معمارية البُنية وخراب المدن..رواية     فندق كويستيان     أنموذجاً

معمارية البُنية وخراب المدن..رواية فندق كويستيان أنموذجاً

حميد الربيعي
رواية (فندق كويستيان) تختلف من حيث البناء الفني عن بقية روايات خضير فليح الزيدي وسردياته، فقد اعتدنا خلال السنوات القليلة الماضية على اهتمامه المكثف بالهامشي من الحياة الاجتماعية، التي غالبا ما كان يلتقط لنا المبهر من هذه الهوامش.

في الرواية الصادرة حديثا (فندق كويستيان) يدخل جنس الرواية من بوابة الميتا سرد والتحقيق الصحفي السردي للحوادث التي شكلت مهيمنة أولى للحدث الدرامي الأول للرواية. من هذه الزاوية أظن أن الزيدي قد أحكم رسم البناء الهندسي في أثناء التخطيط المسبق لكتابة الرواية، حيث جعل من فصول التتابع حلقات متوالية، حالما تنضب الواحدة حتى يدخل في الأخرى بسلاسة في الوقت والزمان المناسبين، وبناء عليه وظّب عناصر داعمة للتشويق في روايته على هذا الأساس.
فاللغة – مثلا- ففي المقطع السابق تتغير معاييرها في السرد، فإن كانت تستعمل الفعل الماضي وعلى هيئة استرجاعات، فانها في المقطع التالي تصبح فعلا مضارعا، يمثل حركة الشخوص في زمن القص. وفق متطلبات لحظة الزمن..
ففي فصل لاحق لمتوالية الحدث وحالما انتهت حكاية تفجير شارع المتنبي يدخلنا الروائي إلى حلقة جديدة أخرى وهكذا تتوالد لديه الأحداث بنسق تعاقبي مدهش، أنها ليست حكاية جديدة كانت قد تولدت من الحكاية الأولى، كما في ألف ليلة وليلة، بل حلقة تلتحم مع الحكايات السابقة، بيد أنها تمتلك استقلالية باتجاه ما يحدث، وكأن مشاهد الخراب التي ترافق كل حلقة غير كافية لإعطاء صورة عما يحدث في بغداد (الجمرة) كما وصفها بطله.
في هذا المدخل اعتقد أن الزيدي جعل من وحدة الزمن امتداد بمقدار التاريخ المتحرك للبلد وان حلقات سردياته، التي ركبّت فيها الرواية والحياة أصلا، لا تنتظم الا من خلال وحدة الزمن الكلية المتشظية أصلا في اللحظة العراقية السابقة/اللاحقة.
لم يكن تصوير خراب المدينة في رواية (فندق كويستيان) هو ثيمة الرواية، ولا الصور الطافحة بالخرابفي وصف الوايع أنما في أسلوب تمثلات ذلك الواقع، الذي أصابها أو أوصلها إلى ما هي عليه، بقدر ما كان نبض الحيوات هو الذي جعل الرواية توغل عمقا في الألم العراقي حصريا، فما بين الواقع الحقيقي للخراب والواقع المبثوث في"كويستيان"ثمة مفارقة مهمة.. الواقع الروائي كان أكثر إحكاما لايقونة الألم.. كانت فنتازيا فنية محكمة أكثر من فنتازيا جريرة الواقع اليومي المهلهل.. خاصة وان المدخل للرواية قد جسدته عودة (كاكا ناصر) إلى بغداد وتركه الطوعي لجنّته الأرضية برلين - المانيا، هذا المدخل حتما سيقودنا إلى تتبع مسارات الشخصيات الفاعلة في الحدث أو كما كانت هي تتحرك في الواقع، أما الشخوص الداعمة لمتوالية الأحداث مثل محمد عساف وشيخ حمادة، وما هما الا نموذجين لواقع تعيشه بغداد سابقا ولاحقا في 2007 ما قبلها وما بعدها كفاصل تاريخي، لم تتغير فيه الظروف بقدر تغيير الذوات وتبدلها.
من هذه الزاوية نقلنا الروائي من حروب خارج الحدود إلى حروب داخل الحدود وكأنه يقر بإمتداد الزمن وفعله، وإن ما كان سابقا هو ما يجري حاليا.
