مهدي عيسى الصقر .. صانع الحكايات

مهدي عيسى الصقر .. صانع الحكايات

علي حسين
لم يكن بين طموحات مهدي عيسى الصقر ان يكون قاصاً برغم انه ادمن في طفولته وشبابه a الروايات البوليسية التي كانت اجاثا كريستي بارعة في نسجها في اربعينيات القرن الماضي.. الى جانب انه كان لظروف اسرية

قد عاش مع جدته وكانت امرأة بارعة في رواية الحكايات التي دارت وتدور في مدينته الاثيرة البصرة.
ولظروف تتعلق بالمعيشية لم يستطع مهدي الصقر من ان يكمل دراسته فانخرط ليواجه العالم بائعا للقماش اقصى حدود طموحاته ان يوفر رزقاً لعائلته وان يستقطع جزءاً من وقته للانكباب على هوايته الاثيرة القراءة .. وشيئا فشيئا تحولت هذه القراءات الى رغبة ملحة في تجربة كتابة القصة القصيرة ذلك ان شيئاً في داخله راح ينفض عن نفسه الغبار ويكشف عن مادة قصصية لاتنفد. فقد منحه العمل مع الناس والارتباط بهمومهم معرفة بالموضوعات الاجتماعية التي يتناولها وبالمناخ الداخلي لشخوصه والمحيط الذي يتحركون فيه وزادته قراءاته الواسعة حساً دقيقاً بشاعرية اللغة التي يستخدمها.. وهكذا من محاولة الى اخرى ادرك الصقر ان الكتابة هي عالمه الجديد وان في دواخله تموج مواد قصصية لاتنفد وان القصة يمكن لها ان تكون سلاحاً ناجحاً في محاربة التخلف والجهل .. ولم يمض وقت طويل حتى نجده ينشر قصته الاولى (( الرجل المجنون)) عام 1948 وكانت هذه القصة تنبئ بميلاد قاص عراقي جديد ومحاولة جادة لتقديم المدينة الجنوبية على حقيقتها .. لدرجة ان بدر شاكر السياب يتحمس لهذا القاص الشاب ويشجعه على الاستمرار ولم يمض وقت طويل حتى كانت القصة الثانية ( الطبيب الخافر) بين يدي السياب واذا بتلك القصتين تشكلان علامات جديدة بارزة في عالم الادب العراقي انذاك .. واذا بهما الى جانب محاولات غائب طعمة فرمان وشاكر خصباك وعبد الملك نوري وفؤاد التكرلي ايذاناً بولادة جيل من الكتاب يسعى لتقديم صورة حقيقية عن واقع المجتمع العراقي وكشف الزيف المحيط به . .. وتبلغ حماسة السياب ذروتها حين يدفع صديقه القاص الى نشر اولى مجموعاته القصصية فكان ان اصدر مجموعة (مجرمون طيبون) عام 1954 عن رابطة (الفن المعاصر ) وهي رابطة كان للسياب والبريكان وعدد من مثقفي بغداد الفضل في تاسيسها. .

***

مجموعاته القصصية الاولى (مجرمون طيبون ) (غضب المدينة )التي صدرت في اواخر خمسينيات القرن الماضي كانت بالفعل شيئا متميزا ومختلفا عن التيار الوصفي الذي كانت تتسم به القصة العراقية انذاك وكان هذا التطور متناغماَ مع الجو السياسي والثقافي الذي ساد الشارع العراقي .. كما ان النجاح الذي حققه غائب طعمة فرمان وعبد الملك نوري في قصصهما قد اغرتا العديد من الكتاب بالابحار على مراكب الواقعية الجديدة.. وهي الواقعية التي تغوص في حياة الناس من موظفين صغار وحرفيين ومضطهدين ومنبوذين الا ان مهدي الصقر ما برح ان توجه بزورقه الى اتجاه اخر اتجاه يقربه من الواقعية التعبيرية المتمثلة بطاقة شعرية حيث اضاف الى قدرته في التقاط الموضوع وزاوية الرؤية للاحداث ذخيرة ثقافية قوية واستفادة واضحة في تذوق الادب العالمي الذي انكب على قراءته باللغات الثلاث التي يجيدها الانكليزية والفرنسية والالمانية. وتكشف قصصه التي نشرت فيما بعد في مجموعة (حيرة سيد عجوز) التي عاد بها بعد صمت قارب العشرين عاما بان الكاتب امتلك ً ناصية الكتابة الجديدة وتنبئ بان الصقر قد عرف جيداً كيف تكتب القصة الحديثة المستوفية لشروط بنائها المعماري ..وتنبئ ايضا بان الصقر ملم بالتيارات الادبية السائدة في العالم ولديه خبرة بمنجزات المع الكتاب في الادب العالمي كما تنبئنا بان عزلة العشرين عاما جعلت الصقر ينزل بحمولته الثقافية الثقيلة الى حقل القصة القصيرة وهكذا وجدنا انفسنا امام قصص ذات لون واقعي جديد انها واقعية ما وراء الواقع . واقعية ما قبل الحدث الدرامي وما بعده..واقعية تكشف لنا عن القوى الاجتماعية والاقتصادية التي جعلت ابطال هذه القصص يعيشون في عزلة رغم انهم يتقاسمون مكانا واحدا.. واقعية تقدم لنا الواقع الصارم في صور فنية تكشف الواقع وكواليسه السرية من خلال صوت صاحب الحكايات..ذلك الصوت المفعم بالانفعال والدهشة .. لقد اتجه الصقر في قصصه الجديدة هذه الى تطوير اسلوبه القصصي وتخليه عن المباشرة في الطرح ليقدم لنا عالما رحبا واسعا يطل على الواقع الذي انغمس فيه بكل ابعاده .. الصمت.. السكون .. الشوق .الى الناس.. والحب .. وهو لايترك تفصيلة صغيرة من دون ان يصفها او يخبرنا كيف يراها بل كيف يحاورها.. قصص لاتخفي شيئا ولكنها لاتفصح عن نفسها بسهولة ..قصص ذات نفس واضح ولكنه شديد في الوقت نفسه .
لقد نثر مهدي الصقر على ارضية القصة العراقية عالماً باسره.. دنيا مزدحمة بالاسماء والشخصيات وقدر هائل من الحكايات خاض الصقر في غمار ابداعها بقوة ساندها ارث من الثقافة فضلا عن رهافة الحس والموهبة العالية

