أم كلثوم: الغياب المستحيل والمؤسسة الوجدانية

أم كلثوم: الغياب المستحيل والمؤسسة الوجدانية

عادل الهاشمي
مع ام كلثوم يكون الغناء بالدرجة الاولى فعلا من افعال الاكتراث. انه توغل سعيد الاكتشاف في الطوايا الخفية عن الوجدان وهي تتعامل مع فنها بجدية نابعة عن الشخصية القوية لكن المتعاطفة، وعن الهيمنة على كل شيء من كلمات ولحن وجمهور هيمنة متزاوجة مع الحب الذي تتناول به كل شيء من كلمات ولحن وجمهور.

لم يكن اداء ام كلثوم في غالبيته تكسرات الوجع في الخاصرة ولا تهويشات الصبية في الشوارع ولا رقصا هينا كهز البطن ولو ان عبد الوهاب الذي الف لها ا قل اغانيها جودة مثل انت عمري وهذه ليلتي استوحى مع الاسف جو هز البطن وزاد ذلك جناية ان وضع لها موسيقى كريهة سمجة ملأى بالتكلف والمراهقة الشائخة اخطر انواع المراهقة.

ولنعد الى ام كلثوم الاصيلة، ام كلثوم (ياللي كان يشجيك انيني) و (الاهات) و (الحلم) و (الاطلال) والاعاجيب الاخرى. انها تبرهن هنا على الندرة والاستثناء في تاريخ الفن حيث تكون عبقرية الاداء بحد ذاتها انجازا ابداعيا فالمعتاد ان الذين يقومون باداء الحان غيرهم كمغنيين او اقوال غيرهم كممثلين انما ينالون مكانتهم الفريدة ممن هم اكبر منهم فمن يكون جون كيلكد ولورانيس اوليفييه لولا شكسبير ومن يكون كاروزووجيلي لولا اوبرات فيردي وبوتشيني والشيء نفسه يصدق على المغنيين العظام الذين تخصصوا باوبرات فاغنر مثل لورينز ميلكيور وكيرستين فلاكشتاد، ذلك ان كل هؤلاء ليسوا اكثر من اقمار تدور حول افلاك كبيرة عاكسة نورا لا ينبع منها بصورة مباشرة. غير ان ام كلثوم وهي مؤسسة موسيقية ومؤسسة وجدانية معا، يدور حولها التأليف الموسيقي واهبة الذين لحنوا لها مسوغات وجودهم، ولا استثني منهم حتى افضلهم واعظمهم ف ينظري وهو زكريا احمد الذي فهم شيئين فهما مخبولا بالمحبة المتزنة ايقاعا وهذان الشيئان هما امكانيات الموسيقى الشرقية الخالصة وامكانيات صوت ام كلثوم ومن قراءته الذكية لهاتين الكتابتين الهيروغليفيتين استطاع ان يؤلف ما يقف في مصاف الاجمل بين الالحان شرقيها وغربيها.
