بواكير التحديث في العراق .. معوقات وتحديات تكشفها صحافة العهد العثماني

بواكير التحديث في العراق .. معوقات وتحديات تكشفها صحافة العهد العثماني

■ محمد جبار ابراهيم
كانت المشكلة المالية هي اهم المعوقات التي واجهت الوالي مدحت باشا في اصلاحاته ، واصبحت السبب في اجهاض وافشال وتحييد معظم مشروعاته مثل سكة حديد خانقين – بغداد – كربلاء سنة 1870 ، ومشروع القناة المائية سنة 1871 ، وبالطبع مشروع الطابو. لذا حاول مدحت باشا التغلب على معضلته هذه بوساطة بعض الوسائل غير المسبوقة مثل بيعه اسهم شركة ترامواي بغداد – الكاظمية الى الناس ،

او تهديمه معظم سور بغداد وبيع مواد بنائها لتغطية تكاليف اصلاحاته ، واعطى ثمن احجار هذا السور ما استحقه الجنود من اجور. ويبدو ان فعالية ذلك لم تكن مرضية ، فقد وصلت قيمة تكاليف الاصلاحات التي قام بانجازها خلال مدة ولايته الى ما يزيد عن ستة ملايين ليرة ذهبية عثمانية . والذي جاء مخالفاً لسياسة الباب العالي الرامية لزيادة كمية الاموال المرسلة اليه من واردات الولايات ومنها ولاية بغداد . وكانت قيمة الزيادة المطلوبة هذه المرة هي 24 الف كيس ، مما ادى الى استقالته من منصبه . وسبق ان ذكرت الزوراء في عدد اخر انه في العام 1878 انخفض عدد طلاب هذه المدرسة الى 23 طالبا فقط .
ونتيجة السياسة المالية الحكومية هذه ، اصاب الاهمال العديد من مشاريع مدحت باشا فقد ظلت بعض الابنية العامة تحت الانشاء دون ان يكتمل بناؤها . كما لم تستمر اصلاحاته البلدية الا لوقت قصير ، وانخفض عدد طلاب مدرسة الصنائع الى ستين طالبا في العام 1899 ، بعد ان افتتحت سنة 1871 بعدد 144 طالبا . وذلك بسبب ضعف ميزانية المعارف التي وصلت في احدى حالاتها عدم استطاعة ادارة المعارف ببغداد من دفع رواتب المعلمين لمدة خمسة اشهر عام 1909 ، لذا فان حركة بناء المدارس الحكومية التي بلغ عددها في نهاية العهد العثماني بمختلف مستوياتها وانواعها 228 مدرسة فقط ، كانت بطيئة وغير متناسبة مع عدد السكان فقد كانت بمعدل مدرسة واحدة لكل 12497 نسمة تقريبا .
ان ضعف الميزانية العامة للولايات العراقية كان مرتبطاً بسياسة الاستنزاف الحكومي لموارد الولايات المالية . لقد حرص الباب العالي على تحويل المبالغ الفائضة والمتجمعة لدى دوائر جباية الايرادات في الولايات الثلاث تحويلاً متزايداً . ذكر القنصل البريطاني العام ببغداد سنة 1875 بهذا الصدد ما يلي : "كانت مسكوكات ولاية بغداد تنفد تدريجياً ، حيث انها كانت ترسل فور جبايتها ذهباً الى استانبول" .
اما سبب السياسة هذه ، الازمة الاقتصادية التي كانت تعاني منها السلطة العثمانية المتمثلة بحجم الديون الهائلة وفوائدها المتزايدة عليها للدول الاوربية ، نتيجة حروبها المستمرة الخاسرة لا سيما حرب القرم (1853-1856) التي اضطرتها لاستدانة اول قروض كبيرة سنة 1854 ، والحرب الروسية العثمانية (1877-1878) والانفاق المرتفع لبلاط السلطان ، والافتقار الى خط فاصل واضح بين ميزانية الدولة وانفاق السلطان ، والآلية الفوضوية للنظام المالي والنقدي العثماني . وأصدرت السلطة العثمانية سنة 1840 بالعراق اول اوراقه النقدية . لكن سهولة تزويرها ، وعدم ثقة الناس بها اثر بشكل كبير على مستوى وطبيعة تداولها . والحكومة العثمانية نفسها لم تلجأ الى اصدار مثل هذا النوع من النقود الا كحل بديل مؤقت للازمات والمشاكل الاقتصادية التي نجمت عن الحروب والفوضى السياسية ، لذا فان تداولها توقف في العام 1862 . وكذلك بعد ثلاث سنوات من اصدارها مجدداً سنة 1879 ثم عاودت اصدارها للمرة الثالثة والأخيرة في العام 1915 .
