بيتهوفن وغويا.. وثائقية نبذ الحروب

بيتهوفن وغويا.. وثائقية نبذ الحروب

سلوى جراح
حين هزم نابليون بونابرت في معركة واترلو ونفي إلى جزيرة سانت هيلانة، صار بالنسبة لشاعر الرومانسية الانكليزي اللورد بايرون 1788 ــ 1824 رمزاً متكاملاً لشخصية البطل الرومانسي، المظلوم، المنبوذ، الوحيد، رغم عبقريته، وشاركه الرأي الكثير من البريطانيين متناسين انتصارات بطلهم الدوق ويلينغتون على أعظم وأشهر القادة العسكريين في التاريخ الحديث، حتى أن كلمة واترلو دخلت القاموس الإنكليزي لتعني النهاية التي لا بداية بعدها.

لكن معركة واترلو لم تكن هزيمة بونابرت الوحيدة، فقد واجه قبل ذلك هزيمة من نوع مختلف أمام بعض عباقرة الفن من معاصريه. ففي عام 1804، حين أعلن نفسه إمبراطوراً على فرنسا، أمسك بيتهوفن، بالصفحة الأولى التي تحمل عنوان سيمفونيته الثالثة (البطولة)، وراح يشطب بقوة وغضب اسم بونابرت حتى تمزقت الورقة.