توصف اشياء كثير بانها معجزة ويكون الوصف احيانا من قبيل التزويق للكلام المنطلق على عواهته او على السياسة المبالغة المباحة او جريا على تضخيم الشيء ليسهل تصديقه على قائله قبل سامعه. ولكننا اذا وصفنا صوت ام كلثوم بانه معجزة، فلا اعتقد اننا نسير على غرار ذلك. انه معجزة بسبب كونه اولا يحوز على اشد المتطلبات الجمالية دقة واعناتا من صفاء النبرة وعلو الطبقة والكفاية في الايصال بدون ميكروفون والنقاوة المطلقة في الذبذبات ابتداء من مستوى الهمس حتى نهاية مدى حنجرتها وكذلك طول ضبط التنفس خصوصا في اغاني الاربعينيات والخمسينيات حيث وصلت معها ام كلثوم الى غاية النضج في التعبير. ثم ان صوتها معجزة لانه لا يستطاع مجاراته او تقليده فهو اداء منته في كل اداء، اداء لا يقبل الاعادة لا من قبل الاخرين فهذا امر مستحيل ولكنه لا يقبل الاعادة حتى من قبل ام كلثوم نفسها فهي تقدم الاغنية الواحدة عديدا من المرات ولكن باداء مختلف الظلال ودقائق التشويه والتطريزات الصوتية بحيث تبهر الجمهور الذي يستمع اليها فكانه يستمع الى انبعاث جديد للاغنية التي كان يألفها منها. ثم ان صوت ام كلثوم معجزة بسبب ايحائه بالجو الذي تريد ام كلثوم ان ترسمه بكل ما في طاقاتها العجيبة على التمثل والتقمص والانجذاب. فاذا قالت كلمة الليل فانت في الليل، واذا نطقت اسم النيل فكأنك تمد يدك لتحسس مياه ذلك النهر الخالد، واذا قالت (هلت ليالي القمر) فقد انتشر لاءلاء القمر على صفحة الخيال ان يكن الخيال وثابا مشاركا، واذا تحدثت عن الشوق فاي معنى للشوق لا يوجد في مرسم حنجرتها المترامي الاطراف؟
*الكاتدرائية الرائعة:
ام كلثوم تستطيع احضار الاشياء والعلاقات التي بينها واحضار الصور والاوصاف وتدرجات معانيها بذلك الصوت الخلوق من عدة تيارات فعلى السطح يمنح المتعة العاجلة التي يريدها المستمع المسرع، وفي طبقة ابعد هناك النشوة المتمهلة وفي الطبقات الابعد من بحرها الصوتي يتشكل اللؤلؤ في اصداف تتكاثر مع كل غوصة تغوص بها تلك الحنجرة لاعماق الكلمات وما تحمله من دلالات عاطفية.
بسبب الجو الذي يعيشه مجتمعنا الشرقي فان موضوع ام كلثوم كان على الاغلب موضوع (الحب المستحيل) وقد تجيء اجيال بعدنا ترى ان الحب المستحيل بصفته هما قد صار من اثار الاجداد المتحجرة. غير اني اميل الى الوثوق بان تلك الاجيال لن تكون من الجمود بحيث تهدم كاتدرائية رائعة كصوت ام كلثوم فالكاتدرائيات تحمل اليوم حتى لغير المتدينين ادهاشا معماريا. لم يعد الحب في الغرب يمثل استحالة حب تريستان وايزولده ومع ذلك فان اوبرا فاغنر بهذا الاسم والتي تسمع اليوم اكثر مما سمعت في اي يوم ربما تجاوزت موضوعها المستحيل وصارت تعلن عن جوهر الحب في ذلك الجريان الدموي في شرايين الاوركسترا والاصوات البشرية، ولا اظن ان العالم سيتجاوز ذلك مادام الوجه البشري يحمل عينين يسحرهما الحضور الاخر وما دام الزمان بوتقة تصهر اجسادنا وتصهر ماهو اقوى منا كالتوق والحنين والرغبة وتوكيد الذات وانكار الذات امام الفرد الذي يكون لتلك اللحظات او الايام او السنوات او العمر كله مختارا من الجنس البشري كله للدعوة الى المشاركة في الاشتعال ولا يريد ذلك الفرد المختار الاستجابة لتلك الدعوة.
ربما استطعنا الغاء كثير من الانكسار والخيبة والمذلة في الحب وربما تجاوزت هذه اللا ملموسية التي عاناها فنانو الانسانية خلال الحضارات السابقة، وربما صار فعل الحب بديلا عن الحب، ولكن كيف تستطيع الغاء حرية عدم الاستجابة بين طرفين احدهما فقط هو المحب والطرف الاخر كائن حر وحرية الثاني مصدر عذاب الاول كما ابان ذلك عدد من العباقرة في تصوير الوجدان واكتفي الان بذكر اثنين منهما هما بودلير وبروست. ستظل اغاني ام كلثوم، وهي لحسن الحظ باقية بفضل التسجيل كما تبقى الجبال والانهار ستظل معبرة عن شيء من هذا الذي يبقى من الحب بعد حل استحالاته الاجتماعية والطبقية كما يبقى شعر بوشكين وكيتمن وكما تبقى مدائح المتنبي في كافور بعد انتهاء نوعية العلاقة بين الشاعر والممدوح وسر البقاء في كل ذلك يكمن في بلوغ الانجاز مرتبة تعلو على مواضعات العصر فيما هي تنبثق عنها. انها امور تنبع من شروط زمانية ومكانية لتتمرد بفعل كمال داخلي على المكان والزمان مثلما تتمرد كي توجد بيننا حتى اليوم تلك الاطلال التي لا ندري اين تقع والتي وقف عليها النابغة اصيلانا يسائلها فميت جوابا وما بالربع من احد.