إن التحقيق الذي أجرته الرواية في ملاحقة حادث تفجير شارع المتنبي وصل من النضج لحد الإقناع بسردية المتخيل من حادث التفجير اللاحق، خاصة وان المسببات التي ارتأتها الرواية لهذا التفجير تبدو لي أكثر قبولا من الواقع الفعلي.
أما قصة الحب التي عاد بها (كاكا ناصر) إلى بغداد فقد كانت هي البذرة التي حرص الروائي على الإمساك بها حتى الصفحات الأخيرة، فهي الخلفية التي تحركت في ظلها بقية الأحداث، بل هي بؤرة الحدث ونسغ السرد المتصاعد التي تمسك ببناء الرواية وتوصله إلى الدلالة التي طرحتها ثيمة الرواية، فمقتله بأحداث الحرب الطائفية بحي الجهاد حتى اللحظات الأخيرة، وهو الذاهب إلى حبيبته وإبلاغها بمشاعره بعد ما يقارب العشرين عاما من كتمان هذا الحب، هو ما يشبه حلم الوردة التي غرسها الكاتب بتؤدة وعناية وسط خراب بغداد العام.
رسم الصورة والنقيض هما الخطان البيانيان الذي سارت فيه فصول رواية خراب موحش لبغداد ايام حرب الأهل، فبقدر ما كانت الفصول تؤشر الى أحداث الماضي، التي مرت على شخوص الرواية من مواقف جسام، ممثلة في الحرب العراقية الإيرانية والمعاناة النفسية والجسدية التي تكبدوها من جرائها، بما آلت اليه أوضاعهم الشخصية، فانها بالمقابل جسدت الصورة النقيضة، سرديا متمثلة بمقدار السخرية والتهكم في اللغة، مما يحيل القارئ بالضرورة إلى تبني رؤيا جديدة إزاء الواقع الجديد الذي جاء عقب التغيير المفترض، الرؤيا هذه يلمسها القارئ في ثنايا اللغة وفي ميل الشخصيات إلى تجاوز نكباتها السابقة.
هنا حاول الكاتب أن يؤشر إلى قضية في منتهى الدقة، وهي أن الأفراد قادرون على تجاوز الأوجاع السابقة وان لم يتغير الواقع بعد، من خلال السخرية من الماسي السابقة، في هذا المجال استطاع القفز بالبؤرة السردية، من خلال رسم الملامح وطريقة تعامله في رسم ملامح هؤلاء الشخصيات.بالمقابل جسد الروائي هذه البؤرة في وجهها المقلوب الآخر، ففي شخصية الشيخ حمادة وحمدان وعلاوي (السكِن)، هؤلاء كانوا من شخوص حقبة ما قبل السبعة كما يصر السارد على تسمية حقبة الدكتاتورية، بيد أنهم بعد هذا التغيير صاروا فاعلين أساسيين في الواقع ما بعد السبعة، من خلال مهنة جمع مخلفات الانفجارات والمتاجرة بها، وفي الحدث الروائي حين صاروا وخططوا لتفجير شارع المتنبي عن طريق محمد عساف وعصابته.بالضرورة ستوحي هذه الفاعلية إلى حالة معقدة في تركيبة هؤلاء الشخصيات، رصدها المؤلف بدقة، وأعطاها حيزا من المتابعة والتدقيق، لكنه استخدم لغة التهكم والتي تؤشر دلالة الرؤية الفنية للعمل.
أن الازدواج والتطور في بناء الشخصيات، التي وصفها الكاتب، تعكس بشكل جلي النظرة المتعارف عن التركيبة النفسية المعقدة لشخوصه، فهنالك شخصيات في جانب كانت مزدوجة التركيب نفسيا واجتماعيا، فالتحول مثلا الذي طرأ في شخصية الشيخ تعد مثالا عن الحالة الاجتماعية – الواقعية.
الوجه الآخر الذي قابل الازدواج في الشخصيات هو الارتقاء، من حالة القنوط والجزع عما جرى سابقا، إلى حالة النقد والتطور، مثال على الارتقاء بالشخصيات من الاندحار إلى التغيير، باتجاه الافضل، كما في شخصية البطل(كاكا ناصر)، من خلال مسعاه إلى أعادة احياء علاقة حب سابقة، أو في حالة علي عبدالهادي بندر وهو الشخصية الرديفة للبطل في الاكتفاء بالتذمر من الأوضاع السابقة واللاحقة على طول مسار فصول محنة في الرواية، ثم الانتقال بها إلى حالة التوجيه والنقد في ظل الأوضاع الجديدة.
