جيمس فيلكس جونز صاحب أشهر خارطة لبغداد سنة 1853

جيمس فيلكس جونز صاحب أشهر خارطة لبغداد سنة 1853


■ علي أبو الطحين
قضى ضابط البحرية البريطانية في الهند، جيمس فيلكس جونز، أكثر من خمسة عشر عاماً من العمل في العراق، من سنة 1840 وحتى سنة 1855، أجرى خلالها العديد من المسوحات والأستكشافات الجغرافية في الأنهر والمدن العراقية، تكللّت بجموعة رائعة من الخرائط والرسومات والبحوث عن العراق. وأصبحجونز القنصل البريطاني العام في بغداد، لمدة قصيرة في ربيع سنة 1855، قبل مغادرته العراق ليصبح القنصل البريطاني على عموم الخليج في مدينة بوشهر الإيرانية، من سنة 1855 وحتى سنة 1862.

ولد جيمس فيلكس جونز في دائرة شورديتش، من مقاطعة ميدلسكس في جنوب لندن، في الخامس من أيلول سنة 1813. تطوع،وما زال شابا صغيرا،للخدمة في البحرية،والعمل في شركة الهند الشرقية في بومبي، في الثامن من شباط 1828. وأصبح مرشح ضابط بحري Midshipman،قبل ان يبلغ الخامسة عشر من عمره،في 14 حزيران سنة 1828. ترقى جونز الى ضابط ملازم بحري في سنة 1837، ومن ثم الى قائد بحري في سنة 1847، واخيراً الى نقيب بحري في سنة 1858.
نسب جونز للعمل تحت قيادة روبرت مورسبي، لأجراء المسوحات البحرية للبحر الأحمر من سنة 1829 وحتى 1834. وبعد بضعة سنوات قضاها في مسوحات حول جزر سيلان ، انتقلبعدها الى الخليج العربي ، حيث عمل في مسح موانئ وجزر الكويت في اواخر سنة 1839، قبل أن يعين لقيادة الباخرة "نيتوكرس"،لأجراء المسوحات والملاحة النهرية في العراق منذآيار سنة 1840.
في سنة 1839، قررت القوات البحرية البريطانية في الهند،بناء ثلاث بواخر جديدة،مصنوعة من الحديد،ومزودة بمدفع محوري طويل عيار 9 رطل، لأستخدامها في أنهار العراق. تم صناعة هذه البواخر في مدينة ليفربول، وثم نقلت مجزئة إلى مدينة البصرة، حيث نصبت هذه السفن،في ربيع سنة 1840. سميت الباخرة الآولى، "آشوريا"، ووضعت تحت قيادة الملازم كامبل، والثانية، "نيتوكرس"، وهو اسم لملكة بابلية، وكانت تحت قيادة الملازم فيلكس جونز، أما الثالثة، فسميت "نمرود"، ووضعت بقيادة الملازم ﮔراوند. وكانت الباخرة "الفرات"، بقيادة الملازم مايكل لنج، تستخدم في أنهار العراق، منذ حملة جيسني لاستكشاف الفرات سنة 1836.
إضافة إلى المساهمة بنقل البريد بين البصرة وبغداد ، كانت البواخر المذكورة تقوم باعمال المسوحات في نهر الفرات من المنابع وحتى المصب في الخليج،في تلك الفترة، حتى صيف سنة 1842. وفي السنوات بين 1842 وحتى 1846، رابطة الباخرة "نيتوكرس"، تحت قيادة جونز،في نهر دجلة، حيث قام بالعديد من الرحلات، منطلقا من بغداد إلى المناطق المحيطة، لوضع المسوحات الجغرافية لهذه الأراضي. ووضع جونز،عدة تقارير عن تلك الرحلاتوالمسوحات، في الدوريات الجغرافية البريطانية والهندية.
