احمد الخليل: نضج في معارف بغداد وفنونها ومات منسيا في حصارها

احمد الخليل: نضج في معارف بغداد وفنونها ومات منسيا في حصارها

علي عبد الامير
ليس مفارقة ان يكون العراق في اوائل خمسينيات القرن الماضي، مندفعا الى مدنيته على نحو مطرد، فيما اغنيته كانت تحيا زهوها الجمالي والانساني، وتحديدا في صورة جيل ملحنين وصانعين للانغام، اعلوا صورة التحول المدني هذا في عملهم، فكان الملحن وصانع الانغام والمطرب ان شئت، احمد الخليل واحداً من جيل الملحنين في عقد الخمسينيات من القرن الماضي، الذين شيدوا الملمح الاساس في الاغنية البغدادية، الى جانب عباس جميل، محمد نوشي، رضا علي وغيرهم، ممن استمر عطاؤهم إلى اكثر من ربع قرن لاحقا.


ومثل كثيرين كانت بغداد نجمة يسحرهم ضؤها المتوهج، جاءها احمد الخليل المولود في منطقة ( بادينان) التابعة لقضاء دهوك الكردية العام 1922، ليتعرف في اجواء معرفتها الطافحة والمتحركة بقوة، والمتطلعة بشوق الى المستقبل، على الالحان العراقية الاصيلة المتمثلة بالمقامات، ثم بالالحان المعاصرة كما في انغام الموسيقارين الراحلين محمد عبد الوهاب وفريد الاطرش، وعبر افلامهما التي كانت يتابعها بشوق وشغف كبيرين، لاسيما ان صالات العراض السينمائية ببغداد، كانت تتسابق لعرضها.
وشكل مع أخيه الموسيقي، ضابط الأيقاع، إبراهيم الخليل، الذي كان ضمن فرقة خماسي الفنون الجميلة، وعضواً في فرقة الأذاعة والتلفزيون، وفرقة التراث، وأستاذاً في معهد الفنون الجميلة، ملمحا خاصا في فترة موسيقية عراقية شديدة الخصوبة.

للفن الجميل، فسحة واسعة ببغداد
دخل احمد الخليل، الاذاعة العراقية والتي كانت تسمى بـ"الاذاعة اللاسلكية" سنة 1950، وكان نشاطه الموسيقي والغنائي واسعا، في تجسيد لسعة الفسحة التي كانت بغداد الخمسينيات توفرها للفن الجميل والتعبير الراقي بالانغام.
وكانت حفلاته تتوزع يوميا داخل ستديو الموسيقى في الاذاعة وخارجها، حيث انشطته الغنائية في النوادي الاجتماعية البغدادية : العلوية، النفط، المحامين، ومسرح معرض بغداد الدولي، وحتى صالات السينما التي تتحول احيانا مسارح غنائية لحفلات تحييها اسماء مرموقة في الغناء العراقي والعربي .
غنّاه " يا موطني"، لكن العراق طواه بلا رحمة
التماس الاول للخليل مع المشاعر "الوطنية" لجهة تحويلها الى انغام والحان واغنيات، كان حين شارك صحبة المطربين العراقيين: خزعل مهدي، حمدان الساحر، عباس جميل، يحيى حمدي، احمد سلمان، جميل جرجيس، محمد عبد المحسن، جميل قشطة وغيرهم في حفلات لـ"الترفيه غنائياً" عن الجيش العراقي في حرب فلسطين سنة 1948 .
غير ان التماس الاكثر اهمية وحيوية مع الافكار والمبادىء "الوطنية"، كان مع تصاعد المد "الثوري" عقب 14 تموز 1958، بل هناك من وصفه، "مطرب ثورة تموز وملحنها" اذ تبناها منذ انبثاقها، ليتوج ذلك التماس والتواصل الحي، بنشيد ما انفك الى اليوم عميقا ومؤثرا : "يا موطني".
ولان الخليل، كان مؤمنا بان كرديته جسر الى هوية عراقية متعددة الملامح، لذا حضرت "الاخوة العربية الكردية" في نشيده "الوطني" المهم الثاني، وليصبح "هربجي.. كرد وعرب رمز النضال" رمز "وطنية عراقية" في سياق موسيقي، جمع حين قدم للمرة الاولى، عام 1959 بين الوجدان والقوة والفخامة في المعنى والالحان.
وثالث اناشيده، كان "أمتي .. يا أمة الأمجاد"، الذي قدمه ضمن سياق ثقافي عراقي وعربي واسع رافض لهزيمة حزيران سنه 1967 امام اسرائيل، وكان يبث من الأذاعات العراقية العربية، فيما نصه الشعري يتوافق مع لحن ابدعه الخليل مرة اخرى وحسب معادلة شخصية تجعل المشاعر "الوطنية" في اطار من الرؤية "العاطفية"، وليس عبر الحماسة الفجة الصارخة، حتى وان بدا عليها النص الشعري للمصري الراحل مصطفى عبد الرحمن:
أمتي... ياأمة الأمجاد والماضي العريق
يانشيداً في دمي يحيا ويجري في عروقِ
أذن الفجر الذي ..شق الدياجي بالشروقِ
وطريق النصر قد لاح فسيري في الطريق
وعلى جاري العادة العراقية في التنكر للباذلين ارواحهم وفكرهم ومعرفتهم لوطنهم، جاء الرد على نداء الخليل " يا موطني"، مزيجا من الانكار لجهده الفني الراقي تجاه العراق وثقافته المعاصرة، والخذلان لمن ظل امينا على "وطنية" سحقتها سلطات القمع والحروب والحصار، فقد رحل احمد الخليل في 31/10/1998، بعد معاناة طويله مع المرض، تاركا حصيلة من جواهر اغنيات بغداد والعراق "العاطفية" و"الوطنية ".

