مفهوم الخيال ومديات التعابر في الفن والأدب والمسرح

مفهوم الخيال ومديات التعابر في الفن والأدب والمسرح

قراءة: د.شاكر عبد العظيم
ربما يعد الخيال تمثيلا مجازيا للواقع، وربما تأويلا له او منح الواقع سعة عالية كفضاء مغلق يفتح آفاقه ومدياته الخيال، وربما يشكل الخيال ضربا لقانونه وقيوده التي تحدد الإبداع وتسيجه، وقد يكون الخيال أساسا لكل إبداع بكونه يستظهر الجمال الذي قد لا نجده في الواقع، الا انه قد يثبت ان ثمة إشكاليه في الأفق حين نريد دراساته وتحديد أسسه ومنطلقاته،

وهذا ناتج من الاختلاف حول ماهيته وأطره وإيجاد معاني تحقق ذلك، وهو امر قد اقف بالضد منه فتحديده يعني التعامل معه كتعاملنا مع الواقع، وذلك ما يوجد في الشغل مع الواقع، فالواقع عياني، واضح، يمكن تحديه لأنه مادي موجود، ونعيشه ويمتلك تطوره الزمكاني، من هنا فقد حلق العديد من المثقفين وأهل الأدب والفن والفكر بمكونات الواقع وهو يمدهم بالكثير من الرؤى والأفكار والدراسات والقضايا المتنوعة في كل المناحي، إلا أن التحليق (وضعه تحت مجهر الدراسة) مع نقيضه أمر يعد إشكالية. لان الخيال يمكن تحويل جزء منه إلى واقع لكنه يبقى محلقا وغير محدود ونسبي مع الأفكار.
في كتابه (الخيال) كان الدكتور علي محمد هادي الربيعي* يعرف بجدارة اين يضع المعلومة ذات الفائدة العلمية والتي تعمل على ترصين أسس البناء الفكري لموضوعة من اهم موضوعات الفلسفة والادب والفن، بل وربما أنها موضوعة من المواضيع التي تشكل أهمية قد تتفوق على مفهوم الواقع نفسه، لان الخيال والواقع يشكلان ثنائية متضادة، متلاحمة. فنجد ان الربيعي يتناوله عبر بداياته الصحيحة المرتبطة بالجمال النابع من الرؤى الفلسفية ومن ثم ينتقل الى الرؤى الادبية وبعدها الفنية، وهي خارطة علمية صحيحة بلا ادنى شك، فبدايات النظرة العلمية الى مفهوم الخيال قد نشأت مع الفلسفة، وإن لم يشار الى ذلك بصراحة، الا انه حاضرا وبقوة. وعمل على استطلع وجهات نظر غالية الثمن ومهمة ابتداء من افلاطون (الفن والشعر محاكاة لمحاكاة او صورة لصورة متخيلة تبتعد عن عالم المثل بدرجتين مضيفا اليها الفنان من عواطفه وخياله ومشاعره الكثير) وانه قد الغى اي دور للخيال في بعض اغراض الشعر لارتباطها باثارة الرغبة والشهوة والغضب بدل ان يكبح جماحها، وارسطو (الخيال: حركة ناشئة عن الاحساس، والادراك والاحساس اصلا الخيال، وان مفردة الحركة تدل على ان الخيال عملية حركية)، ويجد افلوطين ان مهمة الفنان الاجادة في ان يصل ببصيرته وخياله الى النفاذ الى المصدر العلوي للجمال، وذلك لارتباط فلسفة (افلوطين) بالجوانب الصوفية، الا ان (عمانوئيل كانت) لايجد الاحساس مصدر الخيال، فالخيال لديه عنصر يسهم بتكوين العالم ولا غنى للانسان عنه فيرى (ان ملكة الخيال ضرورة هامة واساسية في جميع عمليات المعرفة)، و الالماني (فخته) الذي تقوم فلسفته على (الخيال المنتج) وهو ما يعمل على تقديم صورة الاشياء التي يخيل للانسان انها موجودة في الخارج، وكل مرة تنطلق فيها فاعلية الذات تصطدم بحاجز الخيال المنتج ومن ثم تعود الى نفسها ثانية، فينتقل لمرحلة الإدراك الحسي التي تفرق فيها الذات بين نفسها وبين الشيء الذي تشعر به وتحسه وآخر المراحل هو التأمل المجرد والذي عبره يصل الإنسان الى شعور كامل بذاته.
