيدة (الكوليرا) للشاعرة نازك الملائكة فكانت أقرب ما تكون إلى الموشح. ولكنها أصدرت عام 1948 ديوان (عاشقة الليل) وفيه عدد لا يستهان به من الشعر الحر مع شرح وتحليل, أما أنا فقد أصدرت ديوان (أساطير) عام 1950 وقد تضمن عددًا من القصائد التي نشرتها في مجلة البيان والعقيدة عام 1948. وأعود فأكرر أنه كان لقراءتي للشعر الإنجليزي الأثر الكبير في التوجه نحو الشعر الحر.
وكان السياب قد بدأ العمل في الصحافة مترجمًا باعتباره يجيد اللغتين الانجليزية والعربية. وقبل غلق مجلة الأسبوع بسنة تقريباً عين سكرتيراً لها. ومن هنا بدأ يكتب القصص القصيرة وكان بعضها يدور حول أشخاص التقى بهم في قرية جيكور أو البصرة. ولم أقرأ حتى يومنا هذا من تناول هذه القصص بالنقد أو الدراسة وفيما إذا كان السياب يمكن أن يكون قصصيًا بمستوى تشيخوف الروسي أو موبا سان الفرنسي. ولا أستطيع الادعاء بأنني أتمكن من تقييم تلك القصص القصيرة. أما شعره فقد انتشر في أنحاء الوطن العربي وأصبح السياب من الأسماء المعروفة وكان النقاد إلى جانبه دائماً.. ومع ذلك فإن أحد العلماء الراحلين وعضو المجامع العلمية في العراق وبعض أقطار الوطن العربي أجاب عن سؤال وجهته له في لقاء إذاعي عن رأيه بالشعر الحر وبدر شاكر السياب فكانت إجابته وهو الشاعر التقليدي المحب للشاعر أحمد شوقي: إن الشعر الحر مؤامرة كبيرة على الشعر العمودي واللغة العربية!

في مجتمع بغداد
لم يكن الشاعر بدر شاكر السياب يشكو من المرض خلال السنوات التي عرفته فيها حتى 1958, ولكنه كان يبدو نحيلاً شاحباً.. ومع ذلك فهو سريع الخطى, وكنت أحس أنه يعاني هشاشة في العظام. وكان للسياب من يشتمه ويقلل من قيمة ما يكتب من شعر.. وربما كان الشاعر كاظم جواد من ألد أعدائه وقد سمعته وهو يسبه ويشتمه مدعياً أنه تسبب في فصله من الوظيفة.
كان السياب من رواد المقاهي البغدادية حيث يجتمع مع بعض الشعراء والأدباء.. وحدث ذات مرة أنه كان يكتب قصيدة جديدة فاقترب منه شاعر مغمور ومد عنقه متطفلاً وأشار عليه أن يستبدل كلمة بأخرى فنظر إليه بدر باستغراب وقام من محله وجلس في مكان بعيد دون أن يفوه بكلمة واحدة!
كان لقصيدة المومس العمياء وهي قصيدة طويلة يستغرق قراءتها ساعة كاملة أثرها العميق في نفوس القراء.. وكنت أعتقد أنها من بنات أفكاره وليس لها وجود إلا في مخيلته إلا أن الصحفي قاسم السماوي وهو من أصدقاء السياب أكد لي أن هذه الشخصية موجودة في بغداد وقد شاهداها معاً وهي التي أوحت له بتلك القصيدة الرائعة والتي طلبها الجمهور اللبناني واضطر السياب إلى قراءتها كما أشرنا في الحوار الذي أجريناه معه.. ويبدو لي من خلال معرفتي بالشاعر بدر أنه يميل إلى الصراحة أحياناً بدليل أنه كان يقول عن الشاعر محمود البريكان وهو من مدينة البصرة أيضاً: إنه شاعر أصيل ومقتدر وكان من الممكن أن يكون شاعراً كبيراً لولا انزواؤه في البيت وعدم مزاولته للشعر إلا في حالات نادرة, وهو خيرٌ منا جمعياً.

