شيءٌ عن الزهاوي

شيءٌ عن الزهاوي

■ عزرا حداد
يندر ان شهد الشرق العربي خلال نهضته الادبية الحديثة شاعرا اتسم بطابع العصر الذي عاش فيه وارتبط تفكيره ارتباطا محكما بالمحيط الذي شب فيه وترعرع مثل شاعرنا الجليل الراحل جميل صدقي الزهاوي ، فقد يجد البعض في شعره حبا عامرا بالعواطف فياضا بالاحساس الرقيق ، وقد يفهم البعض من قصائده فلسفة عالية و مواعظ سامية .

لكن هذا الشعر على اختلاف موضوعاته وتباين نزعاته سوف يبقى ابدا سجلا ناطقا وصورة واضحة جلية للعصر الذي عاش فيه الزهاوي ، وتاريخا جامعا للحوادث و التطورات الساسية والعلمية والاجتماعية التي شهدها شاعرنا الكبير خلال هذه الحقبة الطويلة من السنين التي قدر ان يعيشها فوق الغبراء .
انما يخلد الشاعر باثاره . وهذه الاثار قليلة كانت ام كثيرة لا تكون لها ميزة الخلود ان لم تكن تعبر تعبيرا صادقا صحيحا عن روح العصر ونفسية اهله ووجهة نظرهم و محيطهم و ثقافتهم .فما كان دانتي وفرجيل في عهد الرينسانس الاوروبي و شكسبير و ملتون في العصر الاليزابثي ، وراسين و كورني و هوغوفي النهضة الفرنسية الحديثة ، وغيته وهيردر ولسنغ في دور اليقظة الالمانية الادبية فان كلا من هؤلاء الشعراء افحول قد انطبع بطابع عصره محيطه و تاثر بروح مجتمعه و نفسية مواطنيه ، فكان صدى امته الواضح و لسانها الفصيح الناطق الذي يعبر عن آلامها و آمالها ، يبكي لبكائها و يشدو بسعدها و امجادها ، فاصبح له الذكر التليد و الاثر الخالد.
في هذا العدد من الحاصد دراسات عديدة لنواحي متنوعة لشعر الزهاوي و كلها تدل على ان شاعرنا الكبير كان جد متاثر بالمحيط الذي وجد فيه و عقلية ابناء الجيل الذي عاش بينهم ،انما كان له نظر ثاقب و قلب حساس اشبه شيء باللوحة الفوطوغرافية ارتسمت عليها حوادث نصف القرن الاخير الذي توالت فيه على الشرق الادنى الحوادث الجسام .
وسوف نحاول ان نلم في هذا المقال المامة بسيطة بالانقلابات السياسية التي شهدها الزهاوي في حياته ومدى تاثيره على تفكيره وشعره . فقد دخل هذا الشاعر معترك الحياة العملية في شرخ شبابه وعنفوان قوته و كله آمال في ان يخدم البلاد التي ولد فيها و الدولة التي ينتمي اليها يومئذ بقدر ما تسمح له عبقريته و مكانته في الهيئة الاجتماعية فاذا به يرى الطغيان الحميدي بالغا اقصى درجات التعسف و الضغط والاستبداد ضاربا اطنابه في كافة انحاء المملكة العثمانية فالافكار مكبلة و الحرية مسلوبة و الاحرار متشردون تزدحم بهم المنافي و السجون .فيضيق ذرعا في هذه الحال المؤسفة التي يرى عليه بلاده في عصر تكامل الحياة الديمقراطية في سائر ممالك العالم . فاذا بشعره يندفع كالسيل الجارف بوجه الاستبداد الذي يجنح اليه خليفة باسم المنصب الديني الخطير الذي يتمتع به فيقول:
لقد عبثت بالشعب اطماع ظالم
يحمله من جوره ما يحمل
فيا وبح قوم فوضوا امر نفسهم
الى ملك عن فعله ليس يسال
ايأمر ظل الله في ارضه بما
نهى الله في عنه و الكتاب المنزل ؟
و يثير الشعر الجريء عليه حفيظة اعوان الرجعية و صناع الطغيان ، فينقلون اقوال الشاعر الثائر الى مقام السلطان حميد ، ويرى الزهاوي نفسه محاطا بالجواسيس ترمقه عيون الرقابة في غدواته و روحاته فيعجب من شعب يستسلم الى مثل هذا التعسف و لا يغضب لكرامته واسترجاع حريته المسلوبة فيقول متالما :
لا تلومي على البكاء حزينا
قومه اخضوضعوا لحكم العداة
لا يري ثورة لهم قد تميط
الضر عنهم و تذهب الويلات