ولما كان الخيال عند (شلنج) قوة سامية، وان الفن يعتمد الخيال أساسا، وان ملكة الخيال هي القوة التي تجمع الصور من الطبيعة وتعيد تنظيمها والتوفيق بين متناقضاتها بحيث يتوحد المتفرق في الطبيعة، نجد ان (هوسرل) يؤكد ان الفينومينولوجيا، متأسسه على التعامل مع الصور الشعرية في كينونتها الخاصة، وفي حالة قطيعة مع وجود سابق، وهي تهيء قدرة الخيال على استقبال الصور الجديدة التي تقدمها الصور في حالتها الراهنة، بيد ان (هنري برغسون) لا يجد ثمة علاقة بين الجمالية والنفعية، فكلما ابتعد الفنان عن النظرة النفعية اقترب من الروحية وكان أكثر إبداعا، لذلك فهو يتعبر ان جمال الطبيعة سابق لجمال الفن، في حين يرى (كروتشة) الايطالي ان الفن هو (الحدس) لكن (باشلار) تقوم أراءه في الخيال على مبدأ (خيال الحركة او الخيال الدينامي) وبهذا يستطيع الفنان المبدع ان يحول بفضل كيمياء الخيال ابسط الاشياء الى عالم مدهش ورائع، مرورا بهيدغر وسارتر، ينتقل الكتاب في فصله الثاني حيث الخيال في الفلسفة العربية والاسلامية ويستطلع آراء (الفارابي) فقد وجد الفآرابي ان الشعر (قول متخيل)، ثم (ابن سينا) و(الغزالي) وصولا الى (ابن عربي) الذي يرى (ان الوجود خيالي وصور الاشياء التي يظهرها الحس ثابته، في حين ان الصور في حالة تحول وتبدل وهدم وبناء مع تدفق لحظات الزمن)، وبالانتقال الى فصل الكتاب الثالث والمتعلق بالخيال في الخطاب النفسي، نجد ان ثمة فوائد للخيال ووظائف وانواع ، ونخلص الى ان الابداع هي عملية استعداد نفسي وذهني بطريق شعوري أو بدونه، وان الصور والمعاني التي نتخيلها هي نتاج قراءة سابقة وتأملات كامنة في خزانة الذاكرة.
اما الفصل الرابع فعلاقة الخيال بالمذاهب الادبية والفنية كان مهما جدا، فالكلاسيكية (العقل مصدر الوضوح والقدرة على تحديد المعاني)، اما علاقة الرومانسية بالخيال، فتعني طَرق آفاق الروح والميتافيزيقي بجسارة في سياق خطاب مكثف عن طريق الخيال والبصيرة الملهمة، والواقعية لا تحفل بالخيال، فالواقع من اجل المجتمع والجماهير العريضة والرمزية تشكل انعكاسا للمطلق (غير المرئي) وهو ما لا يوصف بشكل مباشر ما يقتضي نظام من الرموز الموجزة والخيال الخصب والجمال الذي يعني انعكاسا للجمال العلوي النوراني ، لذا يكون العالم المحسوس عبارة عن غابة من الرموز، ونجد التعبيرية تتأثث وفق البواطن النفسية /الذاتية العميقة داخل نفس الإنسان وتستظهرها عبر، لاوعي، احلام، تداعيات، يمثل الخيال اساسا فاعلا فيها. بينما يتمظهر الخيال في العالم السريالي بواسطة البحث عن ومضات شعرية، حلمية، صور وكلمات مشحونة بالألغاز وهذا ما جاء عبر اعتماد الحرية والخيال كمنطلق اساسي.
