بنية الكتابة.. الواقعية والمتخيَّل في قصص (كائن الفردوس)

بنية الكتابة.. الواقعية والمتخيَّل في قصص (كائن الفردوس)

علي لفته سعيد
قيل بأن القصة القصيرة تمتلك التماسك والسمو، لأنها من الممكن أن تكون ذات تأثير فعال على القارئ.. فهي تحمل من العاطفة والتلقائية والوضوح والغموض الفني سمة من سمات جوهرها، وصياغتها..خاصة إذا ما كانت تعتمد على الواقعية من خلال المحسوسات والانطباعات الحسية القابلة لظهور معناها بعد فهم المغزى.


ولأن الواقع هو المصدر الثر للقاص مهما اختلفت طريقة تناوله لهذا الواقع.. فإن المرجعيات العامة والذاتية تتناغم مع الموهبة وتنسكب في القالب القصصي لإنتاج وحدتها المندمجة المقنعة للقارئ..عندها سيكون الواقع هو المدار الذي تدور حوله كواكب الأفكار،ما دامت القصة هي (حاجة فكرية وإنسانية ترتبط عموما بنوعية الحياة التي تعرضها).
في مجموعة القاص علي حسين عبيد الأولى الصادرة حديثا عن دار الشؤون الثقافية العامة عام 2001..نلاحظ هيمنة الواقع على أدواته الارتكازية لبناء عالمه القصصي..مهما حاول تغليف ذلك بشيء من النزوح عندما يجعل عناوينه تأخذ طابعا أكثر انتشارا وحدّة في بناء تأويلاتها على اساس المتخيَّل الفني.. لأن الواقع سيكون هو المحرك للعوامل الداخلية..فتبدو القصص محكومة بنوازع ذاتية أثرت على الخيال لأن يكون هو القوة.. عناوين مثل (تفاحة البحر/ تفاحة الخيال/ كائن الفردوس/ كتاب الكيذبان/ سيول الكلام/ نتوء الشيطان/ خديعة الماء/ تناسل الأسوار/ فضاءات الوهم)..تبدو كأنها تحمل المعنى ذاته في اختيار المفردات لصياغة العنوان،الذي أراده ان يكون مزاحا عن الواقع بقدر كافٍ ليؤكد جماليته وبالتالي يترك المهمة للقارئ لاكتشاف هذه الجملة من خلال المتن بأحداثه المسرودة.
إن بنية الكتابة في هذه المجموعة تبدو واحدة تماما بطريقة (التنظيم) الكتابي.. على الرغم من أن القصص كتبت على مدى أكثر من ثماني عشرة سنة، بدأت في سنة (1982) وانتهة في سنة (2000).. وهذا ما يؤكد أن لكل كاتب أسلوبه الخاص وروحته المذابة داخل النص.. تبدأ القصص باستهلال وصفي وبمستوى إخباري.. وفي هذا المستوى يحاول القاص أن يعطي وصفاً لما يحيط بالشخصية أو الحدث (حسب فكرة القصة)..فيسبغ عليها الكثير من الأفعال..وأن جمله القصصية،جمل فعلية حتى لكأنها جزء لا يتجزأ من السرد..وهنا كان تحميل الفعل بوصفه دلالة بقوة زائدة افقدت توازن شرط الإندفاع في السرد..وقد عبّرت هذه الأفعال عن الإرتباط في التحويل بين وحدات الزمن وكذلك دمج المستويات التصويرية للمرجعيات الخاصة بالشخصية مع المستوى الإخباري،متناً طويلاً أخذ على عاتقه السير في المكان ذاته المحدد المعالم.. وهذا المستوى هو المسؤول عن إيضاح العلائق بين الراوي والشخصية من جهة واختيار الملفوظات وأسبابها من جهة أخرى، ليبدو السرد واقعيا استل من أمام الجميع.. لكنهم لم يروه.. لأنها مرجعيات خاصة، استلهمت من الطفولة ذاكرة ومن الخرب مكاناً ومن الخيال زماناً ومن التمني هدفا..وما بين جمله الفعلية في هذا المستوى يكون موقع الأسئلة منوطاً باستنباط الإجابة بسبر أغوار الشخصية من الداخل..فتكون الإجابة من لدن الراوي العليم المسيطر على سير الأحداث والأخذ بيدها للوصول الى النهاية المغلقة على قصديه مبيّتة تنتج تأويلاً منتظراً ومرتبطاً بالعنوان دليلاً أوليا وبالاستهلال دالاً للقصدية المبنيّة.
ولأن الاستهلال جاء بتنظيم حركة الشخصية المحورية كان لابد أن يقوم القص بإنتاج تخليق لمتن فنطازي أو رمزي، يكون مرافقا للشخصية من أجل تصعيد الصراع القصصي الى ذروته وكذلك يكون التخليق الجديد الذي يقع دائما في منتصف القصة عبارة عن محاولة للتعبير عن دخائل الشخصية وما يعتريها من ارهاصات، قام الزمن باحداثها..فتكون الرؤية قد اعتمدت على حركتين منطلقتين في آن واحد، حركة الشخصية الصاعدة وحركة المتن المخلّق ومن ثم ترك القارئ لأن يفك الرموز الواقعة بين واقعية الشخصية وشفرات ما قام القاص بتخليفه، ما دامت وحدات الزمن واحدة متصاعدة تسير الأحداث للوصول الى القصدية المعتمدة كما قلنا على تقشير العنوان بدلالته الواقعية شفرة قادمة ودلالته التعبيرية عنوانا يحتوي العمل بطريقة الأناقة المقبولة لإدهاش منتظَر. وإذا ما استثنينا قصة (نتوء الشيطان) من مراحل التداخل الزمني التي اعتمدت عليها واقعة ممتدة ما قبل الحرب وبعدها والتي تمنينا ان تكون المجموعة تحمل عنوانها لما لها من قدرة على الامساك بالخيوط السردية بأناقة وقدرة ولغة قادرة على الوصول بكل ابعادها التأويلية.. فإن القصص الاخرى جميعا تتجه الى نهاية المستوى الاخباري ذاته، بجمله الفعلية، والإصرار على تكرار (بعض) الأحداث في المتن السردي.. فإن النهاية التي لابد أن تصل الى خطها تكون عبارة عن توحد الشخصية الواقعية مع التخليق الخارج من معطف التخيل الذي تعتمد عليه القصة في إبداء التماسك والإرتكاز والعاطفة.. ليكون الإثنان واحدا..وبالتالي فإن القصدية قد صنعت نفسها وانفتحت على التأويل مستوى أخيرا على أساس الاعتراف بما جرى على صعيد واقع لابد من تصديقه.
إن مجموعة (كائن الفردوس) بقصصها الاثنتي عشرة حاولت أن ترتكز على الواقع بكل ما اختزنه القاص من قراءات ومتابعات وتأملات وقد شكلت حسنة للقاص في اختياره الواقع بطريقة تنمّي الخيال وهنا ما اقصده.. أفكار القصص التي سينشغل القارئ معها في متابعة خيوط الفكرة للوصول الى النهاية.