من جانب اللغة وظّف الروائي هذه التغيرات بشكل سلس وعكسها بطريقة استعمالها بلغة نوعية في انتقاء المفردات المتداولة، بالإضافة إلى طريقة السرد المؤدي للمتلقي من دون تعسف في استخدام اطنابات البلاغة المترهلة، التي جسدتها لغة رواية فندق كويستيان، فقد اختلفت أيضا في البناء اللغوي على مستوى شخصيات الرواية المتعددة التي صاحبت شخصيات الازدواج، تدخل فيها الراوي العليم،من خلال لغة التهكم، هذا التدخل كثّف الرؤية النقدية باتجاه الواقع، كذلك من خلال النظرة التي طرحها المؤلف باتجاه مجمل الوضع العام ومتغيراته، أما في حالة الارتقاء فان الروي العليم توارى إلى الخلف معطيا المسؤولية إلى شخصية (علي بندر) أولا، ثم إلى شخصية (كريم حنش)، وفي كلتا الشخصيتين اختلف طرح اللغة واستعمالها، بموجب التمايز مابين علي المنهك بثقل الماضي وكريم المثقف ذو الإرث اليساري. هذه الصورة الشفيفة في استعمالات اللغة وطرحها، واختلافها بموجب الشخصيات، تعد كثيرا لصالح الرواية، مع العلم مسبقا بإجادة الزيدي لهذه الخاصة من كتاب الرواية الجديدة في العراق.
لقد رأينا الكاتب سابقا في مؤلفات عديدة كتمر ولبن \ الباب الشرقي \ سلة المهملات يجيد عن جدارة استعمال المفردة والجملة اللغوية المناسبة إلى الموقف الدرامي والشخصية، بالإضافة إلى تحميلها من الدلالة والترميز، بما تكتنز من وجهة نظر المؤلف اتجاه الحياة والواقع.
لغة التهكم والسخرية تحمل في طياتها موقفا فكريا نابعا من احساس المؤلف بما يدور في الواقع ويرسم صورة عما يريده من هذا الواقع باتجاه نقده أو تطويره أو حذفه كليا، بسخرية لاذعة، منتقاة بعناية.
في مسار شخصية ناصر ثمة تحولات مفصلية في عدة اتجاهات، لكن دخوله في مستهل الرواية كمغترب عائد إلى بلاده أعطاه من الخصوصية والتميز عن الآخرين، فهو عبر الاسترجاعات كان قد اشترك في اغلب أحداث الماضي، وفي أثناء عودته كان مشاركا – عن بعد – في بناء حكاية تفجير شارع المتنبي، أما الآخرون كانوا له دليلا ومرشدا كما في حالة صديقه علي، حيث يرسم له خريطة لتجنّب فخاخ السيطرات الوهمية في بغداد في أثناء ذهابه وعودته إلى شارع المتنبي، لكنه طوال أحداث الرواية - في زمنها الحاضر - كان يسعى باتجاه آخر، طرح المؤلف بعض الإشارات هنا وهنالك عن تلك العلاقة الخاصة مع امرأة كانت تبحث عن زوجها الفقيد والتقاها ناصر صدفة، الخط الآخر الذي ظل مضمرا خلف تفجر الأحداث الكبرى، الأصح احتفظ به المؤلف حتى يصل النهاية، كأنه عن تصميم مسبق أراد أن تكون خاتمة الرواية فيه، لكن السؤال: ما المغري بهذه الحكاية كي تكون هي الخاتمة؟
إن عودة ناصر لم تكن في سبيل المخطوطة أساسا، رغم أهميتها، الحدث الدرامي جله في هذا المجال، لكن العودة كانت بسبب علاقة حب، غير محددة الملامح سابقا، رغب ناصر بجليها، أو على الأقل يحدد مصيره باتجاهها، هذا المسعى في حيثاته، انما يمثل وجهة نظر لإعادة قراءة أحداث الرواية، وفق مفهوم عودة ناصر تمثل الحياة وانتصار لها وسط الخراب الذي يعمّ المدينة، رغم المصير الذي آل أليه في النهاية، بيد انه فعلا التجسيد الأمثل للحياة ضد الموت.