العراقيون ومأساة (تيتانيك)

العراقيون ومأساة (تيتانيك)

■ رفعة عبد الرزاق محمد
لم تزل أخبار السفينة الاميركية (تيتانيك)، التي اصطدمت بجبل جليدي عائم وغرقت في شمال المحيط الأطلسي منذ ما يقارب القرن، وبالتحديد يوم 14 نيسان 1912، تستقطب اهتمام كل من ارتطم بلحظات الذهول، لدى متابعته لكل الاكتشافات التي تعلن بين آونة واخرى ،لتمسح الغبار من جديد عن هذه المأساة الإنسانية المفجعة التي ألمت بسيدة البحر في أول رحلة لها، وركابها الذين بلغوا 2206 راكبا ، ولم ينجو منهم سوى 750 راكب .

ويبدو ان حادثة هذه السفينة قد هزّت المجتمع الإنساني ممن وصلته أنباء الفاجعة. ومن المثير أن يهتز الوسط الأدبي في العراق بالحادث، فما بالك بعدد من شعراء العراق، وفي السنة نفسها التي شهدت المأساة ، يواسون العالم ويشاطرونه أحزانه لهذا الحادث. وفي هذه الكلمة ، نعرض لثلاثة شعراء عراقيين، نظموا في هذا الحادث المفجع، وهم علي الشرقي ومحمد رضا الشبيبي وإبراهيم منيب الباججي.
وإذا كان الباججي قد عرف بأمر الكارثة من الصحف الواصلة لمركز ولاية بغداد، فان الشاعرين الشيخين الشرقي والشبيبي، وهما من شعراء النجف ، قد عرفا بالأمر من مجلة (المقتطف)، كما يبدو لي، وكانت هذه المجلة الرائدة تصل إلى النجف، ويذكر الأستاذ جعفر الخليلي في كتابه (هكذا عرفتهم) أن بعض المثقفين في النجف كان مشتركا بالمجلة وتصله بانتظام ، وان لها سوق رائجة فيها .ومهما يكن فان ثلاثة شعراء عراقيين ينظمون عام 1912 لحادث غرق سفينة غربية في المحيط الأطلسي، يُعد من الأمور النادرة في تاريخ الشعر العراقي الحديث، وعلى الأقل في تلكم الأيام وقد أذن عهد العثمانيين بالأفول.
أما قصيدة الشيخ علي الشرقي (ت1964)، وهي اقدم القصائد في موضوعها ،فقد نشرتها مجلة (العرفان) الصادرة في صيدا بلبنان في نيسان 1912. بينما نشرت قصيدة الشبيبي في مجلة ( لغة العرب ) التي اصدرها الاب الكرملي ببغداد ،ونشرت في عدد آب من العام نفسه. واذا كان الشبيبي قد رثى السفينة وسماها ملكة البحر، ووصف الباججي الحادث بشكل عام ، فان الشرقي رثى بقصيدته احد ضحايا الحادث وهو المستر ستيد داعية السلام المشهور . وتذكررواية موته انه احس بالصدمة ،وقد كان راقدا ، فنهض وأشعل سيكارته ،وأبصر العالم بنظرة أخيرة، ورجع إلى غرفته وأغلق عليه الباب. يقول الشرقي :
أسيدة البواخر عنك تفدى
لو اكتفت الرؤية بالمسود
وقل وأنت سيدة الجواري
لحزنك أن يطاطا بالبنود
بفقدك قد رُزئن وكل حزن
على قدر الرؤية بالفقيد
بعثت إليك قبلة مستريب
يشفعها بدمعة مستعيد
وما زعزعت مرفأها ولكن
همست بإذنها أن تعودي
إلى أن يقول:
وقد جمدت مجاري الدمع ذعرا
فاسخن الدموع عن الجمود
على وعد الحبيب رقدن أمنا
فنغص غمضها حول الوعيد
فأطبقت الشفاه على شفاه
وحدبت القدود على القدود
هلا قبل الوداع وفيك رمز
يفسر للمسرة بالنكود
دعت فنعت فمنسوق ودمع
وفي زجل البكا زجل النشيد
تجردت القرينة عن قرين
وودعت الوحيدة للوحيد
فيا جبل الجليد ولست ارسي
فتكت وكيف بالجبل الحديد
وما اصطدمت جسوم في جسوم
بل اصطدمت جدود في جدود
أما قصيدة الشيخ محمد رضا الشبيبي (ت1965) ،فقد علق عليها الأب الكرملي: درية المباني، عصرية المعاني، تستنزل كل شاعر في الميدان، وتعجزه عن المجاراة في مثل هذا البيان ،كذا فليكن الشعر المتين، وفي مثله فليتنافس المتنافسون. وقد وصف الشبيبي الباخرة وهي تتحطم فتتحطم معها آمال ولهفات وأشواق، ويسميها ابنة البحر، وعلل غرقها ان أباها البحر اشتاق إليها، فضمها إلى صدره. ووصف الباخرة أنها لم تلتفت إلى الأوامر، فوقعت في شر غرورها، فهي مليكة البحر لجمالها وعظمتها .
بابيك اسم يا ابنة البحر الذي
واراك كيف رأيت فتك أبيك
ما حط ثقلك في حشاه إهانة
لكنه فرط احتفال فيك
أبكيت اهلك لا الجزائر وحدها
فالعالمون جميعهم أهلوك
إلى أن يقول:
امليكة البحر اسمعي لك أسوة
في الأرض كم ثلت عروش ملوك
أنى ينجيك الحديد وما نجوا
بأشد من فولاذك المسبوك
يا بابل البحر الخضم سحرتنا
سحرا أرى هاروت في تيتنيك
زعموا ضللت ولو أردت هداية
كان المحيط بنفسه هاديك
ومما جاء في قصيدة إبراهيم منيب الباججي (ت1948) وقد نشرها في ديوانه المطبوع ببغداد عام 1912، فهو وصف لشكلها وضخامتها وصفاتها المميزة. وعندما سارت بخيلاء لم تدر أن القدر كان ينتظرها ،فهي مدينة متنقلة فوق الماء ، فصادفها القدر وهو جبل الجليد وأغرقها.
سرت والبدر في افق السماء
يسارييها بأجنحة الضياء
سبوح تزدري بالبدر زهوا
منورة بنور الكهرباء
زها بلدة مادت فسارت
بأهلها على تيار ماء
تقل من الورى جما غفيرا
ولا تشكو مقاساة العناء
أتاها تحت طي الماء طود
يطوف من الجليد على عماء
وأغرقها بمن فيها سوى من
توصل بالسلامة للنجاء