بوسع المتتبع ان يجد مادة معبرة عن هذه المشكلات على صفحات جريدة "زوراء" فهي طالبت في اعدادها بزيادة المخصصات اللازمة للمعارف التي تضمنتها دعوتها السلطة العثمانية للاهتمام بنشر العلم والمعارف ، واحيانا انتقدت فتور الاخيرة واهمالها الفلاحين وعدم محاولتها التخفيف من وطأة الجهل المستشري فيهم مع انهم كانوا يمثلون غالبية المجتمع العراقي ، كما طالبت في هذا السياق بتأسيس مدرسة زراعية لتنويرهم "في مجال الزراعة على اسس علمية صحيحة" . بل ودعت الى تعليم المرأة ايضا .
ارتبط جزء مهم من سبب حماسة "زوراء" للتعليم بسيادة الامية في المجتمع العراقي والتي عملت على تحييد الطلب على اعدادها وصل الى درجة بحسب شهادة احد المثقفين من فئة الضباط العراقيين المعاصرين لها انها كانت "لا تباع في الاسواق ولا يعلم بها من الاهالي الا القليل" . والذي دفعها الى التشكي من عدم استيفائها اجور الكلفة ومن خسارتها المالية المستمرة ، مما اضطرها الى الاعتماد على مطبعة واحدة متهالكة بعد ان مرت عليها ثلاثون سنة ، بعد جلبها من قبل الوالي مدحت باشا في العام 1869 ، "والتي اخذت تصدأ" منذ سنة 1878 .
ومما يلفت النظر إن شغف المثقفين العراقيين لقراءة جريدة "زوراء" اخذ ينضب ، والظاهر ان الصحف والمجلات العربية بدأت تستقطب اذواقهم ، نظرا لان ظروفها الاجتماعية والسياسية سمحت لها بان يكون انتاجها في نظرهم اكثر واقعية وأشد جرأة . وقد اكد فيليب ويلارد ايرلاند بان الصحف العربية في مصر والولايات المتحدة تمتعت بانتشار واسع في الولايات العثمانية ، مع انها كانت ممنوعة من الدخول من قبل المسؤولين العثمانيين فانها كانت توزع عن طريق دوائر البريد الاجنبية .
حاولت جريدة "زوراء" ان تنبه السلطة العثمانية الى الاثر السيء الناتج عن التضييق على حرية الصحافة ، الامر الذي اخذت وتيرته تتصاعد منذ إنشاء لجنة للتفتيش والرقابة سنة 1881 ، نتيجة إعلان الاحكام العرفية ، مؤكدة ان ذلك يؤدي الى كساد مبيعات الصحف ، وبعد أن احتجت على ذلك اكدت انتفاء مبررات هذا الامر مع انتهاء الحرب مع روسيا (1877-1878) ، فقد آن الاوان لاعطاء الصحف" الحرية الكاملة في التعبير" حتى "ينتفع الجميع من ابناء الوطن وتُفسد اعمال الصحف الاخرى المغرضة" حسب تعبير "زوراء" نصاً ، وهي تقصد ، دون ريب ، الصحف غير العثمانية التي استفادت من الحرب تلك ، وقد تلهف الناس الى متابعة وقائعها ، خصوصاً وان عدد العراقيين الذين سيقوا إليها قد وصل الى حوالي عشرة الاف مجند هلك اكثرهم من شدة البرد والجوع.
تدني الطلب على اعداد "زوراء" دفعها الى تقليد بعض الصحف والمجلات العربية على قدر ما ساعدتها الظروف المحيطة ، فقد قامت بنشر القصص والاخبار ذات الطابع المثير زعمت بانها عن اناس حقيقيين ، بعضها كان مستمداً من اشاعات وفضائح المجتمع الغربي. وخلال عهد الاتحاديين (1908-1917) حرصت العديد من المجلات والجرائد العراقية على ترجمة الروايات والقصص ، ونشرها على صفحات أعدادها . وقد كانت مجلة "خردلة العلوم" البغدادية الصادرة سنة 1910 ، من اوائل المجلات التي اهتمت بالجانب الترفيهي والمسلي ، فقد افردت في صفحاتها باباً خاصاً بالروايات ، إذ نشرت في عددها الاول ، على سبيل المثال ، رواية بعنوان "فتاة بغداد" . واهتمت مجلة "الغرائب" البغدادية التي صدرت في العام 1911 بنشر غرائب الحوادث ، واعلنت عن نفسها بانها "مجلة فكاهية ذات روايات غرامية ووقائع تاريخية" .