كان بيتهوفن يسحب إهداء سمفونيته للقائد العسكري الفذ الذي اعتبره يوماً، بطلاً قومياً، لما حقق من انتصارات لفرنسا، بعد أن أصبح هذا البطل، امبراطوراً على جمهورية، انبثقت من ثورة كانت مناراً للفكر والفلسفة الرافضة للحكم المطلق، في آواخر القرن الثامن عشر. قد يكون نابليون الاول، امبراطور فرنسا، شعر بشيء من الأسى أن لا تكون سيمفونية بيتهوفن الثالثة، مهداة له هو، لكن ذلك لم يثنه عن الجلوس على عرش الإمبراطور، لإحدى عشرة سنة، أو يوقف حروبه النابليونية على كل دول أوربا حتى كاد جيشه أن يتلاشى بين ثلوج سايبريا. بعد ذلك أهدى بيتهوفن السمفونية الثالثة، إلى الأمير جوزيف فرانز فون لوبكويتز، وعُزفت في قصره لأول مرة.
بيتهوفن والتنوير
كان لودفيك فان بيتهوفن 1770 ــ 1827 ميالاً إلى أفكار ما يعرف بحركة التنوير، التي بدأها في أوروبا، مثقفو القرن الثامن عشر، بهدف إصلاح المجتمع وتطوير المعرفة عن طريق العلم واعتماد المنطق المتسامح القابل للنقاش بدلاً من الأسس التقليدية المرتبطة بالكنيسة. وعليه لم يعر أهمية للمراتب الاجتماعية أو رجال السلطة. كان يتوقف عن العزف على البيانو في حفلات القصور إذا أحس أن الحضور، وهم من علية القوم، لا يعيرونه اهتمامهم الكامل، ويتحدثون أثناء عزفه. كما كان يرفض تماماً أن يدعى للعزف لمجرد وجوده في حفل ما، دون أن يكون هناك اتفاق مسبق. كان يريد أن يفهم الجميع أنه لا يلتزم بأعراف البلاطات الملكية. البعض قبله كما هو، وآخرون انشغلوا عنه بتوسيع نفوذهم وملكهم. وحين وصلته أنباء هزيمة جيوش نابليون على يد القائد العسكري البريطاني، الدوق ويلنغتون، كتب السيمفونية المعروفة باسم انتصار ويلينغتون وعزفت لأول مرة مع سيمفونيته السابعة في حفل خيري لضحايا الحرب، ولاقت نجاحاً كبيراً وأعيد تقديمها مرات عدة.
نابليون عدو الفن
حين غزا نابليون بونابرت إسبانيا عام 1808 واحتلها حتى عام 1815 لم يخطر بباله أن غزوه لإسبانيا سيخلد بأي طريق، سوى انتصاره وتنصيب أخيه جوزيف ملكاً عليها، وكانت آخر همومه الحركة الفنية والأدبية في اسبانيا أو في أي من دول أوروبا التي وقعت تحت سيطرته. بل لعله كان يشعر بشيء من العداء لأهل الفن بعد ما حدث له مع بيتهوفن. لكن فناناً آخر، عرف بتمرده ورفضه لكل ما هو متعارف عليه، تصدى له، وفضح وأرخ فضائع حربه الطويلة مع المقاومة الشعبية الإسبانية. رسام ونقاش على الحجر، استهزأ بطبقة النبلاء الإسبانية، ورسم أربعة من ملوك إسبانيا في لوحات يراها العديد من خبراء فن القرن التاسع عشر، شكلاً من أشكال الكاريكاتور. فرانشيسكو دي غويا 1746 ــ 1828، رسام البلاط الإسباني آنذاك، والفنان الأكثر نجاحاً وعصرية في إسبانيا، الذي يعتبر آخر الرسامين التقليديين وأول الرسامين الحداثويين، وتأثر به بعض رواد المدارس الفنية المهمة مثل مانيه وبيكاسو. أجاد غويا التعبير عن أحداث عصره المهمة، وعكس في لوحاته الاضطرابات السياسية والاجتماعية، وخلد في العديد من لوحاته الفضاعات التي ارتكبها جيش نابليون في إسبانيا، التي ثارت ضد الفرنسيين. مواطنون يعدمون بالرصاص أمام جدار، ووجوه تحكي عن الرعب من المحتل وتشكو ظلمه. لكن أقوى ما رسمه غويا لتوثيق غزو بونابارت لإسبانيا هو اللوحات المطبوعة من حفر على الحجر، والتي تحمل إسم مآسي الحرب أنجزها عام 1810. ثمانون لوحة تصور معاناة الشعب الإسباني على يد الجيش الفرنسي الغازي، بعضها مخيف ومرعب، يصور بشاعة ما يمكن أن يرتكبه البشر بحق من هم أضعف منهم، القتل والتعذيب وتقطيع أشلاء الأحياء، المجاعة التي ضربت مدينة مدريد قبل تحريرها من الاحتلال الفرنسي ثم ما حدث بعد ذلك حين رفضت اسرة البوربون الحاكمة في فرنسا بمساعدة الكنيسة، الدستور الإسباني لعام 1812. لوحات لعب فيها فن غويا دور الكاميرا التي تسجل الأحداث.
في الخامس من شهر مايو/ أيار عام 1821 توفي بونابارت ودفن في منفاه في قبر لا يحمل اسماً بعد خلاف حول ما يجب أن يكتب على القبر. وبعد تسع عشرة سنة طلب ملك فرنسا، لوي فيليب الأول من الحكومة البريطانية السماح بنقل رفات بونابارت إلى فرنسا. واقيمت له جنازة رسمية سارت في شوارع باريس ومرت من تحت قوس النصر الشهير الذي بناه بونابارت تخليداً لانتصاراته ليدفن تحت قبة المركز القومي الفرنسي الذي يضم كل تراث فرنسا العسكري.
يحاور عبر الكتابة
في عام 1824 فقد بيتهوفن القدرة على السمع بشكل كامل لدرجة أنه حين قاد الفرقة السمفونية لعزف سيمفونيته التاسعة، لأول مرة، والتي تتضمن غناءً كورالياً لقصيدة نشيد الفرح لشاعر المانيا فردريك شيلر، طُلب منه أن يستدير ليواجه الجمهور ليرى التصفيق الحاد الذي لم يكن قادراً على سماعه. بعد ذلك توقف عن العزف على البيانو في الحفلات العامة. مشكلة ضعف السمع بدأت مذ كان في السادسة والعشرين من عمره، يعزوها البعض لالتهاب مزمن في الأذنيين ربما سببته عادته في تغطيس رأسه في وعاء مليء بالماء ليبقى صاحياً معظم الليل. على مر السنين صار يستعين بأبواق يضعها على أذنيه تساعده على تحسين سمعه.
في السنوات العشر الأخيرة من حياته كان يستعين بالكتابة في دفتر صغير يحمله معه ليتحاور مع أصدقائه. وبقيت هذه الدفاتر التي تصل في مجموعها إلى أربعمئة، مصدراً غنياً لحوارات شيقة عن موسيقاه وأرائه الفنية والطريقة التي يريدها لعزف موسيقاه. في عام 1847 نشرت لوحات غويا المطبوعة بعد خمس وثلاثين سنة على إنجازها بسبب المخاوف من أن تثير المشاكل لأنها كانت تنتقد نابليون وعائلة البوربون التي حكمت فرنسا بعده. خاصة أن لوحتيه الماها العارية و الماها بملابسها، أدت إلى استدعائه للاستجواب والتحقيق أمام لجنة خاصة عام 1815، لأنهما اعتبرتا خروجاً عن العرف والآداب. كان هو الآخر قد أصبح أصماً بشكل كامل نتيجة مرض أصابه قبل سنين. بعدها هاجر غويا إلى فرنسا عام 1824 وتوفي فيها.

عن صحيفة الأتحاد الاماراتية