لست مقتنعا بما يقوله بعض الناس من ان كثيرا من الكلمات التي غنتها ام كلثوم ذات قيمة عظيمة، ذلك ان عظمة ام كلثوم الخالصة هي ان صوتها يلامس ذلك التراب الذي تتشكل منه كثير من تلك الكلمات السخيفة احيانا. فيحيله الى ذهب بسيمياء الابداع السحري. وهذا الامر ينطبق على كثير من المعجزات الفنية مثل اوبرا سوتسارت (الناي السحري) فكلاهما سخيف وانجازها جليل.
وصوت ام كلثوم الذي تغلغل في وجدان الملايين حبا ووجدا وتوقا غنى ايضا بقوة ومضاء وتوهج اناشيد هي الاقوى مثل (ثوار) و (يامجدنا) وحين نقول ان ام كلثوم كانت فنانة الشعب العربي فمعنى ذلك انها كالمبدعين الضخام تعني كل شيء لكل الناس مثلما يعني شكسبير كل شيء لكل الناس وكما يعني باخ وموتسارت وبيتهوفن كل شيء لكل الناس. وهناك فنانون اقل طغيانا واقل تشريعا للمشاعر والاحاسيس، فنانون موضوعيون يتموضعون في رقعة صغيرة من وجدان رقعة صغيرة من الناس. كانت ام كلثوم تجري شيئا من التنظيم في عواطف العرب اخطأ بعض الناس فيه فظنوه خطرا على الامة وذهب اخرون الى ان ام كلثوم مسؤولة عن النكبات والهزائم اما انا فاعتقد ان ام كلثوم تمثل جمالا هو احد العناصر التي يتكون منها جمال هذا الوطن وخير للوطن ان تكون فيه الوف بل ملايين الكيانات الجميلة مث صوت ام كلثوم من ان يكون فارغا منها لان ذلك اولا للحرص عليه والدفاع عنه بل الموت من اجله. نريد لهذا الوطن ان يكون جديد في كل شيء، في شوارعه وعلاقاته ومنتدياته، نريده وطنا مشحونا بالكينونة وام كلثوم احدى الكينونات في هذا الوطن. اما تحميلها عبء الهزائم فتفكير تهربي عن المشاكل وابراء الذات من طريق التخلص الهين. ان صوتها لا يطرب فقط وانما يفك الغازا ومتاهات الوجود، وما يتفجر عن حنجرتها يصير مطرا تعشوشب لهطلانه في الروح، ان الاصغاء الخلاق اليها عمل تطهيري كالذي يصفه ارسطو بشأن المسألة الاغريقية فنادرا ما تخرج من غير البال للتنفس عندما تسمع الكيفية التي يصنع بها الحرير في مثل: بقي يقول لي وان اقول له وخلصنا الكلام كله او: الموج يناغي النسيم يحكي له قصة هوانا، او انا لما اكون وياك هايم في بحر هواك والمألوف من هذه النجميات التي كانت ام كلثوم تعرف افضل من اي فنان عربي اخر كيفية تشكلها في قلادة وتلقيها هدايا انتصار فوق صدر الليل.
غناء الاحضار والوعي:
ارى ان المغنين نوعان فهناك مغنو الا؟؟؟؟ والوعي بالذات وهناك مغنو النوم ونسيان الذات، وام كلثوم من النوع الاول مهما يقل كارهوها القلائل انها تزيد من عمق الاحساس ومن ملموسية العالم حين تغني (سهران لوحدي) مثلا، يصير السهر والتوحيد موجودين وجودا موضوعيا من كلمات تصف حالة معينة الى بنيان ندخل فيه ونسكن ونلمس جدرانه ونفتح نوافذه ونرى منه الى الفضاء البعيد وحتى الظروف مثل معاك او معايا او ادوات الاستفهام مثل ليه وامتى تغدو عبر غناء ام كلثوم المجيد محملة بكل صميمية المعية او السؤال او الدهشة.