إلى أن يقول:
وافجع منظر إذ ذاك فيها
خشوع للرجال وللنساء
على قصد الوداع لغير عهد
بتسليم إلى حكم القضاء
بترديد البكاء ولا مجيب
سوى عكس الصدى من ذا البكاء
وصوت من لسان الحال يلقي
على الأسماع من كلم العزاء
(اتيتانيك) لا يحزنك عيش
ترنق فانقضى بعد الصفاء
فلا عيش يدوم ولا صفاء
وهل بعد الحياة سوى الفناء
حاشية : كثيرا ما كان وصف البواخر لدى الأدباء العرب يدور حول اهوال البحر وصور الطبيعة واحوال الركاب . وقدرة هذه الواسطة على مقارعة الامواج العاتية وهي تشق عباب البحار والمحيطات كانها جبال شامخة تمخر فوق المياه .ومن الشعراء العراقيين الذين وصفوا الباخرة عبد الغفار الاخرس وسماها مركب الدخان ، وذلك في رحلته العلاجية الى الهند .
كما وصفها عبد المحسن الكاظمي عندما اقلته من الخليج العربي إلى مصر عام 1899. ولا ننسى هنا قصائد الشعراء في الباخرة البريطانية (فاير فلاي) التي أغرقها الثوار في ثورة العشرين في الكوفة.