وفي المضمار نفسه كتبت جريدة "صدى بابل" في افتتاحية عددها الاول ما يأتي : "... فننشر لهم المقالات السياسية ... والاخبار الخيالية والروايات الفكاهية ما يلذ سمعه وتلذ مطالعته ..." . مع ذلك فقد كان بعض هذه القصص والرويات المنشورة اقرب الى المقالة السياسية او الاجتماعية ، اي ان الاسلوب الترويجي فيها جاء ليخدم ايضا اهدافها ومضامينها الفكرية الاصلاحية في المجتمع.
قوَّم خير الدين العمري ، وهو ممن زاولوا العمل الصحفي في العهد العثماني ، تجربة الصحافة العراقية يومذاك قائلاً : "حاولت الصحف في العراق ان تنهض بشيء من العمل النافع ، فلم تفلح لان القراء كانوا قليلين ، فلم تنجح الصحافة العراقية في الدور العثماني اي نجاح" . ووصفت جريدة "العرب" البغدادية الصحف بالبضاعة الكاسدة ، والقراء بانهم اقل من القليل ، لدرجة أن اصبحت العادة لكل جريدة عندما تقرض صحيفة جديدة أن تدعو لها بالحياة الطويلة لئلا تكون كسابقتها في الاختفاء . ومن الجدير بالذكر إن رزوق عيسى صاحب مجلة "خردلة العلوم" المذكورة ، برر سبب اغلاقه لها بان سوق الادب كاسدة في العراق.
تزامنت مع إنكماش الطلب على الصحف والمجلات الدعوة الى تبسيط اللغة العربية الفصحى ، حتى ولو تطلب الامر استخدام محدود وفي نطاق ضيق للمفردات العامية القريبة من الفصحى للمساعدة في عرض بعض الافكار ، ووجوب التخفيف من اثقالها لكي تكون سلسلة التداول سهلة الفهم . اي حاول اصحاب الدعوة هذه الجمع بين حرفية الفصحى ومرونة العامية وتعميمها في المجتمع العراقي . وكان الشاعر جميل صدقي الزهاوي من بين المثقفين الذين التفتوا الى العامية والفصيحة إذ كتب مقالة بعنوان : "لغة الكتابة ووجوب اتحادها باللغة المحكية" في مجلة "المؤيد" المصرية سنة 1910 ، حاول ان يبين ضرورة تهذيب المفردات العامية لاتخاذها لغة الكتابة .
في المقابل عارض هذا الاتجاه العديد من أعلام العراقيين ، ابرزهم محمود شكري الالوسي الذي تولى رئاسة تحرير القسم العربي في جريدة "زوراء" خلال مدة حكم والي بغداد سري باشا (1890-1891) ، الذي وصفت الجريدة في عهده بانها بلغت شأوا راقيا في مستوى الكتابة "وفصحت لغتها ، وحصفت معانيها" .
عدّ المثقفون ان رغبتهم بتحقيق التطور الاجتماعي ومدى انكفاء قيود تقاليد المجتمع القديم التي تعيق حريتهم الفكرية كفتين لميزان واحد ، اي اعتبروهما اساسا عملية واحدة متكونة من فعل ورد فعل ، فلم تخرج انجازاتهم واعمالهم في مجال العلم والثقافة كثيرا عن هذا الاطار الفكري . لذلك اكد توفيق السويدي انه كانت من اهم الامور التي شغلت تفكيره في شبابه هي التقدم الاجتماعي ، والتحرر الفكري من القيود والتقاليد . كما انتقد ابراهيم حلمي العمر العادات والتقاليد ، واظهر انزعاجه من تسلطها الاجتماعي التي كانت السبب في " ... ما وصلت اليه حالة سكان العراق من التأخر والانحطاط ..." لذا اصبح من الضروري "... وجود طبقة من النابتة الحديثة تحاربها بكل قواها ، وتنشر الفضيلة بين السكان ، وتبين لهم اضرار هذه العادات...". ان حاجة المثقفين للحرية الفكرية هي التي وقفت وراء تبرمهم من القيود الاجتماعية التي اظهرها الرصافي في اشعاره ، وسآمتهم التي كشف عنها الزهاوي.