*****
حاول بعض الملحنين تلحين بعض قصائد السياب.. وكنت أتمنى لو أن ملحناً كبيراً كالموسيقار محمد عبد الوهاب أو بمستواه الفني قد أخذ بعض تلك القصائد بدلاً من الملحنين والمطربين الذين يفتقرون إلى الموهبة وأبسط قواعد الإبداع, لكان نصيب تلك القصائد مزيداً من الانتشار في جميع أنحاء الوطن العربي. كان السياب, قبل زواجه ينتقل من فشل إلى آخر في ميدان الحب.. وقد تبين له بعد حين أن كل من تعرف عليها كانت تأمل أن تجد نفسها في إحدى قصائده المتداولة بين الناس وخاصة في دار المعلمين العالية وبعض المجالس الأدبية. حتى تمنى أن يكون أحد الدواوين التي نشرها.
لم يكن الشاعر بدر شاكر السياب يعتني بهندامه. ولضيق ذات يده, شكا ذات يوم أمامنا قائلاً: إلى متى نبقى على هذه الحال? ثم اقترح علينا مشروعاً قد يدر علينا بعض المال. وكنا أربعة من المحررين, ولكننا وبعد أقل من شهر نبذنا تلك الفكرة وذلك المشروع لأسباب تتعلق بشخصية الإنسان النزيه الذي ينزع إلى النجاح والعيش بطرق مشروعة.. وقد لاحظت من خلال عملي معه أنه يميل أحياناً إلى الاعتداء على الآخرين والإيقاع بهم. كما أنه لم يكن مستقراً في موقفه السياسي فقد انتقل من اليسار إلى اليمين وأخذ يطعن بزملائه القدامى من الحزبيين على صفحات الصحف اليومية باسمه الصريح وكشف عن أسرارهم الحزبية بأسلوب جعله في موضع نقد كبير من معارفه وأصدقائه.
وكان آخر لقاء لي معه في بغداد في منطقة الأعظمية (ساحة عنتر) وبعد أن تبادلنا التحية نصحني ألا أنتمي لأي حزب من الأحزاب, قال ذلك بلهجة عراقية بغدادية!! واكتفيت بالصمت وعدم الرد عليه.

*****
كنت أتمشى ذات يوم في بغداد (شارع الرشيد) مع الشاعر عبد الوهاب البياتي في الخمسينيات من القرن العشرين. وقرب مقهى البرازيلية التقينا بالشاعر بدر السياب وتبادلنا التحية ثم ذهب السياب مسرعاً وكان كعادته يحمل كتاباً مع بعض الأوراق. وفي اليوم التالي سألني بدر: منذ متى تعرفت على البياتي وهل هو حقاً من المنطقة الشمالية للعراق وليس من بغداد فأجبته: إني عرفت عبد الوهاب منذ كنا صغاراً في المدرسة الابتدائية وكان صديقاً لأخي الصغير الذي كان يدرس في مدرسة الشيخ رفيع في باب الشيخ, أما أنا فكنت في مدرسة العوينة التي تقع قرب دكان والده في منطقة سراج الدين وكان ينتظرني عند خروجي من المدرسة. وقد لاحظت أن البياتي كان من المولعين بكتابة الشعر منذ عهد الطفولة, فقد أخرج ذات يوم قصاصة من الورق وطلب مني أن أقرأها فإذا هي عبارة عن بيتين من الشعر في الغزل.. ولما كنت أهوى الموسيقى والغناء منذ العاشرة من العمر فقد لحنت ذلك الشعر وغنيته بصوتي ونحن في طريقنا إلى البيت.. كان ذلك حوالي عام 1937 واكتفى السياب عندما سمع ذلك بالقول: كلنا بدأنا في قرض الشعر منذ عهد الطفولة الأولى.
أعتقد أن صحة الشاعر بدر السياب بدأت تتدهور في السنوات الثلاث الأخيرة من حياته القصيرة. تقول بعض المصادر إنه زار بيروت عام1960 وهناك طبع أحد دواوينه الشعرية وزار بعض المجلات الأدبية مثل مجلة الآداب وحوار وشعر.. ولا شك أنه التقى ببعض الأدباء والشعراء في لبنان.. كما أنه لا بد وأنه كان يراجع بعض الأطباء لمعرفة سر مرضه والعلاج الذي قد يساعده على الحياة البائسة التي كان يحياها.. واستمر في كتابة الشعر الذي كان هاجسه الأول آناء الليل وأطراف النهار.
إن الشاعر بدر شاكر السياب المرهف الإحساس مات فقيراً معدماً في المستشفى الأميري في دولة الكويت التي قامت برعايته وأنفقت عليه خلال مدة علاجه.. وعاد جثمانه إلى قرية (جيكور) في البصرة في يوم من أيام الشتاء الباردة الممطرة. وقد شيعه عدد قليل من أهله وأبناء جلدته وبذلك انطفأت شعلة الإبداع.. وسكنت آلامه إلى الأبد.

مجلة الاذاعة والتلفزيون