و تمر اعوام وتتعاقب سنون ، وينال الزهاوي شيئا غير قليل من الارهاق من جراء هذه الجرأة الادبية التي تجلت في شعره لكن ذلك لم يكن لينال من شكيمته و انما كان يرقب في الافق البعيد تباشير الحركة الدستورية و يسمع هدير الثورة التي توشك ان تنفض صواعقها على عرش السلطان عبد الحميد فتدكه دكا ، فيرسل هذا القول الذي فيه شي غير قليل من معاني الانذار و التشفي :
تمهل قليلا لا تغظ امة اذا
تأجج فيها الغيظ لا تتمهل
و ايديك ان طالت فلا تغترر بها
فان يد الايام منهن اطول
و تحقق الايام ظنه ، فيزل السلطان عبد الحميد عن عرشه و تستريح العباد من طغيانه و تعسفه . لقد انعشت الثورة الدستورية سنة 1908 م ميت آلامال في صدور ابناء المملكة العثمانية و جعلتهم يتطلعون الى مستقبل بعين الاطمئنان لما تبدى من غيرة الاتحاديين على افساح المجال لحرية الشعب بكل معانيها و مراميها و يهتز شاعرنا الكبير بنشوة من الطرب و الحبور في مطلع هذا العهد الجديد فيقول :
قد كانت العين قبل اليوم باكية
من الاسى و هي تبكي اليوم من طرب
البرق اهدى لنا بشرى بها هدأت
ارواحنا بعد طول الخوف والرهب
و يبسم الزمان لزهاوينا الكبير ويتذوق طعم الحياة الدستورية التي بشر بها الاتحاديون فاذا به نائبا في مجلس المبعوثان العثماني يتغنى بالعدل و ينشد للحرية بقوله :
ارى العدالة يا قلبي الكثيب وقت
بوعدها وهي كل السؤال والحاج
اشر علي وقل من اين الثمها
امن ترائبها ام طرفها الساحبي
غير انه لم يلبث بعد ذلك ان شاهد تنكر الاتحاديين الاتراك للاخوانه ابناء الامة العربية و دأبهم على مناوأتهم و محاربة عنصريتهم ولغتهم و ثقافتهم . فيدرك ان امال العرب التي كانوا يعلقونها على الثورة الاتحادية قد خابت ، وان بلاد العثمانية على عهد الدستور و ليست باحسن منها على عهد الطغيان الحميدي بالنسبة لحقوق العرب، فيشتد كربه وتضيق به آفاقه ويقول :
ابن عزي في دولة الاتراك
انا مما فقدته انا باك
و تتوتر علاقته مع الاتحاديين من جراء هذه الصراحة المتناهية التي يبديها في قصائده ضد حكومتهم ، ولكن ذلك لم يكن ليثنيه عن مبادئه وعن مطالبته بحقوق العرب . فقد اعلنت الحرب العالمية وشرع جمال باشا السفاح ينصب المشانق لاحرار العرب في دمشق و بيروت ثارت اشجان شاعرنا الجليل ، وقد كان بين الشهداء الكثير من احبائه و زملائه في الشعر و الادب ، فانشد في تلك الحوادث الدامية قصيدته العصماء " النائحة التي مطلعها
على كل عود صاحب و خليل
و في كل بيت رنة وعويل
ويدخل العراق تحت سيطرة الانكليز و يضرب الحكم العسكري اطنابه في البلاد فاذا بالزهاوي الكبير سامت يرقب الاحوال عن كثب ، حتى اذا ما اخذت النفوس الاحرار تتململ ولاحت تباشير الثورة العراقية في الافق ، عاد هذا البلبل الغريد الى الانشاد ، لاثارة روح النخوة و الحماس في قلوب وطنه :
ياايدي الظلم شلي ويا بلاد استقلي
ويا رجاء تعزز و يامصاعب ذلي
ثم استمع اليه و هو يرثي الابطال ابطال الثورة العراقية وشهداءها بقصيدته العصماء التي مطلعها :
ماذا بضاحية الرميثة من غطارفة جحاجح
فلما تم ما كان يبتغيه الشعب العراقي واعلن استقلال البلاد في ظل عرش المغفور له الملك فيصل ، كان الزهاوي فم البلاد الناطق و قلبها الخافق . فلم تكن ثم مناسبة الا وله فيها قصائد عصماء .
وقد ظل الزهاوي خلال هذه الحقبة من السنين التي استعرضناه فيها ينظم في الحوداث العالمية المهمة و الاكتشافات العلمية والسياسية الدولية . فقد نظم زلزال اليابان و عصبة الامم و اديسون و الكهرباء و لندبرغ . خلاصة القول انه كان المرآة الصافية التي تنعكس عليها تطورات العالم خلال نصف القرن الاخير . فلا بدع اذا كانت فجيعة الادب العربي به مما لا يعوض ، رحمة الله رحمات واسعة .
مجلة الحاصد 1935
العدد الخاص بالزهاوي