على سبيل المثال قال الرصافي:
متى تطلق الايام حرية الفكر
ويصدع كل بالحقيقة ناطقا
وينبسط العقل من عقلة الاسر
ويترك ما لم يدر منها لمن يدري
ولان اهم المعوقات التي واجهوها في رواج افكارهم بالمجتمع العراقي تلخصت بكون الفرد فيه لا يعترف به كعضو اجتماعي الا من خلال مؤسساته العشائرية او العائلية والدينية التي احتكرتها القوى المحافظة . لذا تحمس المثقفون للدعوة الى بناء مؤسسات تعليمية وثقافية تعمل كأدوات لاشاعة مبادئ العلم الحديث ، وقيم الحضارة العصرية . فقد دعا يوسف غنيمة الى اقامة مكتبة عامة ، يكون اساسها المخطوطات الموجودة في المساجد والمكاتب الخاصة . وقام المثقف الكردي جمال الدين بابان بالدور نفسه من خلال مجلته "بانك الكرد" نداء الكرد التي اصدرها قبيل الحرب العالمية الاولى بمدة وجيزة ، وكانت تطبع ببغداد وتوزع من هناك بين مدن كردستان ، ومقالاتها المسهبة عن اهمية التعليم ودوره في حياة الشعوب . ومطالبتها للحكومة بالاهتمام بتأسيس المدارس.
لم يكتف المثقفون بحدود الدعوة ، بل بادر بعضهم بالفعل الى تأسيس مثل هذه المؤسسات، مثل عدد المدارس الحديثة التي حصلت على الدعم المالي من الاهالي ، ولاسيما مع استمرار ضعف ميزانية المعارف في عهد حكومة الاتحاديين التي تعرضت الى نقص كبير نتيجة قيامهم في بداية حكمهم باعادة تنظيم الميزانية العامة ، والعمل على زيادة وارداتها في محاولة لسد العجز الكبير الذي كانت تعانيه ميزانية الدولة بين عامي 1909 و 1910 ، حيث بلغ الدخل المقدر حوالي 25 مليون ليرة عثمانية ، بينا قدر قيمة الانفاق بـ 30 مليون ليرة عثمانية . اسس سليمان فيضي بتاريخ 27 تشرين الثاني سنة 1908 مدرسة "تذكار الحرية" ، درست فيها اللغات الغربية بشكل اساس ، وحققت نجاحا واعدا اذ وصل عدد طلابها سنة 1909 الى 130 طالبا ، مما اضطرهم الى الانتقال لبناية اوسع . كما قام كل من علي البازركان وجعفر ابو التمن بتأسيس مدرسة اهلية للعلوم الحديثة واللغات سميت بـ "مكتب الترقي الجعفري العثماني" وذلك في يوم 12 كانون الاول سنة 1908 ، مع العلم ان الدولة العثمانية قد منعت تاسيس المدارس الاهلية من قبل المسلمين دون موافقة السلطان عبد الحميد نفسه وذلك منذ سنة 1893 ، والذي استمر حتى قيام ثورة الاتحاديين في تموز العام 1908. كذلك انشأ سليمان الدخيل مطبعة الرياض في بغداد قبيل الحرب العالمية الاولى ، والتي قامت بطبع العديد من الكتب . واصدر سليمان فيضي جريدة "الايقاظ" بتاريخ الثاني من ايار سنة 1909 معلقا على ذلك في مذكراته : "ان الرغبة الملحة في القيام باعمال وطنية مفيدة كانت تتأجج في نفسي، فأزمعت على اصدار صحيفة حرة تنادي بالاصلاح ..." .
كانت هذه الرغبة الاصلاحية الملحة هي التي دفعت عددا من المثقفين الى التمسك باصدار صحفهم رغم الظروف المادية الصعبة التي جعلت الواحد منهم احيانا يجمع في شخصه بين المالك للصحيفة ورئاسة تحريرها والمخبر ومدير الادارة ، وقد يكون الموزع ايضا . وان محاولة اصلاح المجتمع ليتوائم مع المعايير الفكرية العصرية للمثقفين هو الذي وقف وراء محاولة مجلة "العلم" النجفية لصاحبها هبة الدين الشهرستاني الرامية الى تقديم المبادئ والقيم الحديثة القائمة على حرية الرأي ، بديلا عن القيم الاجتماعية السلبية ، والتي وضحتها في اول عدد لها حين قالت : "عاهدنا الله والبشر معا على ان لا نتحامل على احد سواء كان وثنيا او ماديا ام لا ادريا او الهيا ، حتى لا ننعت احدهم بكافر او زنديق او منافق وماضاهاها ، لان ذلك مناف لروح الاداب الصحيحة والاراء السديدة . وفضلا عن ذلك ان في عين العلم الحديث اليوم، والمدنية الحاضرة جميع البشر اخوة ، وعليه فان شاء الله ان كلمة كافر ، او ما شابهها لا يكون لها نصيب في مجتمعنا بعد اليوم" .