وجاء في الفصل الخامس اعتماد الخطاب النقدي العالمي والعربي والإسلامي، وعلاقته بالخيال،ويحضر هنا (الانكليزي وليم وردزوورث)، و(كوليردج) والاخير قسم الخيال الى: اولي يمتلكه عوام الناس وثانوي يختص بالمبدعين والفنانين والشعراء ومال الى ذلك، وكذلك صاحب كتاب مباديء النقد الادبي (ارمسترونغ ريتشاردز)، مرورا بالفرنسي (بول ريكور) الذي اثمرت نظريته في استثمار إمكانيات التأويل والخيال في صياغة المعالجات اللغوية ومن ثم بلورة المعطى المعرفي عنده. وتتمثل نظرية (حازم القرطاجني الاندلسي) في الخيال والتخييل ونظرية الاستجابة. حتى ندخل الفصلين المهمين الاخيرين وهما: الخيال في المسرح، والخيال في خطاب المسرح العراقي.الذي يتتبع فيهما المؤلف علاقة الخيال بالمسرح ابتداءا بالمدونة (النص) وانتهاءا باخر مفردات العرض المسرحي (عادة مايوصف ابداع المسرحي على اساس قدرته التخييلية) و(الخطاب المسرحي يتأسس على مفهومات الخيال والتخييل والتخيل وكل مفهوم منها له دور في العملية الابداعية الساعية لتأثيث صور الخطاب المسرحي (السمعي /المرئي) وفي خطاب المسرح العراقي وتتبع مدياته التأسيسية منذ البدايات الاولى ومخرجيه الرواد والعاملين فيه بشتى صنوفهم فضلا عن التحقيبات العَقْدية يجد الؤلف ان المعاملين في المسرح العراقي (لاسيما المخرجين) قد سعوا الى تقصي علاقة جسد الممثل بنوعية الفضاء وتشكلاته (المتحركة /الثابتة) في كل لحظات العرض من اجل منظور اشمل لتنفيذ الصورة الخيالية، ومن هنا اخذ الخيال مدى واسع بعد عقد السبعينات من القرن الماضي عبر تفنن المسرحيين العراقيين بواسطة رسم الشخصيات او اختيار اللغة او الفكرة المتناولة وهي مرحلة تأسيس جديد يعتمد الخيال وثمة نماذج يذكرها المؤلف كثيرة لتدعيم اراءه، وثمة نماذج من مسرحيات يأخذها بالتحيلي والدرس وفيها يحقق حقيقية وتمثلات افكار متن الكتاب، منها (مكبث، أيام ذاهبة، منزل شاعر وعرض مسرحية نار من السماء).
كان الربيعي في هذا الكتاب محققا وباحثا ودارسا وناقدا وواصفا وساعيا وراء المعلومة التاريخية التي البسها رداء الحقيقية والصدق دون مواربة او زيف، إذ غاص في أكثر من مصدر ومرجع وشهود أحياء، الا انه في كل هذا لم يغادر او يركن آراءه الشخصية، فهو حاضر بشخصيته العلمية الناضجة، كما لم يغب عن وعيه خطورة هذا الحضور في هذه المهمة التي قام بها. وأؤكد هنا ان هذا الكتاب يجب ان يكول في كل مكتبة لأهميته البالغة للمشتغلين في الفلسفة والادب والفن.

-------------------
الناقد والباحث الدكتور (علي محمد الربيعي) وهو ناقد وباحث عراقي من الحلة له العديد من المقالات والدراسات المنشورة في صحف ومجلات عراقية /عربية وله العديد من الإصدارات من اهمها: (تاريخ المسرح في الحلة في جزءين)و(محمد مهدي البصير رائد المسرح التحريضي في العراق).(المسرحيات المفقودة (دراسة ونصوص)عن الكاتب المسرحي العراقي (نعوم فتح الله سحار).(اسكندر زغبي الاعمى (زجالا ومسرحيا).و كتاب (ـالخيال في الفلسفة والأدب والمسرح.)