* * *

بين مؤلفات الصقر الروائية ( الشاهدة والزنجي ، اشواق طائر الليل ، صراخ النوارس ، الشاطئ الثاني ، رياح شرقية وغربية ، امرأة الغائب ، بيت على نهر دجلة ) اتوقف عند روايته الاخيرة - الشهادة -( بيت على نهر دجلة ) لسببين:
الاول لانها رواية مرتبطة مباشرة بجو الحرب الذي خيم على العراق عقودا طويلة والثاني لانها عمل روائي نموذجي يجسد معنى المكاشفة والبوح.
فنحن امام عمل كتب كله في رأيي من خلال الصوت الواحد ومن خلال استرجاعات واستلهامات متوالية لبطلته (ساهرة) وحتى مشاركة الاصوات الاخرى فقد جاءت من خلال علاقة -ساهرة- بكل واحد منها وفي اطار رؤيتها وروايتها للاحداث
لقد عمد الصقر في هذه الرواية الى الامساك بعدة خيوط صعبة في ان واحد وتحريكها على عدة مستويات متضاربة من اجل تحقيق حالة وحدة المتناقضات في سياق عمل روائي شديد البساطة لكنه شديد التركيب في الوقت نفسه ليطلق لنا صرخة عميقة تشرخ قلبه وقلوبنا .هذه الحكاية الطويلة التي سماها رواية والتي ينطلق فيها صوت ساهرة في عدة حالات بين اللمس والصراخ هي بمثابة تجسيد لروح مسحوقة قرر الصقر من خلالها ان يلقي في وجه الجميع بشهادته الاخيرة مهما كانت هذه الشهادة مؤلمة .
لقد مضت ساهرة عبر (طابور) من الرجال ( الزوج- الاخ- الابن-الشرطي -المحقق- الطبيب ) وكانها منقادة الى قدرها باستمرار طارحة امامنا خليطا من الرؤى عن عالم مليء بالفواجع والخيانات والجنون . عالم يشير من خلاله الروائي وبمنتهى القسوة باصابع الاتهام الى زمن الحروب القذرة والى جذور الكراهية التي نمت بين الناس .. كاشفا بمنتهى الصدق عن وجع العراقيين مسقطاً القناع عن بشاعات غطينا عيوننا كي لانراها او نعترف بها .. بيت على نهر دجلة رواية تبدو مثل قوس قزح في سماء مليئة بالغبار. . رواية تشير باصابع الاتهام الى الجاني الحقيقي الذي دفع بهذه البلاد الغافية على حافة النهر الى حافة الخراب .. الا انه في الوقت نفسه ينبئ بان القادم اكثر خراباً وبؤساً .
(وتقفز ساهرة من السرير وتفتح الباب وتركض الى غرفة ابنها . ترى فراشه خاليا . وباب الدار مشرعة . واضواء الحرائق تنير سماء المدينة.

* * *

لقد كان مهدي عيسى الصقر واحدا من الذين شكلوا وجداننا وذائقتنا الفنية .. واحدا من القادرين في سطورهم على اختزال وتلخيص هموم الناس وتطلعاتهم .. واحدا من جيل الثقافة العراقية الوطنية . .هذا الجيل الذي انتقل بالادب من الصالونات الى الشارع .. جيل الحلم الكبير.. جيل لم يكن يريد ان يفلت منه شيء من دون ان يكون طرفا حاضرا في ساحته مشهرا سهامه واضافته حتى وان كانت هذه الاسهام .. مجرد حكايات..