في آب من سنة 1844، رافق فيلكس جونز ، المقيم البريطاني في بغداد الرائد رولنسون، في رحلة لمدة شهرين، لاستطلاع المناطق المتنازع عليها على الحدود التركية – الفارسية، وذلك إستجابة لطلب السفير البريطاني في إسطنبول.بعد عودتهما إلى بغداد، وضعا خارطة لتلك المنطقة المستكشفة،لتساعد لجنة ترسيم الحدود بين الدولتين،التي أنهت أعمالها في توقيع معاهدة أرضروم الثانية، في سنة 1847. وضع جونز مقالة مفصلة للأماكن التي زارها في هذه الرحلة، وتم طبعها في سنة 1849. وفي مجلة الجمعية الجعرافية الملكية في لندن، وضع جونز تقريراً عن رحلته في الباخرة " نيتوكرس"،إلى شمال بغداد في نيسان سنة 1846، فيها وصف لجميع الأماكن المهمة في الرحلة. ونشرت مجلة الجمعية الجغرافية الملكية في بومبي، مجموعة من تقارير فيلكس جونزعن العراق، في مجلداتها الثامن والتاسع والعاشر والثاني عشر ، في السنوات بين 1849 الى 1856. وقد قامت حكومة الهند البريطانية، بجمع هذه التقارير المهمة، وأصدرتها في كتاب تحت عنوان، "مذكرات قائد البحرية جيمس فيلكس جونز " وطبعت في بومبي في مطبعة الجمعية التربوية سنة 1857. وتضمن الكتاب المقالة التي وضعها جونز بعنوان، "مذكرة عن ولاية بغداد "، وأرفقت معها خارطة بغداد الملونة، والمفصلة، التي ساهم الملازم كولينغوود بوضعها مع جونز. وأصبح هذا الكتاب، من الكتب العراقية النادرة.لقدعرضت عدة نسخة من هذا الكتاب للبيع، خلال العشرين سنة الأخيرة في مزادات الكتب العالمية، كان آخرها، في الشهر الماضي، في مزاد سوثبيز في لندن، حيث وصل سعر الكتاب إلى أكثر من 10 ألاف دولار أمريكي.
تعتبر خارطة جونز وكولينغوود، التي وضعت في سنة 1853، من أهم خرائط بغداد التاريخية،لما تحتويه من تفاصيل دقيقة لمحلات بغداد وابنيتها العامة من جوامع وخانات ودوائر الدولة، وحتى بيوت الشخصيات المهمة في بغداد. وكان الملازم كولينغوود قد ذكر بأنه قام بنفسه بوضع هذه التفاصيل، بجولات مسح ميدانية لجميع شوارع وأزقة بغداد، وبشكل سري، بعيداً عن مراقبة الأتراك،وذلك بوضع الملاحظات على أردان قميصه الأبيض، مستخدما قلم الرصاص.
ومن الخرائط الأخرى المهمة التي وضعها جونز ، هي خرائط نينوى، في سنة 1852، وتتكون من ثلاث خرائط كبيرة ملونة، أبعاد كل خارطة أكثر من 125 سم X 75 سم. فيها تفاصيل واسعة لمحافظة نينوى،ولمدينة الموصل، من دور العبادة والأماكن الأخرى مهمة، مع مفتاح في ذيل الخارطة. وكان جونز، قد أعد ثلاث خرائط آخرى،مفصلة عن بابل،تشمل المناطق من المسيب وحتى بحر النجف، لكن هذه الخرائط، ضاعت في لندن ولم يعثر عليها حتى اليوم. وحتى قبل وفاته بأيام، كان جونز، يعمل على إنجاز خارطة كبيرة مفصلة عن بلاد الرافدين.
ساهم انتقال فيلكس جونز، من بغداد إلى بوشهر ،في سنة 1855،بشكل مؤثرفي أحداث سنة 1856 في الخليج. فبعد تدخل إيران في مدينة هيرات الأفغانية، قامت القوات البريطانية في الهند بحملة العسكرية على بلاد فارس. فكان لوجود جونز، وخبرته في المنطقة،امر حاسم لقيام القوات البريطانية باحتلال مدينة بوشهر في نهاية سنة 1856، ومن ثم احتلال مدينة المحمرة على شط العرب،وبعدها الأحواز في ربيع سنة 1857، حتى توقيع معاهدة السلام بين بريطانيا وإيران في باريس في نيسان سنة 1857.
