رباعيات الخيام.. فلسفة عشق وتأملات حياة

رباعيات الخيام.. فلسفة عشق وتأملات حياة

فريد نعمة
سارت قافلة من محبي شعر عمر الخيام وما أكثرهم لتزور ضريحه في نيسابور. وقد حملت باقتين من الورود البيضاء، باقة من طرفة أبي العبد، تهتف ورودها:
«ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى/ وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي»، وباقة من أبي تمام، تردد ورودها: «غير مجد في ملتي واعتقادي/ نوح باك ولا ترنم شادي»،

وما كادت القاقلة تقطع الميل الأول، حتى توقفت على نداء إيليا أبي ماضي «جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت/ ولقد أبصرت قُدامي طريقاً فمشيت»..
ومن العجب أننا نستطيع أن نختزل رباعيات الخيام في هذه الباقات الثلاث، لأنها تأملات تخطر على بال الإنسان حيثما حلّ وأنّى وجد، حول الحياة والموت والعدم، تقدم تساؤلات مضنية تحركه طالما يحمل في نفسه هاجس الشك والتوق إلى اليقين، كما أنها فلسفة عشق في وجدانياتها الشعرية.
تساؤلات
وأول هذه التساؤلات يدور حول علة الوجود والغاية من مجيء الإنسان إلى الدنيا: «لبست ثوب العيش لم أستشر/ وحرت فيه بين شتى الفكر».
فالحياة قصيرة والإنسان يجري في عروقه ماء الفناء وفي روحه لهيب الشقاء: «سرت بجسمي الغض ماء الفناء/ وسار في روحي لهيب الشقاء»، فما الذي ينقذ الإنسان من قهر الزمن وفاجعة الموت؟
لا شيء غير الحاضر وكأس وأنغام ووجه صبيح»، فالماضي ميت والمستقبل في ظهر الغيب: «أين النديم السمح أين الصبوح/ فقد أمضى الهم قلبي الجريح"وكذلك «لا تشغل البال بماضي الزمان/ ولا بآت العيش قبل الآوان». إذن أين المفر وكل تلك الملذات سبب العذاب والألم؟ لا شيء غير الزهد والإمساك عن الشهوات المكدرة لصفاء الروح: «زخارف الدنيا أساس الألم/ وطالب الدنيا نديم الندم».
متناقضات ثرية
وهكذا تتوالى الرباعيات كأنها حوار أو صراع بالحجة والمنطق بين ثنائيات مُتعددة ومُتقابلات في بحث النفس البشرية عن الكمال، بين نقيضين، البطل والخصم، المؤمن والملحد، الزاهد والوجودي، والأبيقوري والأفلاطوني. رباعية تضعنا في المسجد ورباعية تضعنا في الحانة، تارة تدعونا الى العبادة وتارة الى الطرب، طورا تشدنا الى الملذات وطورا تشدنا بالعفة، مرة تغوينا بالعشق الجسدي ومرة تسمو الى الحب الإلهي. وبين هذا وذاك، نسمع نغمات كئيبة ومتشائمة ترثي وتندب الذات البشرية:
«الدهر لا يعطي الذي نأمل/ وفي سبيل اليأس ما نعمل»، أو نسمع «موالاً» يرقص مع فتاة الحانة وكأس الخمر: «أولى بهذا القلب أن يخفقا/ وفي ضرام العشق أن يحرقا»، وتستمر الرباعيات على هذا المنوال الى أن يتلاشى أحدهما ويندمج في الآخر، عندئذ يصل الخيام الى اليقين ويتكسر عقله وشكوكه المتلاطمة على شاطىء الإيمان.
ونسمعه يقول بصوت أم كلثوم وترجمة أحمد رامي: «يا من يحار الفهم في قدرتك/ وتطلب النفس حمى طاعتك/ أسكرني الإثم ولكنني/ صحوت بالآمال في رحمتك/ إن لم أكن أخلصت في طاعتك/ فإنني أطمع في رحمتك».
الرباعيات والمجتمع
وإن عشقت روح الخيام الجمال عشق الفراشة للنور، وانتشت بالصهباء لتتحرر وتدرك كنه الأمور، فإنها لم تستطع إغفال المعايب ونقائض عصرها وخاصة الرياء والتمسك بالقشور وإهمال الجوهر: «نلبس بين الناس ثوب الرياء/ ونحن في قبضة كف القضاء»، ودعا الى الحسنة وصفاء القلوب ومسامحة الأصحاب والأعداء: «أحسن الى الأعداء والأصدقاء/ فإنما أنس القلوب الصفاء».