اما مغنو تغييب المعاني ونسيان الذات وضياع الحالة النفسية فيمسخونها الى كلمات جوقاء ثم يمينون الوعي بالعالم عن طريق اماتة الكلمات والمعاني.
كما ارى المغنيين من جهة اخرى ينقسمون في العالم الى نوعين فهناك مغنو مستوى الكاباريه وهناك مغنو مستوى المعبد. ام كلثوم من النوع الثاني حتى اذا غنت فوق كاباريه حقيقي وكل المغنيين العرب الاخرين تقريبا من مستوى الكاباريه حتى اذا غنوا في حرم او محراب. مغنو مستوى الكاباريه لا يحترمون مهنتهم وبالتالي لا يحترمون جمهورهم فهم لا يصقدون ان الغناء يمكن ان يكون قضية جدية وليس الجد انهم يبكون ذلك انهم يفعلون هذا كثيرا جدا ولكن الجد يكمن في التواصل المبدع وفي ادراك مهمة الحياة والايمان بان هذه المهمة لا تقل نبالة وعسرا عن الهمات الاخرى.
لكل فنان عظيم اسلوب في تدوير المعنى والدخول فيه ثم ربطه مع المعاني الاخرى ربطا عضويا، واود ان اخذ مثالا على ذلك من الموسيقى الكلاسيكية. حين نسمع ضربات البيانو الاولى في سوناتا بيتهوفن رقم 23 الملقبة بالاباسيوناتا لاول مرة نعرف على الفور اننا في حضور مع الجملة البيتهوفينية النابعة عن شخصيته ولو لم تستدر الجملة الموسيقية بعد كل تكوينها ثم تمتد الضربات امتدادا عضويا كأنه يسري في المكان لا في الزمان كما هو شأن الموسيقى ثم تتضح الفقرة بكامل تجسدها وتستشعر معها بلاغة الاحساس الذي استطاع ان يصوغها يمثل ذلك النسيج، انت مع تلك الموسيقى في مواجهة قولة تامة، في حضور مع نطق كامل وهكذا ام كلثوم (والفضل يعود ايضا الى الملحنين) فان دورانها على جزئيات المعنى من اجل الاحاطة بكليته تتضح بجلاء في اغانيها العظيمة، فما ابرع الطريقة التي يتحول بها صوتها من جملة (وافضل احبك من غير ما اقول) الى جملة (ايه اللي غير احوالك) اننا نجد هنا استدارة مذهلة ومثلها حين نقول (فضلت اعيش في قلوب الناس وكل عاشق قلبي معاه) الى الانتقالة البالغة الامتاع حين تقول (وسابولي الكاس) هذا وليس سوى ام كلثوم بوحدها من يستطيع ان يحيط بكل المدارات العاطفية الموجودة في اغنية (فات الميعاد) فبأي تدرج نفساني ومع اي تيار مشحون بالوجد تستحوذ ام كلثوم على المستمع الذكي وهي تزيح اسوار الصمت القائمة بين الناس وما ان تزيحها حتى يتكون بينهم نوع من اخاء خاص، اخاء موضوعه حب صوتها.تحدثت قبل حين عن الحب من وجهة نظر محدودة فلماذا ننظر اليه في نطاقه الضيق الشائع لغويا؟ الا يمكننا ان ننظر اليه في بعض الاحيان بفضل نيل ادائها ونقاوته على انه الحب الذي يذكره محي الدين بن عربي وابن الفارض والحلاج؟
ارجو ان لا اكون قد بخست ملحنيها اشياءهم وخصوصا اولئك الذين تفتقت قرائحهم، بوحي من حضورها ومتطلبات شخصيتها وطبيعة صوتها اللاشبيه له.