في سنة 1862 طلب جونز إجازة مرضية طويلة للراحة في بريطانيا، لكن ما أن وصل إلى هناك حتى تم تنسيبه للعمل في امداد خط التلغرافبين الهند والعراق عبر الخليج، فلم يكن هناك شخص مؤهل بخبرته الكبيرة في العراق والخليج ومعرفته باللغتين العربية والفارسية أضافة إلى علاقته بالقبائل في المنطقة، ليقوم بهذه المهمة. وفي غيابه كانت حكومة الهند قد عينت الضابط لويس بيللي بديلاً عنهكقنصل في مدينة بوشهر، وحين عاد جونز إلى بومبي في شباط 1863، لم يجد له عملاً، فالبحرية الهندية كانت قد حلت، وخدمته المدنية قد أنتهت بعد خمسة وثلاثين سنة من الخدمة العامة، وكل ما استطاع الحصول عليه، هو تعويض برواتب تسعة شهور من راتب القنصلية، لم تكن تكفي حتى لنقل عائلته ومتاعهإلى بريطانيا.
تزوج فيلكس جونز خلال أقامته في بغداد من فتاة أرمنية أسمها صوفي تاكوهي مراد، عمتهايوفيمي مرادخان كانت زوجة أنطوان زفوبودا، تاجر البلور المعروف في بغداد في زمن الوالي داود باشا. ولدت صوفي مراد في بغداد في سنة 1834 وتزوجت من فيلكس جونز في 8 كانون الأول 1853، وكانت أبنتهم البكر لويزا قد ولدت في 13 كانون الأول 1853، أي بعد خمسة أيام من الزواج، مما يشير إلى أن الطفلة كانت من علاقة غير شرعية. وكان لجونز طفلة أخرى كما يبدو من علاقة غير شرعية سابقة، وأسمها فيليسيا، ولدت في بغداد في سنة 1849، كان يناديها الجميع بأسم " كشمش". ويبدو أن جونز لم يشأ أن يعطي اسم أمها، فلم يذكر أسم الآم في سجلاتهم الرسميةعند عودتهم إلى بريطانيا. بعد أنتقالهم إلى بوشهرولد ابنهم فيلكس سنة 1856 وابنتهم صوفي سنة 1859، أما ابنهم الأخير فينويك فولد في لندن في سنة 1865.
توفي جيمس فيلكس جونز في الثالث من أيلول سنة 1878، قبل يومين فقط من بلوغه 65 من عمره، وذكر في شهادة وفاته تدهور حالته الصحية بسبب مرض الاسهال. أما زوجته صوفي فقد عاشت لتبلغ الثالث والتسعين مع عمرها حين توفت في مدينة كرويدن في جنوب لندن سنة 1927.
ويبدو أن كتب فيلكس جونز وبضمنها اوراقه وخرائطه تم بيعها في مزاد في لندن بعد وفاة زوجته صوفي مراد. فقبل بضعة سنوات حصلت على خرائط جونز عن نينوى من أحد الأشخاص في سويسرا، واستغربت حين وصلتني الخرائط بأنها موقعة من قبل فيلكس جونز بقلم الحبر بتاريخ 15 تموز 1852، بينما تاريخ طباعة الخرائط 1855، وعند سؤالي عن هذا الأمر ، أخبرني البائع أن جونز أشار إلى هذا الالتباس في دفتر مذكراته التي كانت بحوزة جده. علمت حينها أن جد البائع كان قد أشترى اوراق وخرائط جونز من المزاد في لندن في اواخر العشرينيات، واغلبها ما زال محفوظاً في خزانة في مدينة جنيف، ووعدني بمعلومات عنها لكنه لم يف بوعده.