صانع الجواهر اللحنية والصوتية
تتسم ألحان الخليل، بـ"رقة الاحساس وعذوبة النغم، وببناء لحني يتسم بالسلاسة، ومع ما كان يمتلكه من أمكانات صوتية تتسم بالقوة والسعة والعذوبة، التي عبّر عنها بمجموعة من الاغنيات التي ترسخت في الذاكرة البغدادية، سعى ككل أبناء جيله الى البحث عن أصوات أخرى تغني من الحانه التي تختزنها روحه المترعة بالموسيقى والغناء وحب الحياة والوطن، مما دعاه الى البحث عن هذه الاصوات، كأي كشاف ينقب عن الجواهر، وقد قاده بحثه هذا الى أكتشاف مجموعة من الاصوات الغنائية تربعت فيما بعد على هرم الاغنية العراقية الحديثة".
ومن الاغنيات التي منح ألحانها لصوته العريض النبرات، ولكنه الذي لا يخفي طراوة هي من عمق العاطفة فيه، "أنا شسويت يا حبابي هجرتوني"، "كولولة الكلب يهواك"، "شبيدج على أمر الله يا روحي"، "أغني وبالكلب نيران تلهب"، "ولفي الغدار"، "خطاف الكلوب"، "بين دمعة وابتسامة"، "يالبدر نّور على درب الحبيب"، "لا تنسى حبيب الروح"، فضلا عن اناشيده الوطنية الثلاثة.
ومن ألحانه التي صارت اعذب الاغنيات باصوات مطربات ومطربين، يمكن الاشارة الى ما غنته المطربة الراحلة عفيفة اسكندر، "يا حلو كلي شبدلك "، "يا حلو يا أسمر "، "اريد الله يبين حوبتي بيهم "، "حركت الروح لمن فاركتهم "و "بعيونك عتاب". والنظرة التحليلية لتلك الالحان تظهر التنوع والغنى في خزين الخليل الموسيقي، فمن الخفة والرشاقة التي ادخلها على لحن قصيدة " يا حلو يا اسمر"، الى التعبيرية العميقة في لحن شجي منحه لاغنية "بعيونك عتاب".
ولمبدعة الصوت النسائي العراقي، مائده نزهت، قدمت الحان اغنياتها : "فد يوم"، "كذاب الاسمر"، "كالو حلو"و "يلي تريدون الهوى ".
كما غنى من الحانه، المطربة احلام وهبي، والمطرب رياض احمد ، واعاد بعض الاغاني التراثية التي غنتها بالاصل، زكية جورج بلهجتها السورية، ليقدمها بصوت المغنية أنوار عبد الوهاب مثل "كلبي خلص والروح"، و" أنا من أكولن آه" .
ومثل كثيرين من رموز الفن العراقي المعاصر، غناء وتلحينا، وتمثيلا وحتى اخراجا اذاعيا وتلفزيونيا، كان أحمد الخليل قد منح الاثير الموسيقي، الالحان المتميزة والغناء العذب الشجي على الرغم من انه لم يدرس الموسيقى او الغناء، وانما أعتمد على موهبة فذة، أعلنت عن نفسها، ملمحا عميقا في صورة الغناء العراقي المعاصر، وفي تاريخ بغداد الموسيقي بخاصة، التي كانت الحاضنة الروحية له ولزملائه من المبدعين الذين أسهموا في صنع ذاكرة المدينة يوم كانت مدينة حقا، وليس التي منحته البؤس والضنك قبيل مماته.