لقد حاول الشهرستاني افراغ ادوات النبذ التي ذكرها للقوى المحافظة من مضمونها لتعطيل مفعولها الاجتماعي . واعتقد مثل بقية المثقفين ان نجاح عملية نشر العلم ، واشاعة الثقافة في المجتمع العراقي كفيل بتحقيق ذلك .
كانت سياسة الاتحاديين الداخلية القائمة على التتريك ، والمتأتية من اعتقادهم بان تحديث الأُمة الواحدة يعفوهم من خطورة تحديث الأُمم ، إمتداداً لسياسة الباب العالي التي مارسها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، والتي اكدها السلطان عبد الحميد في معرض تبريره لتجميد الدستور واغلاقه مجلس المبعوثان بمذكراته حينما قال ما يأتي : "... ألم يكونوا يفكرون ان الدولة العثمانية دولة تجمع أمماً شتى ، والمشروطية في دولة كهذه موت للعنصر الاصلي في البلاد . هل في البرلمان الانجليزي نائب هندي واحد ، او افريقي او مصري ؟ وهل في البرلمان الفرنسي نائب جزائري واحد ؟ وهم يطالبون بوجود نواب من الروم والارمن والبلغار والصرب والعرب في البرلمان العثماني . لا ، لا استطيع أن اقضي على ابن الوطن الذي تعلم وفكر ووهب نفسه لقضيته . اقول: ان شباب تركيا الفتاة وببساطة قد خدعوا" . كما إن لغة التعليم في المدارس الحديثة بجميع مراحلها التي اسستها الدولة العثمانية منذ العام 1869 كانت اللغة التركية ، كذلك الحال في المحاكم التي كانت لغة التقاضي فيها باللغة التركية .
ادت هذه السياسة ، ومنذ وقت مبكر ، دورا عائقا امام انتقال المدنية الى الولايات العراقية الامر الذي نستدله من ملاحظة السائح الامريكي وليم بيري فوك الذي زار العراق عام 1874 ، والذي اشار الى انه "في بغداد يعتبر الطربوش دليلا على ان لابسه تركي" لذا قال : "... عندما كنت البس الطربوش واسير في شوراع بغداد كنت في بعض الاحيان الاحظ تجهما في وجه احد العرب اذا نظر اليّ..." . لكن المؤكد ان وضوح مخطط الاتحاديين لاعادة انتاج التجربة التحديثية الأوربية بثوب تركي عمل كمؤثر سلبي مربك ، واحيانا دور طارد للمكاسب الاجتماعية التي تحققت ، لا سيما تلك التي لم يمر عليها وقت كافٍ ، وكان لها في الوقت نفسه القابلية على تحديث المجتمع العراقي . على سبيل المثال عندما بدل الاتحاديون عام 1909 اسم مدرسة "تذكار الحرية" الى مدرسة " الاتحاد والترقي" ، وجعل التدريس فيها باللغة التركية حصرا سرعان ما اغلقت ابوابها بعدما فقدت حماسة ودعم اهالي البصرة لها.
بالنتيجة تعزز التصور لدى المثقفين بان الجانب الاكبر من مسؤولية بهاتة تأثير محاولاتهم الاصلاحية للمجتمع العراقي يقع على قصور سياسة الدولة التعليمية . الذي نفهمه من خلال ربط عبد اللطيف ثنيان بين فشل عملية التعليم الحكومي واستمرار سماع المثقفين تلك الالفاظ التي تؤول الى الكفر وشيوعها بين اغلب الناس ، اضف الى ذلك سياسة العثمانيين الطائفية التي لم تحبذ تسنم الشيعة المناصب الادارية ، إذ كان كل موظفي الدولة المدنيين في العراق بنهاية العهد العثماني من المسلمين السنة تقريبا ، ولم تشجع الدولة الشيعة على الدخول في المدارس الحكومية ، فعلى سبيل المثال حرمت ولاية البصرة من اي مدرسة اعدادية حتى شهر ايلول سنة 1914 ، ناهيك عن الفارق الكبير في عدد مدارسها الحكومية مقارنة بولايتي بغداد والموصل ، بل ومنعتهم من دخول المدارس العسكرية. ساهمت هذه السياسة والى حد كبير في تعميق فشل التعليم الحكومي، وعدم اشاعة مبادئ القيم الحديثة ، مما سهل للقيم السلبية ان تتشبث بسلطتها الاجتماعية ، ولا غرو ان هبة الدين الشهرستاني فقد في ظل هذه الاوضاع باقراره هو الكثير من مكانته وعلاقاته في الوسط الاجتماعي منذ اصداره مجلة "العلم" .

عن رسالة ( البنية الاجتماعية والاقتصادية في العراق )