ومن افضل ما لديهم. ان زكريا احد والقبصجي والسنباطي والموجي وبليغ حمدي صاروا مع هذه الموسيقية العظيمة موسيقيين رائعين، ولم اذكر عبد الوهاب لاني اجد موسيقاه التي طوق بها ام كلثوم تشي في اغلب اجزائها بالعقم الابداعي الذي يعاني منه خلال الثلاثين سنة الاخيرة وبكل صراحة انا من الذين يكرهون موسيقى انت عمري وهذه ليلتي كراهية تحريم ولو ان الامر بيدي لمنعتهما اكراما لذكرى ام كلثوم وابقاء للجمال الثر، الذي فاض من حنجرتها الكريمة، من غير تلويث.
ان مجرد رؤية الرقص البشع الذي تؤديه سهير زكي على انغام هذه ليلتي الابشع ليحطم اعصابا فولاذية.
سيدة اليقظة:
حين تسافر مع ام كلثوم فانت لا تحتاج الى زاد كثير بل يكفي ان يكون لديك ضعف مقدس تجاه الكرم واذا تزودت بهذا الزاد البسيط فان مدها الرحيب الموجة يأخذك الى جزيرتها المأهولة باغنياتها الالف من هنا تعيد تواصلك بالعالم عن طريق محطات ارسال واستقبال ليست بعدد اغانيها بل بعدد كل الوافدين ولا تخش ازدحام الجزيرة بالحجاج فانها لا تضيق بالمحبين اذ هي ليست جزيرة بل كونا وهي لا تضيق الا بالكراهية والشح ونفلاق الوجدان وفي الجزيرة مستشفيات تحاول معالجة هذه المخلوقات الشوهاء ومن يستيأس من علاجه وتطريقه وتجميله وتخليد شبابه وحكمة قلبه فانه يحمل في سنه الليل بعيدا عن تلك الجنة الى الفيافي التي ينفى اليها مجذومو الشعور وغير الجميلين في النفس، الى حيث توجد مخلوقات غريبة ليست لها اذان ولا عيون ولا شفاه.
والامر المفرح ان تلك الجنة موجودة في منعطف كل زقاق وعند التقاء كل الشوارع وينفتح عليها كل شباك ولكن الرهيب المرعب في الامر ايضا ان الفيافي المقفرة موجودة في منعطف كل زقاق وعند التقاء كل الشوارع وينفتح عليها كل شباك انها الصحراء التي تتسرطن في القلب. الصحراء التي يكون فيها حكم ام كلثوم معصيا، الصحراء التي يهيم فيها العصاة وكل مفاخرهم انهم اقوى من ان يضعفوا امام سطوة الجمال، ولا يدرون انهم بتلك القوة المزعومة اضعف المخلوقات طرا، ولا يعلمون ان هناك ولاء يكون معه الانسان سيدا حقا وان هناك رفضا يفضى الى العبودية، واية عبودية اشنع من رفض الحياة عبر الموت فيها.
«نام الوجود من حواليه"وهل ينام الوجود الان في نومتك الاخيرة يا سيدة اليقظة، يا ا ميرة حكمت بكل ما فيك من لطافة ورهافة وتواصل مع الوجود والورد والمجد والحنان، حكمت على عيوننا بالسهر الجذلان حقبا من الزمان لن يجود بمثلها الزمان. وهل ينام النيل؟ الان فقط نعرف معنى الفراق الذي طالما انطلقت انوار صوتك ترسمه ولم ترسمه انذاك بهذه اللوعة كما يرسم اليوم. لا، لم يكن فراقا ذاك الذي كنت تتحدثين عنه وانت تعطين الوجود انفاسك الزكية.. تعطرين الليل بالفجر الذي كنت تحميلنه على الدوام في حنجرتك ذات الحضور الابهى. وكنت تكذبين علينا كذاب المحبين العذب اذ ما كنا قادرين على ان نجمع بين حضورك الماليء للساعات، حضورك المتفجر بالحب وبين الفراق والغياب.
فهلا كذبت علينا مرة اخرى يا رسولة الصدق.

مجلة الاذاعة والتلفزيون 1975