أدب الرباعيات
نتج عن تعدد الرؤى في «رباعيات الخيام"أن تمدد الأساطير حولها، وظهر ما يُسمى بـ«أدب الرباعيات"في معظم لغات العالم، كما ظهر ما يُسمى بـ«جمهور الخيام"وشعار «على مبدأ الخيام»، فأبدع الفنانون في رسم تلك الرباعيات وتلحينها وتغنّى المطربون والمطربات بها واقتبسها رجال السينما والتلفزيون.
رموز
أثنى المتصوفون الذين جاؤوا بعد الخيام على الرباعيات ووجدوها تعج بالمعاني والرموز الصوفية، فتناقلوها واستشهدوا بها. وإذا بالخيام الذي يحث على النهل من مباهج الحياة وملذاتها، يحث على التعبد والقناعة والزهد. وليست تلك المباهج برؤيتهم غير رموز: الروض يرمز إلى الدنيا، وخد الحسناء الى الحقيقة، والخمرة إلى ماء الحياة، وأنغام العود الى التناغم الأزلي في الوجود، والجداول والأنهار ترمز الى الجنة.
ويرى الكثير من النقاد أن ترجمة أحمد رامي لرباعيات الخيام فاقت النص الأصلي جمالاً، لكن لايخلو هذا القول من إجحاف لجماليات الرباعيات وسلاسة أفكارها الأم.
نادي الخيام
الشاعر الإنجليزي ادوارد فيتزجيرالد، أحد الذين تدين له الرباعيات بالشهرة العالمية ويدين لها بالشهرة أيضاً، فهو أول من ترجمها عن الفارسية الى الانكليزية ومن الانكليزية تُرجمت الى بقية لغات العالم. وقد أسس نادياً في لندن سماه «نادي الخيام»، ثم قام مع عدد من محبي شعره بزيارة ضريحه في نيسابور، وأحضر معه وردة من حول الضريح وزرعها في النادي في لندن.
نقد
تعرضت الرباعيات الى النقد الحاد واتهم بعض المفكرين ورجال الدين عمر الخيام بالزندقة والمجون وقالوا: «إن رباعياته تحمل دعوة للكفر والفساد وتبني مبدأ اللذة في أحط مظاهره». لكن غيرهم قالوا: «لم تُسجل في الكتب التاريخية الموثوقة أي رباعية من تلك الرباعيات الخليعة المستنكرة، وإنما ورد عدد من الرباعيات كلها تدل على عبقرية الخيام وإيمانه وتقاه وحسن سلوكه».
2009
الكاتب والأديب محمد صالح القرق قدم ترجمة عربية لرباعيات الخيام، واحتفى بيت الشعر في دبي في أمسية خيامية بامتياز بهذه الترجمة، على هامش مهرجان دبي الدولي للشعر 2009، ونوعت السهرة احتفاءها بالرباعيات في أكثر من جانب، إذ قدمت المطربة السورية سهير شقير بمصاحبة فرقة موسيقية من حلب «الرباعيات"التي غنتها أم كلثوم، فيما كان الحضور على موعد أيضاً مع التشكيل والمقتنيات النادرة ذات الصلة بالخيام.
206
رباعيات الخيام مُنعت من التداول في عصرها، فحافظ عليها تلاميذ الخيام ونسخوها ووزعوها سرا، ثم أضافوا إليها ما أضافوا. ومثلهم فعل الشعراء والمفكرين المؤيدين للفلسة الوجودية والأبيقورية.
يضاف الى ذلك أن المترجمين لها شعرا أم نثرا، تفاعلوا معها وأضافوا اليها. وقد أدى هذا الى تدوال أكثر من ألف رباعية باسمه، علما أن أقدم مجموعة تحتوي على 206 رباعيات وهناك 158 رباعية في النسخة المحفوظة في مكتبة بودلين في أوكسفورد. وفي هذا الخصوص، أثبت الباحث الروسي شكوفسكي أن اثنين وثمانين منها واردة في دواوين غيره من الشعراء وهم: فريد الدين العطار وحافظ وجلال الدين الرومي وابن سينا والفردوسي والأنوري وعبدالله الأنصاري.